أمل دنقل.. الجنوبي بين زرقاء اليمامة والعهد الآتي
أمل دنقل واحد من أكثر عشاق الكلمة؛ فكانت كرامته من كرامتها، وصدقه من صدقها. لُقّب بأمير شعراء الرفض؛ حيث كان ناقمًا على الوضع الاجتماعي، يعبر عن طموحاته وأحلامه لنهوض الأمة العربية من خلال أشعاره، رافضًا دائمًا للسلطة، مبررًا ذلك بقوله:
“الشاعر يبحث دائمًا عن الأفضل، ودائمًا هناك الأفضل“.
ملأ الدنيا وشغل الناس مثلما فعل المتنبي من قبل، وتلاقت شخصيتيهما في الكثير من الأشياء؛ فكلاهما نال رضي الناس عن شعره، بينما افتقد رضاهم عن شخصه، كما لاقا كل منهما نهاية مأساوية؛ فالمتنبي قُتل بعد معركة مع أعدائه، أما أمل فمات بعد صراع طويل مع مرض عضال، نهش الموت جسديهما وبقيت لنا ذكراهما لما تركوه لنا من أشعار مازلنا نتباهى بترتيلها.
نشأة أمل دنقل وحياته الشعرية
ولد أمل دنقل في إحدى قرى الصعيد، ورث من والده مكتبةً كبيرة تحمل الكثير من كتب الشعر والقصة والأدب. يقول أمل أنه كان يتمنى أن يصبح قاصًّا أو روائيًّا في هذه الفترة من عمره، وربما ذلك هو السبب في أن غلب على الكثير من أشعاره الطابع القصصي، ولكنه في السادسة عشرة من عمره وقع في تجربةٍ عاطفية كالتي يقع فيها الشباب في ذلك الوقت.(1)
عبر أمل دنقل عن هذه التجربة من خلال كتابة الشعر، وعرضه على أحد أساتذته -الذي كان شاعرًا-، وجاءت إجابته كنصيحة لأمل بأن عليه أن يترك الشعر لأنه لن يكون شاعرًا أبدًا، كانت هذه الإجابة كتحدٍّ لأمل دنقل أخذ بعدها يتساءل ويبحث كيف يمكنه أن يكون شاعرًا؟
وخلال عام كان أمل قد حفظ عن ظهر قلب أكثر من ألف بيت شعر، وكتب قصائد جديدة قدمها لنفس الأستاذ، الذي أبدى دهشته لهذا التقدم الشديد الذي اعتبره أمل بداية انتصاراته.
أمل دنقل وزواجه من عبلة الرويني
بدأت قصة حب أمل دنقل في مقهى الريش، حيث ظلت تبحث هناك لفترة صحفية شابة تدعى “عبلة الرويني”، ربما تشبه أمل في ثورته على العادات، حيث كانت الرويني تعمل آنذاك كصحفية تحت الاختبار والتدريب بجريدة الأخبار، وقررت أن تبدأ عملها مع الجريدة بحوار مع الشاعر اليساري أمل دنقل، بالرغم من أن أصدقاءها أخبروها بصعوبة سماح الجريدة بنشره، ولكنها أصرت على ذلك.
بعد ترددها على مقهى الريش لمرات متعددة، علمت عبلة أن أمل دنقل لا يذهب إلى هناك إلا مساءً، فتركت ورقة تطلب منه محادثتها، لم يتردد أمل في عمل ذلك، وبدأ لقاؤهم الأول في دار الأدباء بالقصر بالعيني، وتم عمل الحوار الصحفي الذي حذرها أصدقاؤها من إمكاتية رفض نشره، ولكن الحوار نشر في النهاية الحقيقة، وتصدر هذا التنويه أعلاه: “حتى لان يظن شاعرٌ أن الملحق الأدبي يقف له بالمرصاد”.
تكرر اللقاء مرات متعددة، وصار الشاعر صديقًا للكاتبة. لقد كان أمل دنقل مزيجًا من المتناقضات التي تجعله يخجل إذا مدحت شعره لدرجة أنه قد يحتد على من يمدحه خوفًا من اكتشاف خجله، وربما كان سبب حبه لعبلة الرويني هو ما جعله يحتد عليها في المرة الرابعة من لقائهما ودون أدنى مقدمات قائلًا لها:
يجب أن تعلمي أنكِ لن تكوني أكثر من صديقة!
أمل دنقل شاعر الرفض والثورة
في ظل أيام الثورة وأحلام العروبة، عاش شاعر الرفض يكتب قصائده التي بدأ بنشرها في جريدة الأهرام عام 1961، ولكن كانت قصيدة زرقاء اليمامة هي الأكثر شهرة، حيث كتبها عشية نكسة 67، والتي كانت صرخة وجدانية، أحبها جيله من الشباب مما جعله يشعر بالانتماء الحقيقي لهم.
أيتها النبية المقدسة..
لا تسكتي.. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً..
لكي أنال فضلة الأمانْ
قيل ليَ “اخرسْ”..
فخرستُ.. وعميت.. وائتممتُ بالخصيان!
ظللتُ في عبيد (عبس) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها.. أردُّ نوقها.. أنام في حظائر النسيان
طعاميَ: الكسرةُ.. والماءُ.. وبعض الثمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ.. والرماةُ. . والفرسانْ
دُعيت للميدان!
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن..
أنا الذي أُقصيت عن مجالس الفتيان،
أدعى إلى الموت..
ولم أُدع إلى المجالسة!!
تكلمي أيتها النبية المقدسة
ورحل عبدالناصر وجاء السادات، فكان أمل في مقدمة الرافضين لحالة اللاسلم واللاحرب التي كانت سمة السادات قبل حرب أكتوبر، وعبر عن رفضه للسلم خلال قصيدته “لاتصالح”.
لا تُصالحْ
ولو منحوك الذهبْ..
أترى حين أفقَأ عينيكَ،
ثم أثبتُ جوهرتين مكانهما..
هل ترى؟
هي أشياء لا تُشترى..”
كانت هذه الكلمات هي إحدي صرخاته ضد معاهدة السلام، وأصبحت بمثابة منشور سياسي يتداوله الرافضون للتطبيع مع إسرائيل.
أمل دنقل بين التدين والثورة على الدين
كانت حياة أمل دنقل الدينية في البداية شديدة التدين، لا يترك فرضًا. اكتسب الصلابة والخشونة والتزمت من حياة والده، وربما ظل على هذا المنوال حتى بعد وفاة والده وهو في العاشرة من عمره، ثم في شبابه كان معجبًا بالماركسية والوجودية، لكن القلق الميتافيزيقي كان رفيقه الدائم، رفض يقينية الشرائع بحثًا عن الحقيقة والاطمئنان.(2)
ومتى القلب في الخفقان اطمئن؟!
كان سؤاله حافلًا بالعصيان وليس بالإنكار؛ فلم ينكر أمل وجود الله، ولكنه كان دائمًا يناقشه ويخاطبه من خلال أشعاره. كما تروي عبلة الرويني في كتابها “الجنوبي”: أثناء مواجهة أمل دنقل للسرطان، وبينما يحمله التروللي إلى غرفة العمليات، سمعت صوتًا خافتًا يتمتم بالشهادة، فضحكت. وقالت له “ظبطتك متلبس بالإيمان”، فأجابها أخشى ألا يؤثر ذلك في البنج.(3)
المصادر: 1- حوار مع وليد شميط، مجلة الأسبوع العربي اللبنانية، بتاريخ 25/3/1974. 2- كتاب الجنوبي، ص ع15. 3- المصدر السابق، ص 113.