هذا زمن الشعر الأعمى
ظهرت مقولة «زمن الرواية» في التسعينيات على يد الناقد الدكتور جابر عصفور في أحد مقالاته الافتتاحية لمجلة فصول التي كان يرأس تحريرها، ثم عاد إليها بشكل مفصل في كتابه “زمن الرواية” الصادر عن الهيئة العامة للكتاب سنة 1999م، وكما ذكر الكاتب التونسي عبد الدائم السلامي في مقاله “زمن الرواية لا زمن القراءة” أن د. جابر استقى فكرته هذه من كتاب الناقد العراقي محسن جاسم المسمى بـ “عصر الرواية” الصادر عام 1985م.
وأصبحت فكرة كون عصرنا الحاضر “زمن الرواية” من قبيل المسلّمات التي لا مطعن فيها لدى كثير من النقاد، وهم يستشهدون بالواقع الذي يعلو فيه صوت الرواية أكثر من أي صوت آخر، حيث يقبل عليها القراء، وترصد لها الجوائز القيمة، ويهتم بها الإعلام على حساب الفنون الأدبية الأخرى، وخاصة الشعر، لكن يبقى السؤال الذي لا يقدر مثلي على إجابته بل يكتفي بطرحه، هل ظاهرة طغيان الرواية ظاهرة صحية فعلاً، أم أنها تخفي تحتها أزمة أدبية كبيرة؟
لكن سؤالي الأهم هو: هل طغيان الرواية يعني أن هذا ليس زمن الشعر؟
أظن أنه لا يوجد زمن للشعر وزمن لغير الشعر، إذا لم يكن في الزمن شعر فلا زمن، الشعر حياة الروح وحياة الإنسان في الروح، الشعر يصلح لكل الأزمنة فلا يمكن أن نعيش بالنثر وحده أيًا كان رواية أو قصة أو مقال أو غير ذلك. فبنيوية الكلمة النثرية بطبيعتها تقترب أكثر فأكثر من الموصوف فحين تصف الشجرة في النثر تقترب أكثر لكى يشاهد القارئ هذة الشجرة أما بنيوية الكلمة الشعرية فتبتعد أكثر فأكثر عن الموصوف لكي تعطي القارئ معنى جديد للشجرة لم تحمله هذه الشجرة ذاتها من قبل.
في الحقيقة الشعر يشبه الأعمى الذي يرانا عُراة، وهنا أقصد العمى كما يدور في النص الشعري غالبًا لا كما يدور في النص الروائي، فالعمى في النصُّ الروائيُّ يدور في دائرة «الصفة» أما في النص الشعري يدور في دائرة “الحكمة” أو “العقيدة” التي تستوجب على الأعمى أن يؤمن بعَظَمةِ عماه.
نهارُ الأعمى كنهار الشعر يجري عكس نٌهر الناسِ؛ يجري إلى مُنْتَهى البَصيرة: إلى الحقيقةِ؛ فالأعمى يرفع رأسه عاليًا أثناء الصمت، ويرفعه عاليًا أثناء الكلام والشعر كذلك، لكأنَّما الرأسُ دليلُ الأعمى إلى السماء بحثًا فيها عن المُمْتنِع من الحقيقة، يرفعه كأنْ لا شيءَ حقيقيًّا على الأرض يعنيه، أو كما لو كان زاهدًا في حقيقة مَن حواليه.
وإنّ من آفاق الشعر كما هو من آفاق الأعمى أيضًا أنْ يرى الكونَ كميّةً من الممكنات تحتاج إلى صياغة جديدة: “كأنْ يَجُرَّ كُرةَ الأرضِ من حيّز تيبُّسِ الحقيقة إلى حيّز طراوة العَتَمَة”، يسحبها إلى ظُلمة الداخل، إليه، حيث يهيجُ العالَمُ ويتكاثرُ ويتنوّعُ ويصير كلّه مِلْكًا للعُمْيانِ، ذلك أنّ الأعمى كائن مُتحرِّرٌ من منطِق الحقيقة البصريّة ومَنْطَقِها، ولا حقيقة يُعوِّلُ على وجاهتها تحت الشمس، فالحقائق بالنسبة إليه توجد حيث لا توجد الشمس، توجد هناك في الظلمة.
الشعر كالأعمى أهنأُ المخلوقات جميعًا، لأنه لا يتعذّب بما يرى في الأرض عذابَنا نحن بمنظوراتنا، هو أهنأ المخلوقات لأنه متعالٍ على منطِقِ الأرض واشتراطات يقظتِها البصرية، إنه يعيش كلَّ عُمُره حالمًا: الناسُ يحلمون -بمشقّة بالغة- حين يغمضون عيونهم ليلاً (وهناك مَن لا يحلم حتى في النوم)، بينما هو يحلم بسلاسة في النوم ويحلم بسلاسة في اليقظة، إنه يرى العالَم في الحلمِ، بل ويصنع العالَم في حلمه.
الشعر كالأعمى لا يستحي ولا يحتاج إلى مرآة كي يُعدِّلَ بها سوءةَ ما يرى، كلّ العالَم عريانٌ أمامَه (ثِقُوا بأنه يرانا عراةً، وهذا ما يُضحكه دائمًا)، وهو لا ينفكّ ينظر إلى الجوهر فينا، إلى جوهر اليقين، ينظر إلى ما نُبدِّدُ أعمارَنا في إخفائه عن العيونِ: هشاشتنا وعيوبنا وخوفنا من تجريب الظُلمة: ظُلمة السجن أو ظُلمة القبر.
العمى نصُّف حقيقتِنا والشعر نصفها الآخر، وإذن فنحن محتاجون إلى تعلّم قراءة الظُّلمة لنَبْلُغَ بلاغةَ حقائقنا، ومحتاجون إلى الشعر من خلال التأمل وإغماض العينيْن كيْ لا نرى ضَلالَ ما نرى.
والآن أتسائل: هل بإمكان العالم أن يعيش بدون الشعر؟ هل هذا الزمن زمن البصر أم زمن الأعمى أقصد “البصيرة”؟
وهل يمكن أن نعيش الزمن دون عدالة؟ وهل العدالةُ إلا أن تكون معصوبةَ العينيْن؟ هل يمكن أن نعيش دون الظلمة ومَسِيرتُنا كلها من ظلمة الرَّحِمِ إلى ظلمة العَدَمِ؟ هل يوجد زمن بلا حب؟ وهل الحبُّ -ذاك الذي يُطيحُ بعروش الآدميين- إلا مُطْلَقُ العَمَى؟