انمساخ الذات: قراءة تحليلية في رواية “فرانز كافكا”
دعونا نتفق من البداية بأنه على أي قارئ يهتم بقراءة أي شيء عن أو لكافكا بما فيهم هذا المقال، أن يتأكد أولًا أنه يستوفي شرطين أساسيين لضمان نجاح تجربته القرائية الكافكائية، أولهما: أن يكون على أتم الاستعداد النفسي لتلقي وابلًا من المشاعر التي ستغزو قلبه وتعبث باستقراره، وثانيًا: ألا يكون ممن يرون الحياة بعين واحدة، بالعين التي لا تعكس إلا ألوان التفاؤل والخير والسعادة، هذه العين صفر على الشمال إذا ما حاول القارئ الاعتماد عليها في قراءة فرانز كافكا. في الحقيقة إنه لن يرى شيئًا، سيكون هو والأعمى سواء.
يحتاج فرانز كافكا إلى قارئ ذاق مرارة تجربته الاغترابية فيرى في كافكا محاميه الأدبي الذي سيعري كل جوانب تجربته ويفضح مشاعره البائسة، يسمع بين كلماته صوته الذي لم يخرج جدران صدره، إنه يسمع هذا الصوت الآن بوضوح عالٍ، عالٍ جدًا وهو يقرأ أحد روايات كافكا، هذا الصوت حوله كافكا إلى صوت قابل للقراءة، إن هذا الصوت المقروء هو صوته الذي لم يستطع رفعه والآن يصدره كافكا بالنيابة عنه في قصصه ورواياته.
إن فرانز كافكا في رائعته الأدبية “المسخ” يكتب ما لا نجرؤ على الإحساس به فضلًا عن الإفصاح عنه أو الاعتراف به، كم واحد منا شعر بالاغتراب في محيطه وهرب من هذا الشعور واهمًا نفسه بأنها حالة عابرة أو وساوس شيطانية فاستعاذ منها؟
يقول فرانز كافكا:
إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طردنا إلى الغابات بعيدًا عن الناس.
ويقول أيضًا:
على الكتاب أن يكون كالفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا. وأنا أجزم بأن كافكا كان يشير بوعي أو بدون وعي، بقصد أو بدون قصد إلى روايته المسخ ؛ فمن قرأ هذه التحفة الأدبية الفلسفية قراءة حقّة سيلمس تجانسًا بينها وبين الاقتباسين السابقين.
فك رموز تحول غريغور إلى حشرة
يستيقظ بطل رواية المسخ غريغور سامسا ذات صباح على غير هيئته المعتادة، انتفاخ في البطن مع تقوسات أفقية داكنة اللون، تتفرع منه سيقان رفيعة، كل ملامحه الجديدة تؤكد بأنه قد تحول إلى حشرة كبيرة (١). عاد إلى النوم ثانيةً واهمًا نفسه بأنه مجرد كابوس، وأثناء نومه حاول أن يتقلب إلى جانبه الأيمن كما اعتاد على ذلك من قبل فإذا به يعود إلى موضعه السابق، مستلقيًا على ظهره من جديد (١) كأنه صخرة سيزيف التي كلما حاول سيزيف دفعها إلى قمة التل تتدحرج إلى الخلف، إلى حيث كانت، غير مبالية بجهوده الهائلة في تحريكها.
مشهد عبثي سريالي إذا ما حاولت رسمه في مخيلتك، حدث لامعقول وغير منطقي لكنه يرمز ويوحي بشيء حقيقي وواقعي جدًا. انسلاخ الذات عن صاحبها! إن غريغور بوضعه الحالي الجديد ليس هو غريغور الموظف أو التاجر المتجول الذي يملك كل المقومات النفسية والجسدية لتأدية واجباته ومسؤولياته، إنه العجز في أوج مراتبه! وليس عجزًا بيولوجيًا أو جسديًا بل عجزًا ذاتيًا، عجز الذات الأصيلة عن التفاعل والاتصال مع الموضوع أو العالم الخارجي (مع عائلته، وظيفته، كبير الموظفين الباشكاتب ومجتمعه ككل) مما يسفر عن استحالة انوجاد هذه الذات في حضور الذوات الأخرى في العالم.
و نجد ذلك جليًا في غموض التواصل بينه وبين عائلته ومسؤول الموظفين الباشكاتب عندما اعتذر غريغور لكبير الموظفين عن تأخيره عن العمل قائلًا: “لكن يا سيدي سوف أفتح لك الباب في الحال، إن وعكة صحية ألمت بي، نزلة برد شديدة أصابتني وهي ما أعاقتني عن النهوض ومازلت مستلقيًا على السرير”(١). ورد عليه الباشكاتب مشككًا في معنى الكلام الذي سمعه: “هل من أحد فهم أي كلمة مما قاله غريغور؟ لعله يحاول خداعنا، هل أنتم واثقون أنه لا يحاول ذلك؟”(١) حتى أنه قال بأن صوته ليس بشريًا (١)، كل محاولات غريغور في النهوض من فراشه آلت بالفشل “فكر بمغادرة الفراش بالجزء الأسفل من جسده أولًا. إنه لم يره ولا يعرف عنه أي شيء ولكنه على كل حال لم يتمكن من الحركة وثبت عنده صعوبة الحركة وبطؤها الشديد” (١). وهي إشارة أخرى من كافكا يحاول من خلالها أن يخبرنا بأن الإنسان المغترب ذاتيًا عن مجتمعه وعالمه الخارجي تصبح أبسط المهام اليومية بالنسبة له أشبه بالمهمة المستحيلة، إنه ببساطة لا يستطيع المضي والاستمرار في هذا العالم بشكل طبيعي.
غريغور رمز للبروليتاريا
بالرغم من المصيبة التي حلت بغريغور إلا أنه كان قلقًا جدًا من أن يفوته القطار فلا يتمكن من الذهاب إلى عمله في الوقت المحدد “القطار التالي سينطلق في السابعة تمامًا، وليس لديه متسع من الوقت، عليه الانطلاق بسرعة جنونية وغير اعتيادية للحاق به قبل الانطلاق”(١)، وتوقع غريغور أن يزوره شخص ما من العمل ليستفسر عن سبب تغيبه عن العمل وهو ما حدث بالفعل “لقد كان الباشكاتب نفسه، يا له من قدر أن يقضى عليك بالعمل في المتجر حيث يثور حولك أشد أنواع الارتياب تزمتًا لأقل إهمالًا! هل المواطنون جميعًا وبصفة خاصة مجرد أوغاد لا يوجد بينهم أبدًا ولو رجل واحد فقط مخلص في تفانيه، رجل على الرغم من أنه قد يضيع ساعة أو نحوها من وقت عمل المتجر ذات صباح فإنه يكاد يفقد صوابه تحت وطأة عذاب الضمير وهو غير قادر رغم ذلك على أن يبارح فراشه” (٢).
لقد كان غريغور موظفًا متفانيًا في عمله لكن ذلك لم يشفع له عند أول تقصير بسيط لا إرادي صدر منه حيث اتهمه كبير الموظفين بالإهمال والاستهتار أمام أسرته (١)، حتى عائلته هي الأخرى لم ترحمه بقلة اكتراثها واهتمامها به بل واحتقارها له. إن غريغور كان المعين الأساسي لأسرته ومصدر رزق رئيسي لها وبعد مسخه إلى حشرة فقدت العائلة مصدر رزقها الوحيد وأصبح لا قيمة له في نظرهم، بل وحاولوا التخلص منه بأي طريقة كانت “علينا التخلص من هذا المخلوق الوحش، حاولنا العناية به، واحتملناه قدر استطاعتنا وصبرنا غاية الصبر، وقمنا بعمل إنساني نحوه”، وأيد الوالد سامسا ابنته غريت قائلًا: “إنها على حق، إلى أبعد الحدود”(١). وهنا يكشف لنا كافكا عن بشاعة وجه العالم – والذي يتمثل جزءٌ منه في أسرة غريغور- واستبداد النظام الرأسمالي فيه والذي يخلق من المرء ترسا في آلة ويختزل قيمته في مدى فعالية وكفاءة تلك الآلة.
الظواهراتية عند غريغور
نلمس في رواية المسخ بُعدًا فلسفيًا ظواهراتيًا؛ فتجربة تحول غريغور تحمل بعدين أو طرفين متقابلين، الذات وموضوعها الخارجي، إن غريغور يشاركنا مشاعره وهواجسه استنادًا إلى ظواهر العالم الخارجي. إن سلوك “جريجور النفسي لا يتجه إلى ذاته فقط إنه يتجه إلى الآخرين من حوله ولهم فقط”؛ فغريغور يصور لنا نفسه عبدًا لوظيفته التي لولا ديون والده لاستقال منها وهو يرى بأن اليوم الذي سيتمكن فيه من تسديد ديون والده سيترك عمله فورًا وسيكون هذا اليوم بمثابة يوم عتق رقبته أو استعادة حريته “يستلزم مني خمس سنوات إلى ست، لاسترد حريتي”(٣). وهنا نجد بأن سامسا قد ربط عبوديته (الذات) بعمله أو وظيفته (العالم أو الموضوع الخارجي).
فرانز كافكا بطل روايته
ربما تعجب بعض القراء من إطالتي في الحديث عن فرانز كافكا في بداية المقال بل ونسبة الرواية إليه بدلًا من تسميتها باسمها الحقيقي. المسخ أو التحول وغيرها من عناوين الرواية الأخرى ولكن أعتقد بأن القارئ الذي وصل إلى هذه السطور الأخيرة من المقال زال عنه العجب جزئيًا على الأقل أو كليًا.
من يعرف فرانز كافكا ويقرأ له لا يخفى عليه أن غريغور هو فرانز كافكا نفسه، كافكا المغترب عن أسرته “بالتأكيد إنكم جميعا غرباء عني، إن الدم هو الشيء الوحيد الذي يربطنا” (٤)، كافكا الذي كان يكره وظيفته كموظف في شركة تأمينات “إن عملي أمر لا يحتمل بالنسبة لي” (٤). ويعزو جزءً من هذا الكره إلى النظام البيروقراطي الذي جرده من ذاته وإنسانيته، “كان كافكا الموظف في الجهاز البيروقراطي مجرد ترس من تروس تلك الآلة القدرية التي تطحن الإنسان وتسحق ميزاته الفردية وكان أداة للغربة من خلال عمله الذي يكفل له العيش ويقتله رويدًا رويدًا كل يوم”.(٥)
إن انمساخ الذات ما هو إلا مسخ للوجود برمته وتلاشيه شيئًا فشيئًا حتى ينتهي تمامًا، إن المرء عندما تسلب ذاته الأصيلة منه يصبح أمامه خيارين لا ثالث لهما، إما تبني ذاتًا زائفة تحل محل ذاته الأصيلة أو المضي بلا هوية حقيقية ولا يختلف الخيار الأول عن الثاني كثيرًا؛ فمن استبدل ذاته الحقيقية بأخرى لن يسترجع هويته وسيظل منزوع الهوية تائهًا في فضاء الوجود.
في نهاية رواية المسخ يموت غريغور وتفرح عائلته بموته لاسيما والده “والآن لنرفع الشكر للرب، ورسم على صدره علامة الصليب ومثله فعلت النسوة الثلاث”. لكن لربما يكون غريغور أشد فرحًا بموته منهم لأن الموت بالنسبة له بمثابة بعث لذاته وكما قال الكاتب الألماني مارتن فالزر:
“و كونه ترك نفسه يموت، أعاد خلق هويته البشرية، ولكونه انمسخ كان يجب أن يموت، و بعدها يصبح كل شيء على مايرام”.(٦)
المصادر : (١) رواية المسخ لحسين اليوسفي ص١٩،ص ٢٠, ص٢٢، ص ٢٥، ص٣١ ص٣٢، ص٣٣، ص٣٤، ص٩٠، (٢) الدودة الهائلة ص ٢١-ص٢٢ (٣) النزعة الفلسفية في الأدب الوجودي د. حسين اليوسفي ص ١٤١ (٤) كتاب هل ينبغي إحراق كافكا ص ٦٦، ص ٥٦٥) جارودي: واقعية بلا ضفاف. ص ١٥٣-ص ١٥٤. (٦) كتاب سخرية خالصة، الآثار الكاملة، (الجزء الأول "الحكم،الوقاد،الانمساخ، رسالة إلى الوالد"، الكتاب الثالث،إبراهيم وطفي ص٥٢٨