ماذا لو كنت أنت الله؟
وربما فقط كنا نحن كُتّاب القصة ولسنا مجرد أبطالٍ لها.
كانت الجملة السابقة هي الفكرة الثانية التي مرّت بخاطري تاركةً عينيّ في شرودهما نحو الفضاء في براح الاحتمالات، بعدما أثار حفيظتي لأكتب سؤالًا آخر في البداية.
هل فكرت يومًا أنك بطلٌ في قصة؟ أظن أن معظمنا في مرحلةٍ ما فكّرنا في هذا الخيال، بعضنا ظن أن هناك كاميرات تراقبه وأنه يمثل فيلمًا ما، أنا أيضًا كنت أفكر في هذا كثيرًا وأنا صغيرة لأقتل الضجر في أوقات لعب باقي الأطفال، ولما برز نهداي بدأت أُحوِّل تلك الكاميرا إلى الله الذي يراني دائمًا “ما زالت تلك الفكرة حاضرة تؤنس مخاوفي في ظلمات بعض الاحتمالات”.
وأحيانًا اليوم أفكر في الأمر نفسه لكن أتخيّل أنه ربما كل هذا مجرد حلمٍ سيمضي -لأبتلع غضاضة موقفٍ أو ألم جرح-
بين بطولة فيلمٍ أو مجرد حلمٍ أو بطولة قصة، كلنا فكّرنا في هذا بدون أن نسأل أنفسنا ومن يكون إذًا الكاتب أو الراوي لما يحدث؟ من حرّكني في الفصول الماضية عبر كل حكاياتي التي تستحق أن تُحكى برغم تفاهتها في عينك؟ من صنع لي كل تلك المآسي التي أبكتني في فراشي ساعاتٍ طوالًا ويستحققن الذكر رغم أنهن مآسٍ مكرّرةٌ عندك؟
سنتفق أيضًا أن الجواب الذي ورد لذهننا فورًا أن الكاتب هو الله.
فماذا لو كان الله مجرد كاتبٍ يكتب قصة “الحياة” ونحن كلٌّ منا شخصية رئيسة في قصته الضخمة، وما يكتبه يؤثر فينا حتمًا ولو توقّفنا نحن عن صناعة الحدث لن يتوقف الحدث نفسه عن صناعتنا.
هل جميعنا يستحق أن يكون شخصية رئيسية في قصته؟ هل يستحق المتسول المجنون أن يكون بطل قصة؟ هل تختار مدام عفاف موظّفة شؤون الطلاب كشخصية بطلة في مسلسل إذاعي حتى؟ لو كنت الكاتب هل تستحق أنت وحياتك أن يُخلق منك بطلٌ لقصة؟
الكل يستحق أن يكون بطل قصة، والكل حياته مجموعةٌ من الحبكات المتشابكة، ورغم أننا كلنا نتشارك كتابًا أو روايةً واحدةً يكتبها “الله” فإن لكلٍّ منّا فصلًا منفصلًا، ورغم تكرار المشاهد يبقى لكل واحدٍ انفراده بلحنه الخاص في معزوفة الحياة الضخمة.
أو ربما.. ربما فقط كنا نحن كُتّاب القصة ولسنا مجرد أبطالٍ لها.
وهنا تختلف الفرضيات، ماذا لو كنت أنت كاتب القصة ولست مجرد شخصية فيها، أنت صانع الأحداث وخالق المبكيات والمضحكات، ولو كنت تعلم أن شخصياتك ليست شخصيات خيالية تفعل فيها ما تشاء، لكنها شخصيات حقيقية تتأثّر بما تكتبه، فلو أوجعتهم توجّعوا، ولو أضحكتهم ضحكوا، ولو قتلتهم ماتوا.
ماذا لو كنت أنت الله؟
هنا تختلف الفرضيّة تمامًا، ربما ما لا تعرفه أنك بالفعل بالكلمات التي تنطقها، وبخطواتك وقراراتك الصغيرة تؤثر على حيواتٍ أخرى للإنسان، ربما ليس بالشكل المباشر الذي نصفه في الفرضيّة، لكني أؤكد لك أن كل ما تفعله من أفعالٍ صغيرةٍ يُؤثِّر بشكلٍ واسع المدى على الحياة كلها، ولو كان مجرد نفث دخان سيجارتك.
نعود لفرضيّتنا، ماذا لو كنت أنت الله في حياة الآخرين؟ تكتب قصتهم وهم يعيشون أحداثهم رُغمًا عنهم! قدرًا مقدورًا.
ماذا تفعل ببطلٍ يشبهك؟ وأتمنى أن تكون عزيزي القارئ تشبهني، نحن “اللاشيء”. أتمنى أن تكون حصلت على شهادةٍ جامعيّةٍ ولم تعمل بها، وتكون من أبناء الطبقة الوسطى التي تدافع اليوم عن عورتها بأسمالٍ بالية.
أتمنى أن تكون شخصًا عاديًّا لست مُميزًّا أو صاحب منصب، موظفًا عاديًّا، وحيدًا ككلب البحر، لا تستاء من أوصافي فهي تنطبق عليّ أيضًا.
نحن أبناء الخيبات والهزائم المتكرّرة، الجيل الذي رأى كل شيءٍ مُمكنٍ وكاد أن يلمس أحلامه حقيقة، لكنه فقط “كاد” ولم يفعل، نحن من شهدنا الأسوأ بعد أن عِشنا الأفضل، نحن من اكتشفنا بالطريقة الصعبة أنه لا يوجد قاعٌ لبئر التخلف.
ماذا تفعل بحياتك غير ذات القيمة؟ هل تستطيع أن تجعل حياة شخصيّتك تحتوي على قيمة فقط في موتها؟
إن كان الموت حتميًّا، وكانت حياة شخصيتك العادية لا تحتوي شيئًا من القيمة سوى في موتها بشكلٍ تراجيديّ، ربما تجعلها تموت فداءً لطفلٍ صغيرٍ ما رأيك؟
أظن أن هذا القرار اتّخذه البعض منا بالفعل في مرحلة الثورة، بعضنا وربما أكثريتنا رأى في موته شيئًا بسيطًا وهيِّنًا في مقابل القيمة الأعظم لنهايته، لكن من تبقّى منا ليشاهد أن النهاية التراجيدية لموت الرفيق البائس لم تُغيِّر شيئًا “حتى الآن” وقفوا عالقين بأبطالهم بين الموت والحياة، توقّفنا عن كتابة القصة كأن هذا التوقُّف جديرٌ بأن يُوقف الأحداث.
كنت أشاهد فيلم “Stranger Than Fiction” لمّا تدفّقت تلك التساؤلات عبر قصته الرائعة المثيرة للضحك والبكاء والأهم أنها مثيرةٌ للتساؤلات.
كانت الكاتبة البريطانيّة المشهورة بنهايتها التراجيدية دائمًا لقصتها تواجه عقبة الكاتب وتعيد التفكير مرارًا وتكرارًا مُرهقةً ذهنها لتخلق طريق موتٍ مثاليّةً لبطل قصتها، في الوقت نفسه كان بطل قصتها الروتيني الوحيد الموظّف الذي يشبهنا جميعًا يقضي حياته في اللاشيء، بدأ يستمع لخواطرها تتردّد وتروي قصته في عقله.
يجب أن تعثر على الطريقة المثاليّة لإنهاء روايتها عنه وقتله.
تلك كانت الخاطرة التي قلبت حياة البطل رأسًا على عقب لمّا عرف بموته الوشيك وانتهاء حياته، ولكن أيّ حياة تلك التي يُثمِّنها ويفقد أعصابه حين يسمع الراوية “الكاتبة” تفكر في إنهائها قريبًا، لماذا التمسُّك بدوّامة “اللاشيء” التي نحياها.
ظلّت الكاتبة تتقلّب في عقبة إيجاد الموتة المثاليّة وفقًا لقناعتها الفلسفيّة “حتميّة الموت” واتّساقًا مع مشروعها الأدبي المتمثل في التراجيدي دائمًا وقتل أبطال روايتها في النهاية، وهي لا تعرف بالطبع أن الشخصية الرئيسية في قصتها موجودة بالفعل وأنه يستمع لأفكارها وأصابه الهلع لمّا عرف أن هناك يدًا تتحكم بمصيره وتروي أحداث حياته وتفكر في إنهائها قريبًا!
يستمر البطل في محاولاته للتخلُّص أو التحرُّر من خيوط القدر وتحرير حياته وشخصه من مجرد عروسة “ماريونيت” إلى حياةٍ ذات قيمةٍ ومعنى، بمساعدة كاتبٍ آخر من قمم الأدب يدله على نوع قصته التي يظن أنه يحياها ويحاول أن يدفعه ليجعل لحياته معنى ويتحوّل من اللاشيء إلى شيء.. أي شيء، حبيب أو صديق حتى لأحدهم، شيء يصنع فارقًا!
ثم مع الوقت تحدث المقابلة، بين الكاتبة والبطل، الإله والمخلوق.
تنقلب خطط الاثنين، الكاتبة لمّا تيقّنت أن شخصياتها حقيقية وأن هؤلاء الناس البسطاء الذين تقتلهم ببساطة لصنع تراجيديا قد تصنع من روايتها الأفضل، هم بشر لهم مشاعر وحياة ولو كانت بالنسبة لها ليست ذات معنى ونهايتهم وحدها تصنع معنى لبؤس محياهم.
والبطل وقد فهم أن أمره مرهونٌ بحياته التي لم تكن ذات معنى بالأساس فربما لو كان شخصًا أفضل لكان لنهاية قصته معنى بحياته وليس بالضرورة بموته باكرًا!
فبعد أن صنع البطل لنفسه “حياة” في محاولاته الماضية، فاكتسب حبًا جديدًا، وتحرّر من رتابة حياته، وتشرّب حكمة الوجود وقدرته على صناعة فرقٍ فيه ولو كان مجرد بطلٍ في روايةٍ مكتوبةٍ على يد آخر.
وبعد أن عرفت الكاتبة أن نسختها الأصلية التي يموت فيها البطل هي الأفضل وستكون بمثابة علامة فارقة في الأدب الإنجليزي لكنها بهذا تُنهي حياة شابٍّ على الأرض فقط لأنه ليس بطلًا أسطوريًّا أو زعيمًا عامًّا أو شخصًا من وجهة نظرها -التي كانت تعتقد بها- يصنع فرقًا.
بقي الاختيار، هل تقتله؟
هل لحياتك معنى؟ حتى إن كنت أنت أنت، تظن أنك اللاشيء، وأن وجودك في الحياة بلا قيمة وموتك هو ما قد يصنع فارقًا، فتسعى نحو “الشهادة” لتظفر بشيءٍ بطوليٍّ في تلك الحياة التي تشبه حلبة ملاكمة وأنت مربوط الأيدي.
ورغم استسلام البطل لحقيقة الموت، وقبوله لنهايته المأساويّة، خاصةً لمّا قرأ حياته في روايتها وأبصر ما لم يبصر به من قبل، ورأى في موته فداءً لطفلٍ صغيرٍ نهايةً عظيمةً مستعدٌّ لها.
ورغم رأي الناقد الأدبي وتأكيده أن نهاية الموت للبطل هي الأفضل وهي ما تصنع من الرواية قصةً عظيمة.
فإن الكاتبة لم تقتله في النهاية.
في النهاية كل إنسان يستحق فرصة للحياة، وكل حياة تستحق فرصة للحكي، وكلنا كُتّاب لقدرنا ولو كان لقدرنا كاتب.