الجذور التاريخية واللاهوتية لظهور المذاهب المسيحية
من المُصيب ومن المُهرطق؟
بعد موت يسوع المسيح على الصليب وقيامته من بين الأموات في اليوم الثالث بحسب العقيدة المسيحيّة، بدأ تلاميذه في الذهاب لشتى أقطار الأرض للبشارة بتعاليم المسيح كما أوصاهم هو، فمنهم من ذهب إلى مصر وشمال إفريقيا، ومنهم من ذهب إلى القسطنطينية والإمبراطوريّة الرومانيّة وقاموا بتأسيس كنائس على مرجعية واحدة وهي التعاليم الأولى التي تسلموها من المسيح ذاته، ولكن سرعان ما حدثت اضطرابات، وانقسمت وحدة الكنيسة إلى نصفين في القرون الميلاديّة الأولى، النصف الشرقيّ المُسمى بالكنيسة الأرثوذكسيّة التابعة لبابا الإسكندريّة، والنصف الغربيّ المُسمى بالكنيسة الكاثوليكيّة التابعة لبابا روما، ولم تسلم الكنيسة من انقسامات أُخرى؛ فإبّان عصر التنوير والنهضة في أوروبا انقسمت الكنيسة الكاثوليكيّة على ذاتها بعد أن قاد “مارتن لوثر” ثورة الإصلاح داخل الكنيسة الغربية وقام بالانفصال عن كرسي روما وأسس الكنيسة البروتستانتية.
وكما هو متعارف عليه بطبيعة الحال فيما هو متعلق بالعقائد الدينيّة أنّ كل كنيسة تَنسب لنفسها الصواب الذي لا حياد فيه وتَحرم الكنائس الأخرى منه، بل وتدعوها هرطقات يجب التصدي لها في أحيانٍ كثيرة. فما الذي أدى إلى تعدد المذاهب المسيحيّة ومَن هو المُصيب ومَن المُهرطق؟ وهل كان المسيح أرثوذكسيًا أم كاثوليكيًا أم بروتستانتيًا؟
المدينة العظمى (الإسكندرية):
قبل أن نخوض في الأحداث التاريخيّة التي أدت إلى انشقاق الكنيسة يجب علينا أن نسلط الضوء على وضع مدينة الإسكندريّة السياسي والاجتماعي لما تمثله من دور محوري في قضية أفول وحدة الكنيسة. فبعد تحول الإمبراطوريّة الرومانيّة للديانة المسيحيّة على يد المبشرين الأوائل، انتشرت الديانة الجديدة في مصر الواقعة تحت الاحتلال الروماني بشكل كبير، ولكن رغم ذلك قبل المصريون المسيحيّة بتحفظ وبحذر باعتبارها ديانة جاءتهم من الخارج، وظلوا متمسكين بعادات وطقوس ترجع للعقائد المصريّة القديمة أو ما تُسمى بالفرعونيّة؛ وذلك لاعتقادهم أنهم طالما لم يستسلموا لعقيدة المحتلّ فإنهم لم يفقدوا حريّتهم بعد وبالتالي لم يفقدوا هويتهم، وظلوا يتحسّرون على مجد أجدادهم الفراعنة وعلى أطلال حضارتهم العظيمة التي أصبحت جزءًا من الماضي.
ويمكننا أن نضرب مثالًا لتشبث المسيحيين الأوائل بأطلال حضارتهم المندثرة من خلال قراءة السينكسار –1– فيقول: “في معبد قيصرون الذي شيّدته الملكة كليوباترا كان يوجد صنم كبير من النحاس اسمه عطارد وكان يُحتفل سنويًا بعيده وتُقدم له الذبائح، وقد ظل معمولًا بهذه التقاليد إلى أيام حكومة الأب “إسكندر” (أي لمدة تزيد عن ثلاثمائة عامٍ) فلما نصّب إسكندر بطريركًا قرر تحطيم هذا الصنم، وهذا ما أثار حفيظة شعب الإسكندرية وثاروا ضد قرار البطريرك”. وهذا ما يدل على تمسك المسيحيين بعبادات وثنية بعيدة كل البعد عن العقيدة أو التعاليم المسيحيّة فقط لأنها كانت تمثل تمايز عن ثقافة المحتل وتشير إلى هويتهم التي لطالما حاولوا الحفاظ عليها.
شرارة الانقسام ومجمع خلقدونية:
كان البطريرك “ديوسوقور” بابا الإسكندرية الذي لا يُذكر اسمه إلا مقرونًا بمجمع خلقدونية يُصرّح قائلًا:
“إن البلاد لي أكثر ما هي للأباطرة وإني أطالب بالسيادة على مصر” –2–
ولم تفتر عزيمة البطريرك في انتظار الفرصة حتى سنحت له أخيرًا في الهفوة غير المقصودة التي قام بها “فلافيان” بطريرك القسطنطينية. كان هناك راهب يُدعى “أوتيشيس” ينتمي لكنيسة الإسكندرية أطلق فكرة فحواها أن للمسيح طبيعة واحدة فقط تنصهر فيها الطبيعتان اللاهوتية والناسوتية سرمديًا، وكانت هذة المسألة شائكة وتثير الجدل والنقاشات في الأوساط المسيحية آنذاك، فبادر الإكليروس –3– المصري بتفنيد مزاعمه ونقدها ولم يكن هناك ما يُنذر بأحداث جسيمة، ولكن شاء القدر أن يرتكب “فلافيان” بابا القسطنطينية غلطة فادحة وغير مقصودة لكنها غيرت تاريخ المسيحية للأبد!
قام “فلافيان” بإصدار فرمان رسمي –4– بحرمان صاحب المذهب الجديد، وهذا ما اعتبره “ديوسوقور” تعدي على سلطاته لأن الراهب كان يتبع لكنيسته هو وليس كنيسة القسطنطينية، واعتبر هذا إعلاءً لشأن كرسي القسطنطينية على حساب كرسي الإسكندرية، فكانت ردة فعله قوية وعنيفة وغير متوقعة على الإطلاق، قام بإعلان انضمامه رسميًا لمذهب الراهب “أوتيشيس”، وهذا ما وضع إكليروس مصر في موقف غاية في الحرج، فكيف لهم بعد أن أعلنوا عدم اتفاقهم مع المذهب الجديد أن يقوموا بموالاة رئيسهم المباشر وهو البابا “ديوسوقور” الذي أعلن اتفاقه مع المذهب الذي رفضوه دون أن يتعروضوا للسخرية والاستهزاء، ولكن عندما أمرهم البابا بموالاته لم يترددوا لحظة في تغيير رأيهم إلى رأي رئيسهم المباشر، وعندما ناقشهم مجمع خلقدونية بعد ذلك برروا موقفهم بقولهم: “ألم يأمرنا مجمع نيقية –5– بأن نطيع بابا الإسكندرية طاعةً كاملةً وألا نتخذ أي قرار دون الرجوع إليه؟”.
أما الشعب المصري فكان موقفه أكثر صرامة من الإكليروس، فلم يتوانَ الشعب المصري عن مناصرة بطريركه الذي اعتبره الرئيس الحقيقي للبلاد والذي يمثل الشعب المصري، وكان ما يرمي إليه الشعب المصري هو الانفصال عن بيزنطة، فلم يهتموا كثيرًا بمذهب الطبيعة الواحدة ولا بالاختلاف العقائدي؛ فكان كل ما يهمهم هو مناصرة جبهتهم المتمثلة في البابا لما اعتقدوه بأن هذا الخلاف سيؤدي إلى الانفصال عن بيزنطة (وهو بداية الطريق إلى التحرر والاستقلال). عندها أمر الإمبراطور بعقد مجمع خلقدونية حتى يتم الفصل في هذا الخلاف العقائدي الذي نشب بين أكبر كنيستين تابعتين للإمبراطورية، فانعقد المجمع في الثامن من أكتوبر إلى الأول من نوفمبر عام 451م في مدينة خلقدون وهي مدينة تقع في آسيا الوسطى على مضيق البوسفور، فأقر هذا المجمع بالتعريف الشهير الذي يُسمى بالتعريف الخلقدوني، وهذا التعريف يقول :
“إن للمسيح طبيعتان تأتيان معًا في شخص واحد وأقنوم واحد”.
فقوبل هذا التعريف بالرفض من البابا ديوسوقور ومعه بالتبعية كل الإكليروس المصري، فكان قرار المجمع بعزل البابا “ديوسوقور” وتعيين آخر مكانه، فقابله الشعب المصري برفض هذا القرار وإعلان العصيان على المجمع وقراراته، بل وعلى الإمبراطور ذاته، وهنا قد بدأ الخلاف يزداد بشدة وأصبحت الشقة بين الكنيستين شديدة الغور، بعد أن حاز مذهب الطبيعة الواحدة على الشعبيّة والجماهيريّة بين الشعب المصري فقد وصل عدد المنشقين عن كنيسة القسطنطينيّة ما يقارب الستة ملايين شخصًا بينما ظل مائتا ألف شخص فقط بالمقابل متمسكين بمذهب كنيسة القسطنطينيّة ويدينون بالولاء إلى إمبراطور بيزنطة، وكان المنشقون بطبيعة الحال هم سكان البلاد الأصليون، بينما الذين ظلوا على مذهب القسطنطينيّة كان أكثرهم من أهل الإسكندرية الذين كانت ترجع أصولهم إلى اليونان وبيزنطة.
مارتن لوثر وثورة الإصلاح:
إبّان عصرالتنوير في أوروبا وتحديدًا في القرن السادس عشر عام 1529 قام “مارتن لوثر” (وهو كاهن ألماني وأستاذ للاهوت المسيحي) بالقيام بثورة على تعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة التقليديّة، وقام بنشر رسالته الشهيرة التي تكونت من خمسٍ وتسعين نقطة وسُميت ب”لاهوت التحرير”، تلك الرسالة التي كانت تتضمن العديد من النقاط التي خالفت الكنيسة الكاثوليكيّة، وأُطلق على أتباع “مارتن لوثر” لقب المحتجين وتنطق بالإنجليزية (بروتستس) ومن هنا جاء المُسمى “بروتستانت”، والجدير بالذكر أيضًا أن الكلمة كاثوليك هي كلمة يونانيّة تعني عالمي، والكلمة أرثوذكس هي كلمة يونانيّة أيضًا وتعني الطريق المستقيم.
وكان أبرز ما جاء في رسالة لاهوت التحرير تلك فكرة غفران الخطايا أو التبرئة من الذنوب، فكانت تعتقد الكنيسة الكاثوليكيّة بأن غفران الخطايا شرطه الاعتراف وأخذ الحِلّ –6– من الكاهن حتى يقوم الرب بغفران خطايا المُعترِف -والشيء بالشيء يذكر: أن الكنيسة الأرثوذكسيّة الشرقيّة تعتقد بنفس العقيدة أيضًا- حتى جاء “مارتن لوثر” واعترض على تلك الفكرة وقال إن غفران الخطايا هي هديّة سماويّة ومنحة مجانيّة أهداها الله للبشر جميعًا من خلال موته ودمائه التي سُفكت على الصليب ولا يحتاج الإنسان لدفع مقابل حتى ينال ذلك الإمتياز.
وأيضًا تؤمن الكنيسة الكاثوليكيّة بالأسرار السبعة المقدسة، كذلك تفعل مثيلتها الأرثوذكسيّة، تلك الأسرار يُقصد بها مجموعة من الطقوس التي تهدف للحصول على بركة ونعمة غير مادية عن طريق مواد ملموسة ومرئية، مثل سر التناول على سبيل المثال، وهو السر الذي أسسه المسيح مع تلاميذه في العشاء الأخير والذي صوّره الفنان الإيطالي العبقري “ليوناردو دافينشي” في لوحته الخالدة المُسماة بنفس الاسم “العشاء الأخير”.
هذا السر هو عبارة عن تناول الخبز وشرب عصير العنب في إشارة لجسد المسيح ودمه، فالخبز يرمز للجسد وعصير العنب يرمز للدم، وتؤمن الكنيستان الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة بأن الخبز والعصير يتحولان لجسد ودم حقيقيين عن طريق عمل الروح القدس غير المرئي وغير المحسوس، وإلى الآن تقوم الكنيستان بإحياء ذلك الطقس في نهاية كل قداس كما أوصى المسيح تلاميذه. –7–
وتشمل تلك الأسرار السبعة: (سر الزيجة، وسر التناول، وسر الاعتراف، وسر الكهنوت، وسر زيت الميرون، وسر المعمودية، وسر مسحة المرضى).
بينما لا تؤمن الكنيسة البروتستانيّة بتلك الأسرار ولا بقدسيتها، حتى وإن تشابهت بعض الطقوس مع تلك الأسرار فهم لا يعتبرونها أسرارًا مقدسة بل مجرد طقوس من المستحب القيام بها ولا تعد شرطًا للخلاص أو لإعلان الإيمان.
نقد :
كما استعرضنا في الأجزاء المنصرمة الأسباب التي أدت إلى حدوث انشقاقات في الكنيسة وتشتت المسيحيين على مذاهب ٍعدة، يمكننا أن نقول بمنتهى الأمانة أن السوادَ الأعظم من الأسباب المؤدية إلى الخلافات العقائديّة التي أدت للانشقاقات كانت أسباب سياسيّة وسوسيولوجيّة ولم تستند على حجج كتابية راسخة وقوية، حتى وإن ادّعى أرباب تلك المذاهب عكس ذلك، فيمكننا أن نرى بمنتهى الوضوح ذلك في الخلاف الذي أُقيم على إثره مجمع خلقدونية وانقسمت بسببه وحدة المسيحيين للأبد، فقد ارتأى الكاثوليك أن للمسيح طبيعتان هما اللاهوتيّة والناسوتيّة ولكنهم لم يكونوا متحدين منذ الأزل، بل اتحدوا في وقت محدد وهو وقت تجسد المسيح في أحشاء مريم العذراء، بينما ارتأى الأرثوذكس أن للمسيح طبيعتان أيضًا اللاهوتيّة والناسوتيّة ولكنّهما في اتحاد دائم بشكل سرمدي وليس هناك نقطة بداية لاتحادهم، ذلك الخلاف الطفيف -الذي لا أريد أن أكون قاسيًا لو قلت أنه تافه ويمكن تجاوزه- قد غير مسار المسيحيّة للأبد، بالطبع ليس ذلك الخلاف هو الوحيد الآن؛ فبعد الشقاق وتحول كل كنيسة لسلطة مستقلة تأخذ قراراتها بمعزل عن الأخرى قد نشأت خلافات عقائديّة وطقسيّة أُخرى مع مرور الزمن، ولكن الشرارة الأولى كانت ذلك الخلاف البسيط.
ونحن لا يمكننا أن نرى في الكتاب المقدس وهو من المفترض أنه المرجع الأول والأخير للمسيحية أية إشارات أو كلمات واضحة وصريحة على تلك النقطة تحديدًا، ولكنها كانت كلمات مبهمة قابلة للتأويل والفهم المتباين -كما هو معروف عن طبيعة النص الديني- ولكن أصحاب المذاهب قرروا أن يفهموه بشكل معين ومحدد ويعلنوا صراحةً أن فهمهم هو الوحيد الذي أصاب كبد الحقيقة ووصل إلى ما عجز عنه الآخرون جميعًا، وهذا ما دفع “مارتن لوثر” مستقبلًا إلى الثورةعلى سلطة رجال الدين في احتكار التأويل وفهم النص المقدس ومنعه على من هم خارج الكهنوت، وقال أن فهم الكتاب المقدس ليس حكرًا على أحد وأي إنسان قادرًا وله الحق أن يفمهمه كما يشاء.
مراجع: 1- كتاب سير القديسين بحسب المذهب الأرثوذكسي 2- كتاب أقباط ومسلمون تأليف جاك تاجر ص35 3- هي كلمة يونانية تطلق على الكهنة في الكنيسة الأرثوذكسية 4- تعني التجريد من الرتب الكهنوتية والحرمان من ممارسة الأسرار المقدسة 5- مجمع مسكوني مقدس 325م 6- هو الصلاة التي يصليها الكاهن على المعترف بعد الاعتراف والتي تعني قبول الرب لتوبته 7- إنجيل متى (26:26-30)، إنجيل مرقس (14:22-26)، إنجيل لوقا (22:14-23)