بيولوجية الاكتئاب: تفاعل الجسد مع النفس.
مقدمةٌ عن مرض الاكتئاب:
عندما نسمع عن مرض الاكتئاب تقفز إلى أذهاننا أشياء كثيرة ومن أبرزها: (ضعف الوازع الديني، الضغوطات النفسية، الحزن والكآبة، البكاء واليأس،….إلخ )، وبغضِ النظر عن مدى صحة، ودقة كل تلك الأفكار ـ فهذا ليس موضوعنا ـ إلا إننا دائمًا ما نُهمل، أو ربما نجهل الجانب البيولوجي للمرض؛ والذي يلعب دورًا رئيسًا فيه.
قد يغيب عن ذهن الكثيرين أن الأمراض النفسية -كمرض الاكتئاب- متصلةً اتصالًا وثيقًا بوظائفَ الجسم الحيوية، أثبتت الدراسات أن هناك مناطق وأجزاء في الدماغ مرتبطةً بمرض الاكتئاب؛ كالوطاء، واللوزة، كما أن التغيير في نسبة، أو تركيز بعض هرمونات الجسم يؤثر سلبًا على مشاعر الإنسان وحالته المزاجية ككل (كتاب الحزن الخبيث: تشريح الاكتئاب ص ٩٢).
يناقش هذا المقال مرض الاكتئاب من زاوية بيولوجية؛ حيث يسلط الضوء على الدور الرئيسي الذي تلعبه بعض هرمونات الجسم الشائعة، والمُساهمة في المرض، كما يكشف المقال عن علاقة الدماغ وأجزائه بالمرض .
الدماغ ( ماكينة) الاكتئاب:
الدماغ: هو مصدر سلوكياتنا، ومحرك مشاعرنا وأفكارنا، فلا عجب إن ارتبطت الأمراض النفسية كالاكتئاب بالعمليات الكيميائية التي تحدث في الدماغ.
يتكون الدماغ من ملايين الخلايا العصبية، والجزيئات الكيميائية؛ التي تُثير لدينا مشاعر الحزن والقلق من خلال إصدارها الإشارات الكهربائية؛ والتي بدورها تؤثر في نمط تفكيرنا، وسلوكنا.
يحتوي الدماغ على أجزاء، أو مناطق مختلفة؛ وكل منطقة مسئولة عن وظيفة معينة فمثلًا؛ “الوطاء”، و”الغدة النخامية” هي: أجزاء مسئولة عن إفراز الهرمونات في الجسم، وهناك هرمون آخر مسئول عن الانفعالات يدعى “اللوزة” .
يرتبط سلوك الإنسان بمسارات عصبية خاصة موجودة في الدماغ؛ فلكل سلوك معين مسار عصبي يتحكم فيه، هذا يعني: أن تغيير سلوك معين لا يتطلب إرادةً قوية قدرَ ما يتطلب تغييرًا، أو تعديلًا للمسار العصبي المسئول عنه في الدماغ، ولكنها عملية شبه مستحيلة التنفيذ؛ نظرًا لأنه يوجد ما يقارب ستًا وثمانين مليار خلية عصبية، ودراسة كل هذه الخلايا تتطلب من العلماء وقتًا، وجهدًا هائليين جدا(٢)
بعض الأبحاث تشير إلى أن مرض الاكتئاب ينتج عن عطل في كفاءة الناقلات العصبية؛ مما يعيق انتقالَ الشحنات الكهربائية بين الخلايا العصبية. تنتقل آلاف الإشارات الكيميائية بين الخلايا العصبية، وتكمن أهمية هذه الإشارات الكيميائية في أنها تصل من هرمونات تلعب دورًا كبيرًا في مرض الاكتئاب فعندما يتعرض الإنسان لمحنة، أو ظرفٍ حياتيّ قاسٍ يؤثر على نفسيته سلبًا تفرز هرمونات تحفز الشعور بالحزن والقلق، البعض لا يجيد التعامل مع هذه المشاعر، مما قد يجعلها تتفاقم وتلقي به إلى هاوية الاكتئاب . ص ١٩٢.
علاقة هرمون “الكورتيزول” بالاكتئاب:
بين الاكتئاب، وهرمون الكورتيزول علاقةٌ غامضة، أو بالأحرى غير مباشرة؛ فهو هرمون تفرزه الغدة الكظرية، وله دور هام في وظائف الجسم، لاسيما ارتفاع وانخفاض مستويات التوتر في الجسم، ويزداد تركيز هذا الهرمون في الصباح؛ ليحفز الجسم للقيام بالوظائف الحيوية اليومية، بينما ينخفض مستواه في المساء، يؤدي الارتفاع الغير طبيعي في نسبة هذا الهرمون إلى تقلبات ملحوظة في المزاج؛ وهي إحدى الأعراض الشائعة لمرض الاكتئاب.
ومما يثير الشك في تورط هذا الهرمون بمرض الاكتئاب ومما يؤكد هذا الشك “متلازمة كوشينغ”، أو مرض “فرط نشاط قشر الكظر”؛ حيث ينتج هذا المرض عن ارتفاع في تركيز هرمون “الكورتيزول”، حيث يسبب إفراز هرمون الحاثة القشرية وانتشاره عبر الدم عن طريق الغدة النخامية؛ والتي بدورها توصله إلى قشر الكظر في الغدة الكظرية؛ مما يزيد من تركيز هرمون الكورتيزول.
والجدير بالذكر؛ أن الاكتئاب هو أحد الأعراض الشائعة لهذا المرض، بالإضافة إلى زيادة الوزن، وارتفاع ضغط الدم. هذه النتيجة بعثت الأمل والتفاؤل لدى العلماء والباحثين؛ بأنه يمكن تشخيص المرض من خلال معرفة مستوى الكورتيزول في الجسم. فقرر الباحثون القيام بتجرية على المرضى الذين يعانون من ارتفاع في مستوى الكورتيزول، وذلك بحقنهم مادة مثبطة تدعى: “الديكساميثازون”؛ تحفِّز هذه المادة الدماغَ فيستجيب، والذي بدوره يطلق الأوامر بخفض إفراز الهرمون في الجسم.
النتيجة التي خيبت آمال الباحثين كانت انخفاض مستوى الكورتيزول لدى المصابين الغير مكتئبين بعد الحقن، بينما لم يكن هناك تأثير إيجابي من الحقن على المصابين بالاكتئاب؛ مما يعني أن مستوى الكورتيزول لم ينخفض، مما يعني أن هناك عواملَ أخرى تتحكم في مستوى الكورتيزول، ومما “زاد الطين بلًّا”؛ أن هناك فئة من المرضى لا يعانون من الاكتئاب ومع ذلك لم يشهد الباحثون أي انخفاض ملحوظ في مستوى الكورتيزول لديهم، وقد يعزو ذلك إلى أسباب كثيرة؛ منها إصابة بعضهم بالبدانة، الشعور بالتوتر والقلق الناتج عن وجود المرضى في المستشفى. ولكن الشكوك مازالت قائمة حول ارتباط هرمون الكورتيزول بالاكتئاب، تشير دراسات إلى أن الزيادة في مستوى هرمون الكورتيزول قد يتسبب في تلف الخلايا أو المناطق المسئولة في الدماغ عن الذاكرة مما قد يؤثر سلبا على قوة الذاكرة، ليس هذا وحسب، بل يؤدي هذا الازدياد في الهرمون إلى التأثير سلبا على فعالية هرمون “السيراتونين” المسئول عن الراحة، والحالة المزاجية للشخص .
ـ ( ص ١٩٢ -ـ ص ١٩٥)
هرمونات الجسم و أعراض الاكتئاب :
ترتبط الحالة النفسية ارتباطا وثيقا بالوظائف البيولوجية في الجسم. فعندما نتعرض إلى عطب نفسي يستجيب الجسم لهذا العطب، ويتفاعل معه مما ينتج عن هذا التفاعل تغييرات، أو خلل في العمليات الكيميائية داخل الجسم، ومن الأمثلة على ذلك: الخلل في إفرازات الغدة النخامية؛ فعندما نصاب بصدمة نفسية أو نتعرض لموقف ما يؤثر فينا سلبًا بدرجة كبيرة، تزيد إفرازات الغدة النخامية، وتنتقل من الدورة الدموية إلى مختلف أجزاء الجسم مما ينتج عن ذلك إفراز الغدة الكظرية لهرمون الأدرينالين، تحفز تلك الإفرازات أيضا الغدة الدرقية لإفراز هرمون الدرقية، ينعكس التعرض للكرب سلبا على عمل الغدة الدرقية؛ وينتج عن ذلك عطلٌ في نشاطات النمو، والتكاثر؛ وهي مشاكل عادة ما يعاني منها مرضى الاكتئاب. ليس هذا وحسب، بل يحفز الكرب أيضا إفراز هرمونات “ACTH” في الدم؛ فتحفز هي الأخرى الغدة الكظرية لإفراز هرمونات “الستيرويد”، عندما تزيد نسبة هذه الهرمونات في الجسم ينتج عن ذلك ضعف في كفاءة عمل الحصين؛ و هو جهاز يقع في الدماغ و مسئول عن الذاكرة طويلة المدى مما قد ينتج عن ذلك ضعف في الذاكرة ومن المعروف أن ضعف الذاكرة من الأعراض الشائعة لمرض الاكتئاب . ( ص ١٩٤ -ـ ص ١٩٦)
لماذا نسبة إصابة النساء بمرض الاكتئاب تفوق نسبة إصابة الرجال؟
من المعروف؛ أن لكلا الجنسين (الذكر والأنثى) هرمونات جنسية خاصة تنحدر من مركبات تدعى “الستيرويد”، و هذه الهرمونات تكسب الجنسين صفات جنسية معينة؛ كنمو الأعضاء التناسلية فمثلا :الهرمونات الجنسية الأنثوية (الاستروجين) تساعد على ظهور الثديين لدى المرأة والعضو الأنثوي، وفي المقابل تمنح الهرمونات الذكورية (الأندروجين)، ومن أشهرها هرمون “التستسترون” الرجالَ خشونةَ الصوت، العضلاتِ، وظهورَ الشعر في بعض أماكن الجسم. ليس هذا وحسب، بل تلعب هذه الهرمونات -أيضا- دورًا هامًّا في السلوك الذي يسلكه كلا الجنسين. (٣)
ولا تختلف هذه الفئة من الهرمونات عن الهرمونات التي تحدثنا عنها سابقا، حيث تحظى الهرمونات الجنسية أيضا بنصيب من التأثير على الحالة النفسية والمزاجية للشخص. ومن المعروف والشائع أن المرأة لها الحصة الكبرى من هذا التأثير ويبدو الأمر في ظاهره متناقضًا من الناحية العلمية نظرًا لأن هرمونات المرأة الجنسية (الاستروجين) تلعب دورًا هامًا في تحسين الحالة النفسية، والمزاجية، ولكن التفسير العلمي لذلك يقول: أن التستسترون -الذي يزيد تركيزه بأضعاف مضاعفة عن تركيز الاستروجين في جسم المرأة- يتحول في دماغ الرجل إلى هرمون يدعى “الاستريدول”، وهو هرمون من مجموعة هرمونات “الاستروجين”،مما يزيد من تركيز هرمونات “الاستروجين” عند الرجل، وبالتالي يمنح حصانةً أكبر للرجل من التعرض للتقلبات المزاجية والنفسية، وبالتالي من الوقوع فريسة الاكتئاب (ص ١٩٦-١٩٨)
الخاتمة:
الاكتئاب ليس مرضًا نفسيًا ينتج عن حالة نفسية مزمنة نمر بها فحسب، بل هو أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. هناك عواملُ بيولوجية كثيرة تلعب دورًا مهمًّا في تحفيز المرض، و تمت مناقشة عدد ضئيل منها في المقال نظرًا لضيق المساحة. ترتبط الكثير من أعضاء وهرمونات الجسم بالاكتئاب، وبالرغم من أن معظم الدراسات لا تشير إلى وجود علاقة واضحة، ومباشرة بينهم إلا أن ذلك لا ينفي وجودَ رابطٍ بينهم يتجسد في التغييرات البيولوجية، والكيميائية؛ التي تحدث في جسم المصابين بالاكتئاب.