ناصر .. نبي العروبة الأخير
قامت ثورة يوليو عام 1952 لتحرر مصر من الملكية ثم الاستعمار البريطاني، وتُعلن قيام الجمهورية القائمة على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحرية. فلماذا اختلف محمد نجيب وجمال عبدالناصر في تَصَورهِم للحرية؟ ولماذا انحاز الشعب في الأخير إلى تصور الثاني؟
في هذا التحليل طرحٌ لفلسفة الأفكار ومدى تأثر الأفراد بها، بعيداً عن موازين القوى آنذاك وما آلت إليه الأحداث.
حرية محمد نجيب
كان يرى اللواء وأول رئيس للجمهورية أن مُهمته ورفاقه قد تمّت، وأن المستقبل للديموقراطية متمثل في سيادة الشعب وحكم نفسه بنفسه، مقتربًا في ذلك من مبادئ الثورة الفرنسية، فمثلًاأحد أكبر منظريها (جان جاك روسو.) كان يرى الحرية فرديةَ طبيعية يولد بها الإنسان، وهي أحد غرائزه الأساسية كالأكل والشرب، يقول في كتابه العقد الاجتماعي:
“الزعم الذي يفترض القول بأن إنسانًا ما يهب نفسه مجانًا هو ضرب من اللا معقول ويستحيل تصوره. فمثل هذا الفعل لا شرعي ولاغ لمجرد أن الذي يقوم به يفتقد الحس السليم. وإذا قيل نفس الشيء عن شعب برمته، فالأمر يفترض شعبًا من المجانين. وما كان الجنون يومًا أساسًا للحق”
ويُفترض أن الفرد يعبر عن حريته التي وصفها بالطبيعية بمشاركته في سن القوانين التي تحكم الجميع، وأن المجتمع يجب أن يقوم على الرضا الشامل لأفراده أو لغالبيتهم، يقول:
“ليست الالتزامات التي تربطنا بالجسد السياسي إجبارية إلا لأنها متبادلة، ومن طبيعتها أنه لا يمكن للمرء وهو يضطلع بها أن يعمل لصالح غيره دون أن يعمل لصالحه هو بالذات، لماذا يسعى الجميع إلى تحقيق سعادة كل أحد سوى أن ليس من أحد إلا ويتشبث بصفته هذه المتمثلة بالتحديد في كونه أحدًا، ويفكر في مصلحته هو بالذات وهو يصوت فيما يهم الجميع؟ وهو ما يثبت أن المساواة على مستوى الحق وفكرة العدالة المتولدة عنها صادرة عن حب الذات الموجودة لدى كل إنسان، وبالتالي عن الطبيعة الإنسانية”.
ولا تقوم لتصورٍ كتصور روسو عن الحرية قائمة، إلا إذا تمسك الأفراد أنفسهم بحقهم الطبيعي -من وجهة نظر روسو- في الحرية، وبممارستها من خلال الانتخابات العامة، والإكثار منها حتى يستقر في ضمير الشعب أنه الحاكم الفعلي للبلاد، وحتى يستقر في ضمير الحاكم أنه تحت الرقابة المستمرة، وأيضأ باستقرار وتفعيل دور وحدات الحكم الصغيرة لزيادة الرقابة، وضمان حرية الصحافة وحرية التعبير وحرية الاعتقاد.
وهو ما لم يتسنى للدولة الناشئة بعد يوليو أن تحققه، بل أن العامة الذين أعادوا نجيب للحكم، خرجوا في مظاهرات بعد عودته بأيام بدعم استخباراتي، تهتف بأن تسقط الديموقراطية وتحيى الثورة في صورة زعيمها عبدالناصر.
حرية جمال عبدالناصر
لا شك في أن ناصر ورفاقه مجتمعين لم يتحركوا إلى الثورة إلا رغبةً في الحرية والعدالة الاجتماعية الحقة لأبناء شعبهم، ولكنها تحولت بعد حين إلى حرية تحت إطار عام محدد. في اقترابٍ من المدرسة الألمانية وعلى رأسها (إيمانويل كانط) يرى الألمان أن الحرية الطبيعية حرية شهوانية حيوانية، وأن التاريخ ما هو إلا تطوير وتهذيب لتلك الطبيعة الحيوانية، تنتقل من خلاله من مرحلة إلى مرحلة أسمى وهكذا.
يرى كانط في كتابه “تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق” أن جميع المبادئ التي يمكن أن يسلّم بها الإنسان إما أن تكون مبادئ تجريبية أو مبادئ عقلية، تعتمد تلك المبادئ التجريبية على مبدأ السعادة، وهي مستمدة من العاطفة الفيزيائية. أما المبادئ العقلية فهي تعتمد على التصور العقلي للكمال، ويرى كانط أن المبادئ التجريبية لا تصلح مطلقًا للأن تؤسس عليها القوانين الأخلاقية، ذلك لأن طابع الشمول الذي يجعلها صالحة لكل الكائنات العاقلة، لا يصح إذا كان مستمدًا من التكوين الخاص بالطبيعة الإنسانية، فلا يصح أن يُصدِر من يُحكّم شعوره حكماً يصلح لتطبيقه على الآخرين.
يؤمن بالحرية ولكن في إطار تحقيق الفضيلة المتمثلة في تصور إرادة الله، أو الفضيلة التي توصل إلى الكمال الذي يتصوره العقل البشري، فهي إذًا حرية مشروطة بالفضيلة، ولا يولد الإنسان بها، وإنما تحتاج إلى تدريب وصقل، حتى يتكون لدى الإنسان الضمير الأخلاقي الكافي ليدفعه إلى الفضيلة والكمال.
لماذا انتصر ناصر؟
بغض الطرف عن عوامل القوى، والحضور الشديد لشخصية جمال عبدالناصر رغم أهمية تلك الأسباب، إلا أن المجتمع وقتها كان مهيأ بشكل أكبر لقبول ناصر لعدة أسباب.
أولاً: أن المجتمع المصريّ قبل لحظة الثورة لم يُمارس ديموقراطية قط على مر تاريخه، لم يكن المواطن المصري على وعي كامل بفطرية حريته وأن فكرة مشاركته في حكم بلاده موجودة من الأساس، ولم تكن حتى المؤسسات الحكومية قائمة على مبادئ تسمح للديموقراطية أن تنمو متى سنحت لها الفرصة.
ثانياً: أن عبدالناصر استطاع أن يقدم فيما بعد أشكالاً من الفضائل كانت أكثر مناسبة للعقل المصري آنذاك، فبعد سقوط الدولة العثمانية، وتغلغل الخطر الصهيوني في المنطقة، وجدت القومية العربية في نفوس المصريين خاصة والعرب عامة في بداية حكمه صدى كبير، وخصوصًا أنه ورفاقه كانوا من المشاركين في حرب 48، وفي ذلك الوقت لم يكن العقل العربي يحلم بشيء إلا الوحدة وتحرير فلسطين، وربما حتى الآن.
ثالثاً: أن ناصر اتجه إلى الفكر الماركسي من اللحظة الأولى، يقول ماركس:
“إن كنت تود الحصول على نتيجة سياسية معينة، فما عليك إلا أن تراعي أن تتجه الأحوال الاقتصادية إلى إحداث نفس النتيجة”
وكانت نظرة ماركس لقضية تحرر المجتمع من أشكال الاستغلال الطبقي ما تبناه ناصر في وقت كان النظام الإقطاعي قد بلغ ذروته، فأعاد تشكيل الثروة، وأكمل مجانية التعليم، ليكون له في قلوب المصريين ما له على الرغم من هزائمه المتتالية التي أنهت على حلم القومية العربية واضُّطر لاحقوه إلى خلق قوميات جديدة يجتمع عليها المصريون.