رعب تشيرنوبل الذي فاق خيال البشر
أعاد المسلسل التليفزيوني “تشيرنوبل” إلى الأذهان تلك الكارثة النووية التي شهدها الإتحاد السوفيتي السابق عام 1986، وفي هذا المقال نسترجع معكم اولا ما حدث في ذلك اليوم المشئوم، ثم نأخذكم في جولة في موقع الحدث كما يبدو اليوم.
تشيرنوبل المكان هو واحد من تلك المواقع التي يتوقف فيها التاريخ، وتظهر فيه قيمة الأثر، مثلها مثل مدينة بومبي الشهيرة، مكان تجمد عنده الزمن. أما تشيرنوبيل الحدث فقد كتب بأحرف مشعة في سجل ضم أحداثاً على شاكلة الجلاسنوست” و”البيريسترويكا” و”انهيار حائط برلين” . أحداث ألقت بظلالها على القرن العشرين، وساهمت بصورة كبيرة فيما نشهده اليوم من واقع مغاير.
كيف حدثت كارثة تشيرنوبل ؟
الزمان يومي الخامس والسادس والعشرين من أبريل عام 1986، موعد البشرية مع أسوأ كارثة نووية في زمن السلم. لسوء الحظ وأثناء إجراء إحدى عمليات الصيانة الروتينية لأحد المفاعلات النووية الأربعة في محطة الطاقة النووية في تشيرنوبل شمال أوكرانيا، انتهك العمال بروتوكولات السلامة، وعلى الرغم من المحاولات الرامية إلى إغلاق المفاعل، أدت سلسلة من ردود الفعل غير المحسوبة في حدوث عدد من الإنفجارات داخل المفاعل المنكوب، وفي نهاية الأمر، حدث الكابوس الأسوأ لكل الذي طالما تخوف منه المختصون في مجال الطاقة النووية. انكشف قلب المفاعل للهواء الجوي مباشرة وبدأت المواد المشعة تأخذ طريقها إلى الغلاف الجوي.
كما هي عادتها طوال سنوات الحرب الباردة مع المعسكر الغربي حينها، حاولت السلطات السوفيتية إبقاء الأمر طي الكتمان. لكن الوقت كان قد فات، وحين وصلت الإشعاعات المتسربة من المفاعل محمولة عبر تيارات الهواء والسحب إلى دولة السويد، بدأ المسؤولون في محطاتها النووية يسألون عما يحدث في الجوار السوفيتي. أخيراً وبعد ثلاثة أيام من التعتيم أدلى السوفييت أخيراً بإعلان موجز عن الحادث في الثامن والعشرين من أبريل. كانت تلك لحظة فاصلة في كل من الحرب الباردة وتاريخ الطاقة النووية. واليوم وبعد مرور أكثر من 30 عاماً جاءت تقديرات العلماء لتخبرنا أن المنطقة حول المصنع السابق لن تكون صالحه للسكن قبل مرور ألفي عام فقد كانت تلك لحظة فاصلة في كل من الحرب الباردة وتاريخ الطاقة النووية.
الإطفاء ثم الإخلاء.
في البداية حاول رجال الإطفاء إخماد سلسلة من الحرائق المشتعلة في المفاعل، لكن مع صعوبة السيطرة على الوضع تم اللجوء إلى المروحيات التي قامت بإلقاء كميات كبيرة من الرمل والمواد الأخرى بغرض إخماد الحرائق تماماً ومحاولة إحتواء التلوث. توفي شخصين في الانفجارات، وتم نقل عدد من العمال ورجال الإطفاء إلى المستشفى، نتيجة تعرضهم لمستويات خطيرة من الإشعاع أدت إلى وفاة الكثير منهم لاحقاً . ورغم الخطر الناجم عن التداعيات والحرائق، إلا أنه لم يتم إخلاء الأهالي من المناطق المجاورة-بما في ذلك مدينة بريبيات القريبة ، التي بنيت في السبعينات لإيواء العمال في المصنع- إلا بعد مرور 36 ساعات بعد بدء الكارثة. بعدها تم إنشاء منطقة محظورة بلغت (2,600 كيلومتر مربع) بسرعة حول تشيرنوبل ومدينة بريبيات . وتم إجلاء أكثر من 100,000 شخص بصفة دائمة، وتم هدم أكثر من مائة مستوطنة بشرية في المنطقة .
كارثة تاريخية.
.وسرعان ما أدرك العالم انه يشهد حدثاً تاريخياً. فقد تسرب إلى لغلاف الجوي ثلاثين بالمائة من كمية اليورانيوم الموجود داخل مفاعل تشيرنوبل وقتها والبالغة 190 طنا . لقي 28 شخصاً حتفهم في البداية نتيجة للحادث، بينما أصيب أكثر من 100. وأفادت لجنه الأمم المتحدة العلمية المعنية بآثار الإشعاع الذري بأن أكثر من 6,000 من الأطفال والمراهقين أصيبوا بسرطان الغدة الدرقية بعد تعرضهم للإشعاع من الحادث في حين أضاف بعض الخبراء الدوليين إلي قائمة الضحايا حوالي 5,000 شخص ممن تعرضوا لمستويات منخفضة من الإشعاع وقد يعانون من نفس المصير. ومع ذلك، فان النتائج الكاملة للحادث ، بما في ذلك الآثار علي الصحة العقلية وحتى الأجيال اللاحقة، لا تزال موضع نقاش ودراسة مستفيضة. واليوم فإن ما تبقى من المفاعل، قد تم احتوائه داخل هيكل ضخم من الصلب تم إنشاؤه في أواخر 2016. وتتواصل جهود الإحتواء والرصد ومن المتوقع أن تستمر عملية التنظيف حتى 2065 على الأقل.
غاب البشر وانتعشت الحياة البرية.
ورغم الهدوء المخيف الذي تبدو المنطقة المحظورة، إلا أنها بالفعل تعج بالحياة التي ازدهرت في غياب البشر في السنوات التي أعقبت الكارثة، فقد عادت الأشجار للنمو وازدهرت بعض أنواع الحياة البرية في المنطقة في السنوات الأخيرة، وفي 2015، لاحظ العلماء زيادة أعداد الأيائل في المنطقة كما أن عدد الذئاب في المنطقة المحظورة بلغ سبع أضعاف مثيلتها في المناطق القريبة، لكن آثار التلوث الإشعاعي في المنطقة كانت أيضاً واضحة، حيث زادت حالات إعتام عدسة العين والبرص لدى الحيوانات التي ما زالت تعيش هناك، كما لوحظ انخفاض معدلات البكتيريا النافعة في التربة.
سياحة الكوارث
تشيرنوبل اليوم ليست قفراً تسكنه الأشباح كما يتبادر إلى الذهن، فقد عاد البشر إلى المنطقة بعد غياب، فعندما تصل إلى هناك اليوم سوف تجد أمامك مجتمعا محليا من 2,000 شخص يعيشون في المنطقة، بينما تقوم مجموعة من الشركات الفرنسية بإنشاء إطار عازل حول المحطة النووية المهجورة ويعمل في المشروع قبالة 6,000 شخص، كما تشهد المنطقة توافد آلاف من السياح القادمين إلى المنطقة كل عام. ولا يزال أثر الكارثة على الغابات والأحياء البرية المحيطة بها أيضا مجالا للبحوث. ففي أعقاب الحادث مباشرة، أصبحت منطقة مساحتها حوالي أربعة أميال مربعة تعرف باسم “الغابة الحمراء” فقد تحولت العديد من الأشجار قبل موتها إلى اللون البني المحمر بعدما استوعبت مستويات عالية من الإشعاع.
هل استوعبنا الدرس؟
وكان لكارثة تشيرنوبل تداعيات أخرى: فقد أدت العواقب الاقتصادية والسياسية إلى نهاية الجمهورية الاشتراكية السوفياتية، في حين تصاعدت صيحات مناهضي الطاقة النووية حول العالم، قدرت الخسائر المادية للكارثة بما يقراب 235 مليار دولار، وفقد فقدت جمهورية روسيا البيضاء 23 في المائة من أراضيها نتيجة تلوثها بالإشعاع.
واليوم، وبينما تعلن تشيرنوبل عن نفسها كمقصد للسائحين المفتونين بتاريخها الخطر كرمز للدمار المحتمل بسبب الطاقة النووية، إلا أن روسيا ما زالت أسيرة الكارثة أو بالأحرى أسير لتلك التكنولوجيا العتيقة لذلك النوع من المفاعلات النووية سيئة السمعة فحتى اليوم ونحن في عام 2019 ، لا يزال هناك 11 مفاعلاً من نوع RBMK قيد التشغيل في أرجاء البلاد.