لماذا نُقدِّر الضَّعف والهشاشة عند الجميع ولا نُقدِّرها في أنفسنا؟
الإفصاح للعالم: هذه هي لحظة الحقيقة؛ فلرُبما توجَّب عليك الاعتذار عن أمرٍ أخفقت فيه أو اضطررت إلى طلبٍ معروفٍ من أحد الأشخاصِ أو حان وقت إخبار شخصٍ ما عن حقيقة مشاعرك تجاهه. فمهما اختلفت المواقف سيُداهمك الشعور بـ “الضعف” في إحدى مراحل حياتك، ولن يكون هذا الشعور ممتعًا، حتّى وإنْ سار الأمر على ما يرام، من المُحرج أنْ تضع نفسك في موقفٍ يَظهر فيه ضعفك للعيان. فغالبًا ما ينتهي بك المطاف في هذه المواقف بجلد ذاتك بقسوةٍ على ضعفك. إلّا أنّه لمن الغريب أنّك عندما ترى شخصًا في موقفٍ يُظهِر فيه ضعفه، فإنّك تُصدر عليه أحكامًا إيجابيّة. ومِن حُسن حظِّنا أنّه يوجد كلمةٌ تشير إلى هذه الظاهرة وسببٌ وراء حدوثها.
يظهر ضعفك في العديد من المواقف المختلفة؛ فقد تشعر بالضعف عندما تبادر لترتيب موعدٍ مع شخصٍ يُعجِبك منذ فترةٍ طويلة، أو عندما تتطوّع بأن تكون أوّل من يغني مع موسيقى أغنية ما في لعبة الـ Karaoke، أو عندما تحاوِل إصلاح تصدُّعٍ في صداقةٍ هشّة، فذلك يتطلب المخاطرةُ بتجريح مشاعرك أو التعرّض لانتقادٍ قاسٍ أو التعرُّض للرّفض التامّ وهذه شجاعة لا مثيل لها. لذلك؛ فمن الطبيعي أنْ تواجه المصاعب النفسيّة عندما تقفز باتجاه مواقف يظهر فيها ضعفك لمن حولك. إلّا أنَّه لمن المثير للاهتمام أنّ إظهار الضَّعف يعود بالنَّفع على الشخصِ نفسه في معظم الأوقات، وهذه حقيقةٌ موثّقةٌ ومُثبتة.
متأثِّرَةً بأعمال Brené Brown -الذي يعد خطابها على منصة TED الذي كان بعنوان The Power of Vulnerability من أكثر الخطابات مشاهدة- قرَّرت الطبيبةُ النفسيّة Anna Bruk وزملاؤها في جامعة (Mannheim) أنْ يُحدِّدوا السَّبب وراء تقديرنا الإيجابيّ لضعفِ من حولِنا وفي ذاتِ الوقت خجلنا من ضعفنا. وأطلقوا على هذه الظاهرة اسم “تأثير الفوضى الجميلة” (beautiful mess effect).
ونظرًا لأنّ فريق البحث توجّب عليه أنْ يوثّق هذه الظاهرة، اشتمل تقريره على تعريض المشاركين لمواقفٍ حقيقيّةٍ ومواقفٍ أُخرى افتراضيَّة تتطلّب إظهار قدرٍ مُعيَّنٍ من الضَّعف. فعلى سبيل المثال، طُلِب من المُشاركين في إحدى الدِّراسات أنْ يتخيّلوا موقفًا ما -كالتعبير عن مشاعرٍ رومانسيّةٍ أو الاعتراف بارتكاب خطأ ما- ثُمَّ طلب الباحثون من المشاركين أنْ يُقيِّموا الشجاعة التي تطلّبها الموقف منهم. وانقسمت المواقف إلى قسمين:
- موقف تعرّض فيه المشاركون أنفسهم للموقف.
- موقف تعرَّض فيه شخصٌ آخر للموقف.
بعد إجراء التَّجربة مرّةً تلوَ الأُخرى، اتَّضح أنّ المشاركين يرَون أنْ يُظهر الآخرون ضعفَهُم شجاعةٌ تتفوّق على الشجاعة التي يتَطلّبها ذات الموقف منهم.
نحن نتفق معك أنّ هذا موقفٌ افتراضيٌّ بَحت، وأنَّ الأُمور قد تختلف في مواقفِ الحياةِ الحقيقيَّة. ولتبديد شكوكِكَ، تمَّ إجراء دراسةً أُخرى -تتبع لنفس سلسلة الدِّراسات- أخبر فيها الباحثون المشاركين أنّهم سيكونون جزءًا من حفلٍ مُباشرٍ ومرتجل. في بعض الحالات، تمَّ إخبار المشاركين أنْ يستعدِّوا لأنَّهم سيُغنّون أمام لجنة حكم، وفي حالاتٍ أُخرى طُلِب منهم الاستعداد لأنَّهم سيكونون جُزءًا من لجنة الحكم، على الرَّغم من عدم غناء أيّ مشاركٍ بشكلٍ فعليّ، إلّا أنّ المشاركين وبشكلٍ متكرر أعربوا عن أنَّ الغرباء يمتلكون شجاعةً تفوق شجاعتهم، ولم تؤثِّر حقيقةَ أنَّه سيُطلب منهم نظريًّا أنْ يقوموا بنفس الشيء الذي سيقوم به الغرباء على حكمهم.
تراجع قليلًا وفكّر بالأمر من منظورٍ آخر.
لماذا نرى أنَّ الموقف يتطلَّب شجاعةً؟ ويجدِر الثناء على فاعله عندما يقوم به شخصٌ آخر، بينما لا نرى ذات الموقف بنفس المنظور عندما نقوم به أنفُسَنا؟ وفقًا لفريق البحث تكمُن الإجابة في مستوياتِ التصوُّر (construal levels) لدى الشخص. يتم قياس مستوى التصوّر عن طريق تحديد المسافة بينك وبين حدثٍ ما؛ سواء أكان الحدث مُحدّدًا بعواملٍ جسديَّةٍ أو نفسيَّةٍ أو زمنيَّةٍ أو افتراضيَّة. فعلى سبيل المثال، إذا طُلِبَ منك أن تتخيّل شخصًا يقذف الكُرات في الطَّرف الآخر من العالم قبل 100 عام، سيكون مستوى تصوّرك لقذف ذاك الشخص للكرات عاليًا جدًّا؛ أما اذا طُلب منك أن تتخيل نفسك تقذف الكرات بعد ساعة، فإنَّ مستوى التصور لديك ينخفض بشكلٍ كبير. حيث اتضح أنّه عندما تنظر لشيءٍ ما بمستوى تصوّرٍ منخفض، تزداد احتماليَّة تركيزك على التفاصيل الثانويَّة والعوامل التي تخفّف من أهميّة الأمر؛ كأن تقول لنفسك: “لقد عانيت من التهاب الحلق في اللَّيلة الماضية” أو “لم يسبق لي غناء هذه الأغنية أمام حشدٍ غفيرٍ من النَّاس” أو “قد يكره هؤلاء الأشخاص صوتي”.
وفي المقابل، اذا طُلِبَ منك أنْ تتخيَّل شخصًا ما يغني أمام ذات الحشد الغفير من النَّاس؛ سيكون مستوى التَّصور لديك مرتفع؛ مما يعني أنّك ستُولي اهتمامًا للموقف من منظورٍ أوسعٍ وأشمل، فقد تقول لنفسك: “إنّ الغناء أمام حشدٍ من النَّاس يتطلّبُ شجاعةً لا مثيل لها”.
فإذا احتجت لاستجماع شجاعتك للقيام بأمرٍ محفوفٍ بالمخاطر، تراجع قليلًا وفكّر كيف ستكون نظرتك للموقف عندما يقوم به شخصٌ آخر، فإن تمكّن غيرك من القيام به، ستتمكَّن أنت منه كذلك.