هل كان تأميم قناة السويس ضروريًّا؟
يثير هذا السؤال خلافًا نظريًّا منذ زمن طويل. ونعلم مقولة: “ولماذا كان التعجُّل في تأميم قناة السويس في حين كان يكفينا الانتظار حتى 1968 لاستعادة القناة”… وبالطبع، نجد أن أصحاب تلك المقولة ممن يعادون عبد الناصر، أو على الأقل ممن يَحنُّون إلى “العصر الملكي”، حتى إن لم يكونوا قد عاصروه. وعلى الجانب الآخر، نجد أن الذين يردون على تلك المقولة من “الناصريين” لا يعتمدون في ردهم إلا على إعجابهم الشديد بشخص عبد الناصر، وإن لم يُعاصروه، في محاولة لرفع الظلم عن شخص زعيم، دون الاستناد إلى الموضوعية العلمية بالحجج والأسانيد… فاسمحوا لي ببعض الموضوعية في عرض القضية، بعيدًا عن مؤثرات العواطف السياسية وانتماءاتها.
أولًا: قضية قناة السويس هي قضية مصر القومية منذ حفرها. والمطالبة باسترجاعها كان يُمثل مطلبًا وطنيًّا مصريًّا من قَبل الاحتلال البريطاني، أي قبل التأميم وقبل عبد الناصر بنحو ثمانين عامًا.
ولنتذكر الأحداث التالية:
- ألغى الخديوي إسماعيل استخدام السخرة وأمر باستعادة مساحات الأراضي التي كانت شركة القناة قد استحوذت عليها بناءً على نصوص فرمان الوالي محمد سعيد، الذي كان ينقصه الدقة. وقد أدى هذا الإلغاء إلى خلافٍ كبيرٍ مع الشركة عام 1864، وتوقّفت أعمال الحفر نحو عام. ثم تمّ تحويل القضية إلى التحكيم، واضطر إسماعيل تحت ضغط السلطان العثماني إلى قبول حُكم “نابليون الثالث” الذي عُيِّن مُحكِّمًا في هذا النزاع، رغم كونه على صلة قرابة بفرديناند ديليسبس رئيس الشركة حينئذ، والذي فرض على مصر سداد تعويضٍ للشركة قدره 84 مليون فرنك. فبدأ بهذا المبلغ عصر الديون الضخمة بالفوائد المركّبة التي تراكمت على مصر.
- تحمّلت الخزانة المصرية مبلغًا ضخمًا آخر قدره يزيد عن 88 مليون فرنك مقابل شراء 44% من أسهم شركة قناة السويس التي عجز ديليسبس عن تسويقها، وهذا من أجل أن يستمر المشروع وأن تتملك مصر حصةً غالبةً في الشركة (بالإضافة إلى 15% من الأرباح التي قررتها مواثيق تأسيس الشركة).
- كذلك اضطرت مصر لسداد نحو 40 مليون أخرى لسداد قيمة مشتريات متنوعة من أراضٍ ومخازن وآلات، مما أدى لتحمُّل مصر ما يزيد عن 212 مليون فرنك نقدًا في مشروع حفر قناة السويس، والذي كانت تكلفته التقديريّة 200 مليون فقط، وقت إصدار فرمان عقد الامتياز، وارتفع إلى 420 مليون، منها 120 مليون مصاريف إدارية ومرتبات لموظفي الشركة خلال فترة الحفر.
ومن تلك الأرقام الأوّليّة، يتّضح أن رائحة الفساد في العقد وفي التنفيذ وفي قرارات التحكيم واضحة منذ البداية، وكان يمكنها أن تزيد كثيرًا لولا وطنية الخديوي إسماعيل ويقظة رئيس الوزراء نوبار باشا. ولنتذكر قول إسماعيل: “أريد القناة لمصر وليس مصر للقناة”…
وبعد أن كانت بريطانيا معترضةً بشدة على مشروع حفر قناة السويس، خوفًا من سيطرة فرنسا على طريق الهند، وجد رئيس وزرائها المدعو “بنيامين ديزرائيلي” بمعاونة صديقه “روتشيلد” ثغرةً ينفذ منها إلى قلب مصر وقلب قناة السويس. فلم يكن ديزرائيلي سعيدًا بعدم مساهمة إنجلترا في ملكية أسهم قناة السويس، وظل مع أصدقائه من عائلة روتشيلد يتطلّعون للفرصة التي ستسمح لإنجلترا امتلاك أسهم القناة، كخطوة لامتلاك مصر كمستعمرة بريطانية. وظل ديزرائيلي يتحرك في الكواليس لخلق الظرف الملائم لتحقيق أغراضه. وتحددت الخطة لوضع الخديوي إسماعيل في مأزقٍ عن طريق تضخيم الديون المصرية باحتساب فوائد بنكية مركّبة ضخمة لا تستطيع مصر سدادها لفك أزمتها المالية. وقام صديقه مدير البنك البريطاني المستر “هنري أوبنهايم” بترتيب الأزمة وإدارتها حتى لا يكون للخديوي مخرجٌ إلا ببيع أسهم قناة السويس. وقد كان.. فتمّ البيع سنة 1875 في الخفاء بأموال اقترضها ديزرائيلي من صديقه “ليونيل روتشيلد” بما قيمته في هذا الوقت أربعة ملايين جنيه إسترليني. ثم ذهب بنيامين ديزرائيلي إلى الملكة فيكتوريا قائلًا: “الموضوع قد حُلّ يا مولاتي، فهي لك الآن، مصر وقناتها”، وكان يقصد أنه أوجد لبريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. (ويشرح دافيد لاندس في كتابه “بنوك وباشوات” كيف تم إحكام الخناق البنكي على مصر حتى تقع فريسة للاستعمار).
قام ديزرائيلي بترتيب سياسة بريطانيا الخارجية للتخلص من الخديوي إسماعيل، ووضع مصر تحت الوصاية المالية لبريطانيا، وتمّ تعيين وزراء مالية داخل الحكومة المصرية من الإنجليز لإدارة “الديون”، وانتهت بعزل الخديوي سعيد عن الحكم باتفاق بريطاني عثماني سنة 1879 وتعيين ابنه توفيق المتعاون مع إنجلترا. وبعد ذلك، وجه ديزرائيلي سياسة بريطانيا للبدء في خطة احتلال مصر في ظل حاكم مصري مطيع وسلطان عثماني متعاون. ولكن العمر لم يسعفه لدخول مصر كما كان يحلم على رأس الجيش البريطاني، فتوفي عام 1881، قبل عامٍ واحدٍ من الاحتلال الفعلي.
(وحتى ندرك أهمية مصر لبريطانيا، نذكر ما قاله اللورد كيورزون وزير خارجية بريطانيا عام 1909: “إن قناة السويس هي العامل الحاسم لأيّ عمل أو تواجد بريطاني خارج حدودنا”).
لعبت قناة السويس دورًا محوريًّا في الإعداد لاحتلال مصر، كما لعبت دورًا أهم في العملية العسكرية التي انتهت بالاحتلال. فعندما تصدى أحمد عرابي للغزو البريطاني في معركة كفر الدوار (مايو 1882)، وتراجعت القوات الإنجليزية، خشي عرابي أن تكون المحاولة الثانية عن طريق قناة السويس، فذهب إلى ديليسبس عارضًا فكرة ردم القناة، ولكن ديليسبس وعده بأنه لن يسمح بدخول الأسطول البريطاني في قناة السويس. لكنه أخلف وعده، ودخل الأسطول ونزلت القوات البريطانية بالإسماعيلية وهزمت الجيش المصري في التل الكبير وبدأ الاحتلال الذي دام 74 سنة يوم 13 سبتمبر عام 1882 من قناة السويس.
من أحمد عرابي إلى مصطفى كامل إلى محمد فريد ثم سعد زغلول، قامت حركات التحرر الوطني في مصر للمطالبة بجلاء الإنجليز واستعادة قناة السويس المرتبطة عضويًّا بالاحتلال، خاصةً أنه قد ثبت طوال عقودٍ الدورُ الاستعماريُّ الذي كانت تلعبه الشركة في مصر. لذلك أصبحت القناة والاحتلال مرتبطين في الوجدان الوطني على مر السنين والعقود.
ثانيًا: من الأحداث الجسام التي مرت بالتاريخ المصري الحديث، أحداث عام 1910
في هذا العام، دفعت بريطانيا شركة قناة السويس، التي صارت تحت سيطرتها الكاملة، إلى المطالبة بمد عقد امتياز استغلال القناة لفترة أربعين سنة إضافية، لينتهي العقد في 2008 بدلًا من 1968. وكانت حجة الشركة في هذا الطلب: أنه لتبرير التكاليف التي ستتحمّلها الشركة في توسيع القناة وتعميقها، عارضةً على الحكومة المصرية أربعة ملايين من الجنيهات لإغرائها بالموافقة. ويكشف عبد الرحمن الرافعي في كتاب «محمد فريد رمز التضحية والإخلاص»: «ظل المشروع في طيّ الخفاء زهاء سنة، وكان في عزم الوزارة إنفاذه بسرعة حتى لا يزعجها احتجاج الصحف الوطنية، ولكن محمد فريد تمكّن من الحصول على نسخة من المشروع في أكتوبر 1909، فبادر إلى نشرها في جريدة اللواء، ثم قفّى على أثرها ببيان أسرار المشروع وأسبابه، ومبلغ الغبن الذي يصيب مصر من ورائه، وشرح ذلك في سلسلة من مقالات مستفيضة، دلّت على سعة إلمامه بدقائق المسألة المصرية وملابساتها، من الوجهتين السياسية والمالية». وقد قاد محمد فريد والحزب الوطني، الحملة ضد مشروع مد الامتياز، ونجحت الحملة في إجبار الخديوي عباس الثاني والحكومة، على أن يحيل المشروع إلى الجمعية العمومية لاتخاذ ما تراه، قررت الجمعية تشكيل لجنة منها تعد تقريرًا بالموضوع، وعقدت جلستها العامة يوم 4 أبريل 1910 لمناقشته.
كان الخديوي عباس حلمي الثاني هو حاكم البلاد في ظل الانتداب والحماية البريطانية، لكنه قبل بعرض قضية مد الامتياز على الجمعية العامة (مجلس النوّاب). وبالفعل قامت الحكومة التي كان يرأسها بطرس باشا غالي بعرض الموضوع على الجمعية. وفي 7 أبريل واصلت الجمعية العمومية مناقشة المشروع، وجرى التصويت عليه نداءً بالاسم، وكانت النتيجة رفضه بالإجماع، ما عدا مرقص سميكة والوزراء، ووفقًا لقول «مصطفى الحفناوي»: «كان رفض المشروع عملًا رائعًا من أعمال الحزب الوطني بزعامة محمد فريد». إلا أن هذا الموضوع قد انتهى نهاية دراميّة بمقتل بطرس باشا غالي على يد إبراهيم الورداني.
وفي نفس تلك السنة، أصدر طلعت حرب كتابه “قناة السويس” شارحًا الخطورة الاقتصادية لمشروع مد الامتياز، وشارحًا الغبن المالي الذي تعانيه مصر من سيطرة الأجانب على قناة السويس من خلال الشركة، مُوضِّحًا أهمية استرجاعها في أقرب وقت.
وهكذا ظلت أحداث 1910 عالقة بالأذهان، مُؤكِّدةً على فرض بريطانيا سيطرتها على القناة وعلى مصر باستخدام شركة قناة السويس لتثبيت أقدام جنود الاحتلال.
اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، وزادت أهمية قناة السويس بصفتها مرفقًا ملاحيًّا تابعًا لبريطانيا خلال أحداثها العسكرية، خاصةً المعارك مع الجيش التركي. كما شهدت تلك الفترة اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة ثم وعد بلفور، وكلها تدور حول الدول المجاورة لمصر، مع تشبُّث بريطانيا المهول بمواقعها المصرية وقواتها على ضفاف قناة السويس. وكانت أحداث ثورة 1919 لنيل الاستقلال المصري هي رد الفعل الوطني على مواقف بريطانيا الاستعماريّة الغليظة. ومنذ ذلك الوقت وحتى خروج جنود الاستعمار من مصر، مارست بريطانيا سياسة تجزئة الاستقلال في جرعات مُخفّفة: في 1922 ثم في 1936 ثم في 1954… ليس لسببٍ سوى رفض ترك موقع قناة السويس للمصريين.
ثالثًا: مواقف الإدارة الأجنبية لشركة قناة السويس
خلال مراحل النضال الوطني المصري من أجل الاستقلال كانت متطابقةً مع مواقف المستعمر، لدرجة أنها وُصفت بالشركة الاستعماريّة من قبل خبراء دوليين درسوا ممارسات الشركة (كتاب السيدة الفرنسية الدكتورة كارولين بيكيه عن قناة السويس). وقد أظهرت المستندات التي وُجدت بأرشيف الشركة ما هو أكثر من ذلك، فمثلًا:
- أظهرت المستندات أن الشركة لم تكن إلا ستارًا في باريس يخفي السلطة الحقيقية التي تدير قناة السويس، وهذه السلطة هي حكومة إنجلترا، فوزارة الحرب البريطانية تهيمن على قسم الأشغال بالشركة، وهي التي تشرف على المشروعات الجديدة وتراقبها، والبحرية البريطانية هي التي تهيمن هيمنةً تامّةً على قسم الملاحة وإدارة التحرُّكات بقناة السويس، ولها فيه عيون بعضهم بدرجة أميرال، ووظائفهم الظاهرة وظائف إدارية بقسم الملاحة، أما الإدارة العامة للقناة فكانت تخضع للإشراف الأعلى للجنة متواضعة في لندن، أسمتها حكومة إنجلترا اللجنة الاستشارية لقناة السويس، وكانت تضمُّ أعضاء مجلس إدارة الشركة الإنجليز من أمثال لورد “هانكي”، وسير “ألكسندر كادوجان” وآخرين. ولهذا، حرصت حكومة إنجلترا منذ احتلالها لمصر في سنة ١٨٨٢ على احتكار السـيطرة التامة على قناة السويس، واستمر الحال كذلك حتى تأميم الشركة في ١٩٥٦.
- كذلك أظهرت المستندات أنه في الحروب التي مرّت منذ افتتاح القناة، وخصوصًا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ألقت بريطانيا بثقلها على قناة السويس، وسارت الحركة الملاحية لصالح حلفاء الغرب وحدهم، وحُرِّمت الملاحة تحريمًا تامًا عبر القناة، على ألمانيا وحلفائها، وذلك على الرغم من نصوص معاهدة القسطنطينية لسنة ١٨٨٨. وكان هذا من أسباب ترجيح كفة حلفاء الغرب.
- وفي أوقات الـسلم بنت الحكومة البريطانية اقتصادها على أساس المزايا المستترة التي تحصل عليها بفضل سيطرتها على قناة السويس؛ مزايا سرية وغير ظاهرة تتمثّل في الغش في قياس السفن التي تحمل بضائع لحساب إنجلترا من الجنوب إلى الشمال بالنسبة للمواد الخام، ومن الشمال إلى الجنوب بالنسبة للسلع المصنوعة في إنجلترا. وكذلك في ترتيب السفن في القوافل، وتمييز السفن البريطانية والتي تحمل بضائع لحساب بريطانيا عن غيرها. وإذا ترجمت هذه المزايا المستترة إلى أرقام يتبين كيف استطاعت بريطانيا أن تغزو أسواق الشرق. ومعنى ذلك أنه إذا رفعت قبضة بريطانيا عن الحركة الملاحية في قناة السويس، فإن اقتصاد إنجلترا يُعرّض للانهيار؛ إذ يتحتم عليها أن تبني اقتصادها بدون الاعتماد على السيطرة الاستعماريّة. وهذه الحقيقة تأكّدت بالعديد من الوثائق والأرقام والإحصاءات في ملفات شركة قناة السويس السرية التي وقعت تحت يد د. مصطفى الحفناوي بأرشيف الشركة في باريس، ومتواجدة حتى الآن بأرشيف الشركة في مدينة روبييه بفرنسا.
- كانت أهم وثيقة وجدت بأرشيف الشركة، والتي صارت فيما بعد السند القانوني لحق مصر في تأميم القناة، هي ما يثبت أن عقد امتياز الشركة المطبوع -الذي تعاملها من خلاله حكومة مصر- كان مُزيّفًا مُلفّقًا منذ احتلال إنجلترا لمصر في سنة ١٨٨٢، وأن العقد الأصلي الذي صدّق عليه السلطان العثماني، والذي نصّ على جنسية الشركة، وأنها شركة مساهمة مصرية تخضع للقوانين التي تصدر في مصر، ولاختصاص القضاء المصري، هذا العقد سُرق من مصر، وقد وقعت نسخته المسروقة في يد د. الحفناوي عام 1950، فانتزعها من الملف، وسلّمها لوزارة الخارجية في القاهرة، وأُودعت بمحفوظات مجلس الوزراء.
رابعًا: ظهرت نوايا إدارة الشركة لما بعد انتهاء مدة الامتياز، من خلال واقعة يرويها د. الحفناوي في مذكراته كما يلي:
((ذات صباح في خريف سنة ١٩٥٠ كنت أتصفّح ملفًا، وكنت جالسًا بالحجرة الـصغيرة التي كنت أستعملها داخل شركة قناة السويس بباريس، فإذا برئيس الشركة “شارل رو” يدخل بغتةً باشًّا ومُحيّيًا، وأمسك بذراعي وقال: يا صديقي العزيز يا صديقي… وكرر التحية بضع مرات، وطلب مني مصاحبته إلى غرفته لنتحدث في أمرٍ هام. وغاص العجوز الماكر في مقعده الوثير، وأنا جالس أمام مكتبه في مقعد آخر وثير، وخلع منظاره لتنظيفه ثم وضعه على عينيه، ونظراته قد سلّطها خلسةً من تحت عدسات المنظار، وأحسست أنه يمعن النظر في قسمات وجهي، ويراقب انفعالاتي، ونبضات قلبي ثم تكلّم فقال: أريد أن أقترح عليك مسألةً تدافع عنها في كتابك، (والمقصود هو كتاب باللغة العربية عن إنجازات الشركة، كان شارل رو ينتظره من د. الحفناوي، فسمح له بالاطلاع على ملفات أرشيف الشركة في باريس)، ولو فعلت فإنك ستصل في شجاعتك الأدبية حد الذروة، وستكسب احترام العالم المتمدين، وسوف ينتشر كتابك، ويذيع صوتك، على نحو غير مسبوق. وسوف تفتح لنفسك باب مستقبل عريض ضخم، وتصبح من كبار الرجال في العالم. اسمع يا صديقي وفكر معي وتأمّل.. إنك توافقني -بطبيعة الحال- على أنه يستحيل ترك القناة بغير حراسة، وقوة مزوّدة بأحدث الأسلحة لدفع أيّ عدوان عليها، وثق أن روسيا السوفيتية لن تتردد في احتلال بلادكم، واحتلال منطقة القناة بالذات، إذا جلت القوات البريطانية عن قناة السويس، والحل الأمثل هو حراسة القناة بقوات دولية تعينها الأمم المتحدة، وتتواجد في منطقة قناة السويس تحت راية الأمم المتحدة، وهذا ينفي عنها لون الاحتلال الأجنبي الذي لا ترضونه؛ ذلك أن القناة ممر مائي يستعمل في خدمة التجارة الدولية، وواجب الأمم المتحدة أن تحرس هذا الشريان وتدرأ عنه أيّ اعتداء.
وتوقّف شارل رو لحظات قبل أن ينتقل إلى الشق الثاني، وكانت نظراته الفاحصة لا تفارقني، وكأنه يحاول أن يقرأ ما في عقلي، وكنت قوي الأعصاب مسيطرًا على انفعالاتي تمامًا؛ حتى لا يرتاب في أمري. ولاحظت أن الكلمات كانت تنكسر بين شفتيه، وكان يتلعثم مع أنه مُحدِّثٌ بارع، وكاتب وأستاذ أكاديمي، ذلك لأنه كان يؤمن في قرارة نفسه أنه غشاش ومخادع، وأنه كان يدعوني للخيانة بلا تورُّع ولا حياء. وقد استرسل وأمعن حينما عرض الشق الثاني من مشروعه، مُتحدِّثًا فـيه عن إدارة قناة السويس المستقبليّة، وفي ذلك قال بالحرف الواحد:
“بعد انتهاء امتياز الشركة في ١٦ من نوفمير سنة ١٩٦٨، بل يمكن أن يكون قبل انتهاء الامتياز، وباتفاق خاص يعقد مع شركتنا، ويُعوِّضها عن الأضرار، تقوم الأمم المتحدة بتعيين لجنة دولية تحل محل الشركة في إدارة قناة السويس واستغلالها. وفي هذه اللجنة تمثل الدول العظمى، ويكون لمصر مقعد واحد، وعضو يمثلها في اللجنة الدولية، وباعتبارك صاحب الاقتراح لن ترشح الحكومة المصرية سواك، وستكون أول من يجلس في هذا الكرسي الدولي، وسوف يضفي عليك مكانة عالمية ضخمة. وكي أكون صريحًا معك إلى أقصى حد، أنبهك إلى أنك سوف تصادف متاعب -في أول الأمر- من أهل بلدك، ولن يفهموك بسرعة. وأذكرك بأن المرحوم الدكتور أحمد ماهر قُتل وراح ضحية شجاعته في الرأي، ولكنه خُلِّد في التاريخ كمثلٍ في الشجاعة الأدبية. وأنت الآخر يجب أن تكون شجاعًا، وتدافع عن رأيك، ولو خالفك أهل وطنك. والآن، أحب أن أعرف منك رأيك في هذا المشروع، وهل تستطيع أن تتبناه؟
قلت له: سأعرضه بالطريقة التي أراها ملائمة، وأرجوك أن تترك لي فرصة التأمل والتفكير فيه.
وكان محدثي من قصر النظر بحيث شفع العرض المتقدم برشوةٍ مُقنّعةٍ عرضها بأسلوبٍ خبيث، ولكنه كان مكشوفًا. سكت دقائق، وهو مستمر في ملاحظة انفعالاتي وقسمات وجهي ثم قال: هل أستطيع أن أعرف راتبك الشهري في السفارة المصرية؟ قلت: ولماذا؟ قال: إنهم يتهموننا في مصر بأننا نبخل على المصريين بوظائف الشركة، والحقيقة أننا لم نُوفّق لذوي الكفاءات المؤهلين لوظائف الشركة التي لها مسئولياتها، وتتطلب تأهيلًا رفيع المستوى. وأنت يا صديقي فيك كل الصفات التي تؤهلك لمناصب الشركة، أنت قانوني، ومؤرخ، وكاتب، وعالم، ودبلوماسي، وتجيد الفرنسية والإنجليزية، وهذا أقصى ما نطلبه في المرشحين لوظائف الشركة. ألديك مانع من أن تترك خدمة السلك السياسي، وتشتغل معنا؟ إنني أقدرك، وأعواني يقولون أنك عاقل ومتزن، ويثنون عليك أطيب الثناء. فما رأيك؟
وأجبته بقولي: أرى أن تنتظر حتى يظهر كتابي، وتعرفني معرفة تامة)).
ثم كانت رسالة الدكتوراة في القانون الدولي في السوربون عام 1951 التي أثبتت ممارسات الشركة الاستعماريّة وحق مصر في استرداد القناة، فاعترفت جهة علمية فرنسية بحق مصر في استعادة قناة السويس. ويُذكر أن محمد صلاح الدين باشا، وزير خارجية مصر في ذلك الوقت، قد كتب مقدمة للرسالة، أوضح فيها أنها تعبر عن الموقف الرسمي للحكومة المصرية (حكومة الوفد). ومن بعد تاريخ نشر هذه الرسالة، ونشر مخالفات الشركة المالية والإدارية على الملأ، بدأت الشركة في إصدار تعليمات لكل إداراتها بالتوقف عن الصرف على أيّ تحسينات في المجرى الملاحي أو في صيانة المعدات الثقيلة مثل الكراكات وغيرها، حتى يأتي موعد انتهاء الامتياز، فإن لم تقبل مصر بالمد، فسيتم فرض نظام جديد دولي لإدارة القناة بعيدًا عن الحكومة المصرية… وكانت كل تلك التعليمات والتوجيهات الإدارية قد عثر عليها بملفات الشركة في مقرها بالقاهرة والإسماعيلية عند التأميم، وتم إيداعها بمحفوظات هيئة قناة السويس بعد اطلاع المخابرات العامة على محتواها.
الخلاصة: إن المطالبة باسترجاع (أو تأميم) مصر لقناة السويس كان مطلبًا وطنيًّا مصريًّا من قبل 1952 بسنوات طويلة، وإن المستعمر البريطاني، وشركة القناة التي كان يهيمن عليها، كانا قد استعدا لتدويل القناة لإبعادها عن مصر. أما عبد الناصر، فلم يكن إلا الرئيس المصري الذي تواجد في ظرف تاريخي في موقع السلطة لينفذ المطلب الوطني المصري الذي طالب به كل المصريين وأحزابهم منذ عقود طويلة.
الحكم التاريخي على الأحداث ليس به عواطف وانتماءات سياسية… ألا نعقلها؟!