قصّة: المنزل السعيد
يدقُّ باب السيد آرثر قرابة الساعة العاشرة صباحًا . . . . يفتح هذا الأخير، ليجد أمامه سيدة متأنقة، عليها معطف خفيف أسود اللّون، يتماشى جدًا مع تنورتها القصيرة التي تُغطي ساقين نحفيتين يميلان إلى السمرة قليلًا، أمّا وجهها فكان يعكِس جمالًا أنثويًّا يسلِب الألباب، فقد كانت عيونها عسليّة مغطاة بنظارات متوسطة الحجم، تجعل أي شخص يشعر أنّه أمام أعينٍ ذكيّة وكبيرة تحدِّق فيه، إضافةً إلى شعر أملس متدلي وحريريّ مربوط بعقدة في آخره يشبه في ذلك ذيل فرس أصيلة . . .
قالت السيدة:” مرحبًا، أنا الأخصائيّة النفسيّة مرنا تيريزا التي أرسلتها شركة ستيفنسون للقيام بتقريرها عنك يا سيد فان آرثر، أتمنّى أنّك على علم بذلك؟ للوهلة الأولى كان آرثر فاغر الفاه، محدِّقا مِلأ عينيه إلى الآنسة الفاتنة أمامه، لكنه يعدّل من نفسه سريعًا مدّعيا اللامبالاة ومتلفظًا بجوابه:” نعم، لقد كنت في انتظار مبعوث الشركة حتى استقبله . . أرجوك تفضلي”.
لقد كان آرثر قد تقدم لوظيفة مهندس برمجيات من قبل في شركة ستيفنسون كونه قد أنهى دراسته الجامعية للتو، منثلاثة أشهر تقريبًا، حيث قال لنفسه: ” لقد انتهى وقت المرح، وحان الوقت لإيجاد وظيفة تناسب معارفي، ابدأ بها في بناء حياتي”.
إلّا أنه قد استغرب وجود شرط الموافقة من طرف أخصائي نفسيّ ضمن شروط القبول في الوظيفة، الأمر الذي دعاه إلى طرح السؤال على السكرتيرة التي كانت حينها مشغوله بتعبئة المعلومات التي تخصّه في حاسوبها، ومن غير أن ترفع رأسها تجاهه، أجابته:” إنّ توفر وظيفة مهندس البرمجيات كان بسبب انتحار الموظف السابق من بناية الشركة، ولتفادي مثل هذه الحوادث مستقبلًا، تم إضافة شرط موافقة أخصائي نفسي على طلبك التوظيف هذا”.
لم يعر آرثر السكرتيرة أي انتباه، ذلك أنّه كان يظن أنها فكرة فاشلة، مع احتمال أن المهندس السابق ربما قد قُتِل ولم ينتحر!
تُدخِل الآنسة تيريزا الملاحظة التالية ‘صالة كبيرة على يمينها، تحوي أفرشة مزخرفة برسومات قديمة لكنها جميلة جدًا’
قالت هذه الأخيرة فأجاب الشاب على تعليقها: ” هيا سأريك بقية تفاصيل البيت، فأنا متأكد أن ذلك سيساعدك في تقديم تقريرك”
ارتبكت الأخصائية النفسية من فكرة اكتشاف بيت هذا الشخص الغريب، لكنها مشت معه بفعل لا إراديّ، وهي تنظر إلى وجهه الذي يبث السرور و البهجة، لقد كان الشاب متوسط القامة، عسلي العيون هو الآخر مثلها، ذو لحية سوداء خفيفة ومهذبة، تضفي عليه مزيدًا من الوسامة، إلّا أنه كان يكره شعره الخشن والداكن، حيث كثيرًا ما كان يغطّيه بقبعة تليق به، حتى لا تُنقص وسامته. ” هيا، يا آنسة، ستستمتعين، أؤكد لك”، تكلّم الشاب بنبرة تدلّ على حماس ورغبة.
لقد كان آرثر في الواقع، يريد أن يستبدل الجلسة المملة التي ستقوم بها هذه الفاتنة بشيء أكثر فائدة كموعد معها، مثلًا.
لقد علم الشاب الوسيم أنه لن ينال فرصة للتعرف على الآنسة تيريزا، بما أنّها الأخصائية النفسية فستكون جميع الأسئلة من حقّها فقط، حتى نوع هذه الأسئلة لا يغلب عليه الطابع الشخصي، فكان الحل أن يجعلها ترى البيت الذي يسكن فيه، لكي يلفت انتباهها إلى شخصيته الحاذقة، فكرة خطرت له لما أظهرت إعجابها بزخرفة الصالة التي شاهدتها . . . فما الذي كان يتميز به منزل الشاب آرثر عن بقية المنازل؟
كان المنزل يحوي الصالة التي شاهدتها تيريزا، وإضافة لأربع غرف متوسطة الحجم، تأتي متناظرة على طول رواق ممتد، مع مطبخ أكبر بقليل يبدأ بعد نهاية الرواق وفي خلفية المنزل كانت توجد حديقة صغيرة حافلة بأنواع من الزهور لكن هذه الغرف مع المطبخ والحديقة لم تكن كأي شيء مألوف في البيوت بل كانت كل غرفة تحكي عالمًا بحاله.
الغرفة 1:
كانت هذه الغرفة الأولى التي تأتي في الترتيب بعد الصالة، كل بقعة جدار منها تحمل طلاءً مختلفًا عن الآخر، أشبه بالّلوحات الفنية التي تكون بمثابة خليط غير متناسق من الألوان، تحمل الغرفة في داخلها قطعة خشبية بحجم كرسي، وأوراق رسم كثيرة مبعثرة، بعضها ممزق، وبعضها الآخر قد فقد شكله المنتظم تحت ضغطة اليد العنيفة إلا أنه بجانب القطعة الخشبية، كانت هناك صورة للوحة ليوناردو دافنشي الموناليزا، بجانبها ورقة رسم تناسب حجم صورة الموناليزا، فيها نصف وجه فقط، من غير تلوين . .
أما على الأرضية، فقد كان هناك أقلام كثيرة مرمية، منها أقلام للرسم مختلفة في سمك الرأس، و منها أقلام للتلوين بفرشاة في آخرها، و أقلام تلوين بغير فرشاة، أيضًا بعض المقابض الحديدية الحادة، مع شيء من السكاكين الصغيرة والبراغي.
لقد كان آرثر يسمي هذه الغرفة بــ غرفة الفن . . ذلك أنه خصصها للأعمال الفنية كالرسم والنحت، فكان يأتي بصور اللوحات العالمية ويحاول تقليدها بدقة . . صحيح أنه كان يفشل غالبًا، إلا أنه كان قد تحسّن كثيرًا بتراكم المحاولات . . .
المحاولات التي كانت محبوسة في تلافيف الأوراق الملقاة على الأرضية، حاملة في داخلها تقليدًا لــسانتي رفائيل ومايكل انجلو، وفي هذه المرة الموناليزا لدافنشي . . .وبجانب الرسم، كان النحت ميزة ثانية لتلك الغرفة الملطخة جدرانها، فقد كانت القطعة الخشبية المتمركزة وسط الفوضى الفنية نموذجًا ليبدأ آرثر فيه مشوار النحت، تقليدًا كذلك لكبار النحاتيين كــمايكل أنجلو أو برنيني الذي يملك لهما بعض صور التماثيل للملائكة التي نحتوها في كنائس روما الإيطالية، رغم أنه لم يكن يملك العِّدة اللازمة، لكن المقابض الحديدية الحادة كانت بداية لابأس بها . . .
لم تكن الغرفة الأولى دومًا غرفة الفن، حتى ثار فضول آرثر لما راح صديقه ريتشارد يمدح لوحة الموناليزا، ويتفاخر بنسبه الإيطالي مع الفنان والرياضي الكبير دافنشي، أما آرثر فقد أحس بفجوة في قلبه، حيث لم يشعر بأي تعظيم لهذه اللوحة رغم الشهرة التي تتمتع بها، فعلم أنه لابد من تجربة شيء واحد لكشف كنهها . . . رسمها . .
بالمحاولات العديدة التي كان يقوم بها هذا الشاب، صار يجد نفسه يعجب بهذا العمل الفني للإيطالي الشهير، وأنه يقع في حب هذه اللوحة شيئًا فشيئًا، يزيده ذلك تحفيزًا ورغبة في بلوغ متعة أكبر مع كل محاولة أكثر جدية . . . تبدأ عاصفة من العواطف والأفكار تخالجه حينما يمسك تلك الريشة، واضعًا بها خطًّا على تلك الورقة كأن دافنشي نفسه قائمٌ ليرشده . . بل كأنه دافنشي بنفسه . .
الغرفة 2:
تقع الغرفة الثانية في الجهة المقابلة للغرفة الأولى من الرُواق، تواجهك نافذة كبيرة عند دخولك من الباب في نهاية الغرفة، بها ستار أصفر ذو شراشف حمراء في حال ظهور شمس ساطعة، وفي وسط الغرفة توجد طاولة صغيرة، عليها مزهرية تحمِل بعض الورود الاصطناعية يحيط بها الكثير من المجلات العلمية المكدَّسة، التي يوجد بعض منها كذلك في الرف الثاني لخزانة الكتب التي كانت في الزاوية اليُمنى للنافذة. حيث كان الهدف من هذه الأخيرة شيءٌ واحد ألا وهو تحديد الأزمنة التي يمكن أن يظهر فيها أحد الشهب عابرًا السماء، حتى تمكَّن آرثر من إبصاره بواسطة التيليسكوب الصغير المثبت عند النافذة الكبيرة الذي لم يستطع تدبير ثمنه إلا بالعمل في وظيفتين بدوامين متعاقبين، لكنّه نسي كل ذلك لحظة وضعه عند النافذة قائلًا بعد أن تنفس بعمق:” لقد كان الأمر يستحق العناء”
لقد كانت أغلب المجلّات الموضوعة على الطاولة تابعة للفيزياء، تتحدث عن كل مسبار يتم إرساله في رحلة استكشافية في الفضاء، وتصف بدقة الكواكب وتشكيلة النجوم والمجرات التي كان يُفضِّل من بينها مجرة اندروميدا لإعجابه بهذا الاسم، فقد كان يُفضِّله على اسم مجرة درب التبانة حتّى.
أما المكتبة الصغيرة التي كانت على يمين النافذة، فقد كانت تحوي كتب شارحة في الفيزياء والرياضيات، في أعلاها كتاب المبادئ لنيوتن قد جعله آرثر هناك تبجيلًا لمقام هذا العالم الكبير، ولو أنه يهوى كذلك جمع المخطوطات القديمة، وكل ما له صلة بالآثار؛ فيوم شراءهِ لكتاب المبادئ كان من أسعد الأيام في حياته.
لم تكن الغرفة الثانية فقط لانتظار الشهب العابرة، ومشاهدة النجوم في صفاء الليل البهيج المقهور بالصمت والسكينة، وإنما كذلك لمحاولات أخرى مثل رسم الموناليزا لكن في عالم الرياضيات والفيزياء، حيث كان آرثر يملك سبورة قديمة يأتي بها إلى الغرفة الثانية للقيام بحسابات يفهم بها نظرية فيزيائية ما، أو يراهن نفسه على التوقع بموقع نجم أو كوكب معين قد تم كشفه في مجلة فيزيائية، لينظر هل طابقت نتائجه ما كُتب في المقال أم لا؟
رغم أخطاءه المتكررة، إلّا أن ذلك ساهم في تنقيح معلوماته في الفلك والفيزياء بشكل ممتاز، وجعلته يمتلك لباقة التحدث مع المتخصصين في هذه الميادين.
كما بحث آرثر في غرفته الأولى عن شعور دافنشي وهو يرسم لوحته، كذلك فعل مع تيلسكوبه في ليالي الحرِّ والبرد، يسأل نفسه:” هل هكذا كان يشعر غاليلي وهو يراقب السماء؟”.
وكما شعر بروعة النظر إلى الموناليزا بعد محاولته رسمها، فراح يبحث عن شعور نيوتن وهو يرقب السماء ويدون قوانينها في كتبه.. يقول لنفسه:” هل سأستطيع بلوغ ذلك الشعور الذي ناله ذلك العبقري؟”
ففي الأخير، هذه هي الغاية كلّها من هذه الغرفة.
الغرفة 3:
الغرفة الثالثة كانت على مستوى واحد مع الغرفة الأولى، في الجهة المقابلة من الرواق للغرفة الثانية، مطلية بلون قرمزيّ اللّون، بداخلها مجموعة مختلفة من الثياب المُبعثرة على حسيرة مهترئة قد نال الزمن من نسيجها، لكنه كان تبعثرًا منظمًا إلى حد ما، حيث كانت هناك ثلاث مجموعات من الثياب المتراكمة فوق بعضها، بجانب كل فوج بعض الكتب الصفراء والمتوسطة الحجم.
تلك الثياب كانت تابعة لأزياء المسرح، التي كان يرتديها طلاب تخصص الفنون في الجامعة التي درس فيها آرثر تقليدًا لأهل القرن السابع عشر، نوع اللباس الذي كان يرتديه فولتير تمامًا والذي كان يفضله آرثر على بقية الأزياء التي قام بسرقتها من خزانة المسرح الخاص بالجامعة مع بعض السمفونيات المسموعة، كي يتسنى له أداء المسرحيات التي يهواها قلبه.
تأتي مسرحيات وروايات شكسبير بجانب الكومة الأولى من ثياب القرن السابع عشر.. يرتديها آرثر دومًا إذا أراد قراءة مقاطع من أعمال شكسبير.. حيث يأخذ لباسه المفضل الذي يمثل صورة عصر التنوير، ويقوم بأداء دور هاملت، مجيئًا وذهابًا، داخل غرفة خشبة المسرح كما يحب أن يسميها، رافعًا نبرة صوته، مُلوِحًا بيديه، ومعبرًا بعينيه، كل ذلك تشبُّهًا بأحوال الطبقة الملكية التي كان ينتمي إليها هاملت، وأحيانًا أخرى يشغل نوعًا من الموسيقى الهادئة أو الحماسيّة، تِبعًا للمقطع الذي يقوم بأدائه من المسرحيّة، حتى يُضفي حيويًّة أكثر على المشهد.
المشهد الذي كان يقوم بمتابعته بكاميرا يضعها في الثقب الذي حفره بنفسه، داخل جدار الغرفة، مقنعًا نفسه أن إحداثيات هذا الثقب هي الزاوية المُثلى للتصوير، معتبرًا بذلك معادلاته التي قام بحسابها ضمن سبورته القديمة في غرفته الثانية، لكن مشهدًا واحدًا فقط لم يَرقه، حينما لعب دور اليهودي انطونيو في مسرحية تاجر البندقية فقد كان مرتديًا بِذلةً سوداء تقريبًا، مع قميص أبيض واسع العنق، متفرع الأكمام عند الرسغ، يتلعثم ببعض الكلمات العبريّة، يضحك على نفسه، شأن:” شالوم، نوخاليم ادوناي”. وأخيرًا بوكر توف التي كانت تعني صباح الخير.
التصوير الذي يقوم به آرثر، كان يعود لمشاهدته كل عشية يوم الإثنين، حيث كان يعود متأخرًا إلى المنزل، بعد عملية التنظيف التي كان يساعد بها جارته العجوزة ماريا، البالغة من العمر ثمانين سنة، والتي لم يمض طويلًا على احتفالها بعيد ميلادها مع جارها الشاب، الذي أحضر لها كعكة بالفراولة كان قد أعدَّها بنفسه من كثرة مشاهدته لبرنامج الطبخ الذي يُعرض كل أسبوع. آرثر الذي لم يكن يبحث إلّا عن مساعدة نفسه بالارتقاء في الحس الإنسانيّ، بمساعدته للعجوزة ماريا التي تشكره هذه الأخيرة دومًا معبِّرة:” الملاك الذي أرسله لي الرب”.
كانت هذه الغرفة كسابقاتِها؛ مُحاولةً لفهم الفن المسرحي وشخصيات العصور والحقب المختلفة، مثرية بذلك مشاعر آرثر بشكل عميق.. مشاعر الأغنياء. مشاعر الملوك. مشاعر العبيد. مشاعر الأطفال. مشاعر النساء. مشاعر الفلاسفة، كل ذلك يجعل آرثر قادرًا على إدراك صدى وعمق هذه الأعمال العظيمة والفنون المُلهمة، قادرًا على فهم الأحاسيس التي تمتَّع بها رجل من القرن السابع عشر، أحاسيس عاشها شكسبير، وأخرى خَبِرها فولتير، كل ذلك من غير أن يكون شكسبير أو فولتير ومن غير أن يكون حاضرًا بالقرن السابع عشر حتّى.
ففي الأخير، هذه هي غاية غرفة خشبة المسرح!
الغرفة 4:
هذه الغرفة تحمل اسمًا مكتوبًا على الحافة العلوية لبابها. كان الاسم كلمة الموسيقى لكن باللغة الألمانية، للموسيقيِّين الألمان العمالقة موزارت، وبيتهوفن وسيباستيان باخ الذين امتلك آرثر شيئًا من أعمالهم الفنيّة ولم يزعجه إلا كون موزارت نِمساويًّا، لكنه أقنع نفسه أن أهل النمسا يتكلمون اللغة الألمانية كذلك.
لم تكن هذه الغرفة تحوي إلا سريرًا للنوم في الزاوية التي تقابل باب الغرفة، بجانبه جهاز لتشغيل الأسطوانات موضوع على خزانة صغيرة بداخلها الأسطوانات الثلاث التي سرقها آرثر مع ملابس المسرح للقرن السابع عشر. كانت هذه الأخيرة مرتبة بحسب ظهور مؤلفوها بدءًا بـعمل باخ ( 1685-1750) قطعة الهدية الموسيقية التي قدمها للملك فريدريك الكبير عام 1747، تحتها سمفونية الناي السحري لموزارت ( 1756-1791)، وأخيرًا ضمن التشكيلة احدى سمفونيات لودفيج بيتهوفن ( 1770-1827) حيث كانت هذه الثلاث تمثّل كنزًا كبيرًا بالنسبة لآرثر، فلا شيء يَجعله يتصالح مع نفسه مثل هذه النغمات.
لم يكن آرثر يجد متعته فقط في الاستماع إلى هذه الموسيقى المقدسة على يد الاساتذة الألمان، ولكنه يحول كذلك أن يكتب خربشات موسيقية هي الأخرى تشكل سمفونيته الخاصة، التي كان يختبر وقعها على الأذن بالبيانو الخاص بالجامعة، والتي غالبًا ما تجيء في أصوات غير متناسقة تؤذي سامعيها أكثر من أن تضفي البهجة على أرواحهم، مؤمنًا في قرارة نفسه أن ذلك يزيد من بصيرته وذكائه.” أينشتاين كان يحبًّ العزف على الكمان” يقول لنفسه آرثر، ويستطرد مُكمِلًا:” أي روح سامية ونقية تلك التي كانت بين جنبي موزارت أو بيتهوفن. أي عالم كانا يعيشان فيه يا تُرى؟”
لقد آمن هذا الشاب بأن الموسيقى غذاء الروح، فلا شيء في العالم يمكن أن يضاهي قطعة موسيقية تَمدّك بالسكينة مُشعِرة إياك أن الزمن لا يحيط بك وأنه قد توقف، أنه لا يوجد ماضي ومستقبل، يوجد فقط الحاضر. يتساءل آرثر:” إذا كان الفنان الماهر يستمد العظمة من هؤلاء العمالقة أمثال دافنشي وبيتهوفن، فمن أين يستمد دافنشي وبيتهوفن هذا كلّه؟”. ثم يجيب، وتعابير الدهشة بادية على وجهه:” لقد كانوا أنبياء، والفن هو الوحي الذي أعطاه الله لهم، أنبياء كموسى ومحمد، لكن بشريعة مختلفة فقط”
في غرفة الموسيقى، كان يستمع بكيانه مُجتَمِعًا إلى وحي هؤلاء الملهمين، ساعيًا أن يكون هو الآخر له وحيه الخاص به يومًا ما.
بانتهاء الرواق تنتهي الغرف الأربع، لتبدأ بعدها ردهة واسعة الحجم، تُمثِّل نصف المنزل السعيد، في زاويتها الضيقة مطبخ صغير تقابله في الزاوية الواسعة مكتبة ضخمة مقسمة إلى أجزاء مُعنونَة بخط كبير واضح، وفي نهاية الردهة باب يفتح على الحديقة التي كانت في خلفية المنزل. فهل كان النصف الثاني لهذا البيت أقل حياةً من النصف الأول؟
المطبخ:
لم يكن المطبخ يزخر بأوانٍ كثيرة، لكنّه كان يعكس فوضى ملحوظة، تدلُّ بسخرية على أن آرثر غير ملمٍّ بهذا الفن، سوى إتقانه للكعك. فنُّ الطبخ الذي كان يحاول أن يتعلّمه بتطبيق الوصفات لأفضل الأطباق التي تقع عينه عليها، الأخيرة منها كانت طبقًا فرنسيًّا أوصته به جارته العجوز مانحة إياه وصفة مكتوبة بخط يدها غير الواضح، تمامًا كتجاعيد اليد التي كتبته بها. وصفة جاء فيها:
“مكعبات صدور دجاج مقطعة، بصلة مقطعة مكعبات، بطاطس مقطعة مكعبات، حبة فلفل أخضر، قليل من البقدونس، ملح وفلفل أسود، زيت نباتي وبهار اسمه كركم، ملعقتين دقيق، حبة بيض، جبن”. وتحت المقادير الموضوعة أعطته كذلك طريقة التحضير بشكل مفصل، آخذة في الحسبان قلة درايته بالطبخ، لكن هذا الأخير لم ينجح في التطبيق من المرة الأولى، بل استلزمه ثلاث محاولات، تمَت على مدار ثلاث ليال، باءت اثنتان منهما بالفشل، مما اضطّره للذهاب خارجًا حتى يأتي بطعام جاهز في عتمة الليل المخيِّمة، يتغنّى في مسيره ببعض الأبيات الرومنسية لشكسبير:” ألا تشبهين صفاء المصيف، بل أنت أحلى وأصفى سماء؛ ففي الصيف تعصف ريح الذبول، وتعبث في برعمات الربيع. ولا يلبث الصيف حتى يزول..”
لم يكن الطبق الشيء الفرنسي الوحيد في المطبخ، بل أجواء المنزل كلها كانت فرنسية، فقد كانت وسيلة آرثر في تعلم لغة جديدة هي أن يخلق لها جوًا مناسبًا لها، فبالإضافة إلى الطبق الفرنسي، كان قد اشترى روايتين باللغة الفرنسية، البؤساء لفيكتور هوغو، معها كنديد والتفاؤل لفولتير، كذلك مجموعة من الأغاني والأفلام الفرنسية، مستعينًا بالترجمة في فهمها حتى يسهل عليه اكتساب اللّكنة المناسبة لهذه اللغة، لغة الرومنسية، لغة موليير.
بالإضافة إلى اللغة الفرنسية، كان آرثر يجيد اللغة الإيطالية والإنجليزية، حديثًا وكتابة، وعشقه لتعلم لغات جديدة جاء من حبه للأصالة في الشيء. كان يرى أن قراءة كتاب المبادئ لنيوتن بلغته الأم اللاتينية أفضل من قراءة ترجمته بالإنجليزية، ولم تزد هذه الأصالة إلا رسوخًا حينما أدرك آرثر أهمية تعلم اللغة بالنسبة لتطوير الدماغ بإنشاء وصلات عصبية جديدة بين الخلايا، الميزة التي تتمتع بها الإناث عن الذكور في كون الخلايا عندهم أكبر من الوصلات، و كان لآرثر رغبة عجيبة في كتابة مذكرات حياته باللغة اليونانية القديمة، التي خطَّط سعيًا في دراستها ضمن الجامعة إذا تيسر ذلك، وإلّا فبمفرده إذن.
المكتبة:
في الزاوية الواسعة المقابلة للمطبخ، كانت تترصف عشرات الكتب مرتبة ضمن ثلاث تشكيلات تُسهل عملية التصنيف، العنوان الأول كان: الفلسفة الذي يشغل الجهة اليمنى للمكتبة، مُمثِّلًا القسم الأكبر منها لكثرة الكتب فيه، كتب عبارة عن مجموعات كاملة لكل شخصية مؤلفة، فآرثر كان يكره دراسة مؤلفات فرديّة لأحدهم، بل يُحبذ دراسة المجموعة الكاملة لأعماله حتى يصل لفكرة مُقنعة حول هذا الكاتب. حوى قسم الفلسفة المجموعة الكاملة لـبرتراند راسل، روجيه غارودي، سانت أوغستين. إلّا أن هذا القسم أيضًا حوى بعض الأعمال المفردة التي أرجاها آرثر حتى تكتمل كــالأبطال لكارلايل، والعم سام لتشومسكي.
في وسط المساحة، كان القسم المعنون بــالدين، وهوالقسم الأقل حظًا، كونه يحوي فقط كتابًا للشطرنج مع الكتب الدينية المقدسة: نسخة من القرآن بالإنجليزية، مكتوب على غلافها كلمات بالعربية لم يفهمها آرثر، لكنه كان يطبقها في حياته من غير فهمها، كلمات كانت للفخر الرازي يقول فيها:”من جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي”.. فآرثر كان يعيد القيام بالتجارب التي صنعها من قبله سعيًا للحصول على معرفتهم من خلالها، تجربة رسم الموناليزا للحصول على معرفة دافنشي، وتجربة نحت تماثيل الملائكة للحصول على معرفة برنيني، وتجربة لعب أداور المسرح للحصول على معرفة شكسبير، تجربة مراقبة السماء بالمقراب للحصول على معرفة غاليلي، تجربة طبخ الطبق الفرنسي للحصول على معرفة العجوز ماريا، لكن كاتب تلك العبارة على نسخة القرآن كان يقصد تجربة قراءة هذا الكتاب، فإذا كانت مدهشة، كان قصده من جرب مثل قراءته حصل على مثل دهشته، أوالعكس في ذلك..
بمحاذاة القران كانت هناك نسخة بالإنجليزية لكتاب سيرة محمد لمؤلفها محمد ابن إسحاق، تليها خمسة أناجيل مرتبة على النحو الآتي: إنجيل لوقا، إنجيل مرقس، إنجيل متى، إنجيل برنابا، إنجيل يوحنا. وأسفل منها العهد القديم مع التلمود، بالقرب منه مساحة فارغة، كان آرثر قد ادّخرها للحصول على كتاب الهندوس المقدس الفيدا، لكنه لم يجده حتى الآن.
اشتمل القسم الأخير المعنون بــالعلم على الكتب الشارحة والمفصلة في العلوم الإمبريقية شأن: علم الأحياء، علم طبقات الأرض، علم النفس، حيث كان هذا الأخير هو الأوفر حظًا في القسم الأخير من المكتبة، الواقع في الجهة اليسرى، الذي بدوره لم يكن بحجم قسم الفلسفة، لكنه كان أكبر من القسم الأوسط. فقد آمن آرثر أن الفلسفة أهم من العلم، وأنها هي الحاوية له، المهيمنة عليه.. آمن أن العلم منظار واحد، لكن الفلسفة مناظير متعددة، وأن العلم لا يقود إلى الإنسان كما تفعل الفلسفة، طارحًا آرثر هذا السؤال:” أين بلغنا في تطورنا للمنظور الأخلاقي منذ عهد ارسطو؟.. أين بلغنا في تطورنا لمفهوم السعادة الحقيقي منذ عهد ارسطو؟”
ثم يجيب نفسه:” صحيح أنّنا صعدنا إلى القمر، وحرقنا المسافات الفلكية، وعدنا لنقرأ الماضي بالآثار والحفريات، وكتبنا الروايات العلمية الخيالية. لكننا لم نضف شيئًا مبهرًا أو معتبرًا لمفاهيم: الأخلاق، الإنسان، السعادة، التضحية..”
لم يكن ريتشارد صديق آرثر على نفس القناعة، فقد كان يجادله دومًا أن العلم فرصة حقيقية، في حين الفلسفة مجرد جدل متواصل وسخيف، فيقتبس آرثر في ردّه من رواية الملائكة والشياطين لــ دان براون جواب ليوناردو فيترا لابنته فيتوريا:” أن العلم والدين ليسا في خصام مع بعضهما البعض، و لكن كل ما في الأمر أن العلم لا يزال حديثًا جدًا لكي يفهم..”، إلا أن آرثر كان يستبدل كلمة الدين بكلمة الفلسفة في اقتباسه، مؤمنًا أن الدين ذاته فلسفة لكن بصياغة خاصة فقط.
لقد كان الكتاب بالإضافة إلى الأفكار التي يقوم بها آرثر في غرفه الأربع على قدر من الأهمية، فكما كان يبحث عن الأحاسيس التي تُولِّدها تلك التجارب، كان يقينه ملازمًا أيضًا بأن الكتاب هوالة خارقة لحدود الزمان والمكان، يمكن للكتاب أن يأخذك إلى أي مكان تريده في العالم، في أي زمان تريده.. يأخذك إلى عالم الفراعنة أيام رمسيس، يأخذك إلى عصور الانفجار الكمبري، يأخذك لزيارة بني البشر الأولين، إلى سفينة نوح، إلى آدم وحواء.. يأخذك إلى نهاية الكون ثم يعود بك إلى بدايته حينما كان نقطة، بل يسير بك إلى أكوان متعددة، وعوالم متضاربة.. كل ذلك وأنت لم تتحرك من مكان جلوسك..هذه كانت مكتبة آرثر..
الحديقة:
كانت الردهة تنتهي بباب في آخرها، يفتح على حديقة آرثر، ذات التربة الداكنة قليلًا، من غير سقف يحجب الشمس عن إرسال حزم أشعتها مجففة التربة، والتي تزخر بورود الفل، والريحان، والياسمين، مضفية بهجة في تلك البيئة، تدخل السرور حقًا..
كان آرثر يعتني بوروده ضمن جدول مرتب بين السقي، والتقليم، ونزع الحشيش الضار الذي ينبت بين الفينة والأخرى، إلا أن متعة آرثر الكبرى كانت في أمرين. حينما يُحضر بعض النحلات من الخارج، يقوم بمتابعتها في أخذ الرحيق، والتنقل بين عالم الأزهار تلك، لكنه لم يخاطر بإحضار عدد كبير منها، فلعله يتسبب في غزو بيته السعيد من طرف جيش النحل ذاك، ثم مجرد فكرة لسعات النحل الحارقة كانت له كابوسًا بحد ذاتها.
الأمر الثاني كان حينما أراد القيام بتجربة الراهب غريغور مندل مكتشف علم الوراثة بتجربته على البازلاء، حيث طلب من أحد الفلاحيين أن يحضر إليه سلالة نقية للبازلاء، يأمل في الحصول على نفس نتائج مندل في اكتشاف فكرة الصفات المتنحية والصفات السائدة ضمن التشكيلة الوراثية، و بعد أن هيأ الأمور اللازمة للقيام بتلك التجربة البسيطة، قام بنفس مراحل العالم غريغور مندل، زارعًا عددًا من بذور البازلاء أرجوانية الأزهار، تاركًا إياها للتلقيح الذاتي للحصول على سلالة نقية، ليقوم بعدها بإجراء التلقيح الخلطي.
فوجئ آرثر كونه لم يحصل على نفس النتائج، فالكتاب الذي اشتراه شارحًا تجربة مندل كان يقول بأن نتائج الجيل الثاني كانت ( 3/4) ذات أزهار أرجوانية، و(1/4) ذات أزهار بيضاء، فعلم الأخير أن الفلاح لم يعطه سلالة نقية من البازلاء، وأنه قد خسر المبلغ المضاعف للثمن المستحق في سبيل تجربة فاشلة، إلا أن اليأس لم يتسلل إلى قلب آرثر، فقد صمم أن يقوم بالتجربة ولو استلزمه ذلك ثروة بأكملها فلا شيء يضاهي إحساس اكتشاف شيء جديد، فكيف إذا كان علمًا جديدًا؟
بالإضافة إلى ما سبق، كانت الحديقة عَالمًا من الهدوء والسكينة، يستغله آرثر للحصول على الراحة النفسية بين أزهاره الجميلة، ونحلاته المسالمة، يجلس بالساعات الطوال، يتأمل في ذلك العالم الصغير الذي بناه. يكون تارة هو الزهرة، وتارة أخرى هو النحلة، لقد كانت حديقته تجعله يترقى بالصمت والتأمل نحو مفهوم النيرفانا الصافية التي تحدث عنها بوذا.
هذه بنية المنزل السعيد لآرثر، الأمر الذي جعل الآنسة تيريزا متعجبة تمأما، بين كل غرفة تمر بها، و بين كل شرح يدلي به آرثر، تقول لنفسها:” هل يوجد أشخاص بهذا التفكير حقُا؟”. لقد كانت تيريزا من النوع الذي يدخل الجامعة من أجل الحصول على وظيفة تجمع من خلالها المال، مؤمنة بمبدأ” المال يسأوي السعادة”. كانت من النوع الذي يعود إلى منزله ليفتح التلفاز، تشاهد المسلسلات الكوميدية، حتى تنسى الهموم التي عاشتها خلالها النهار، خاتمة ذلك بمتابعة أحوال الطقس حتى تعرف هل هي بحاجة إلى مظلتها الواقية من قطرات المطر أو لسعات الشمس الحارقة، لتمسك في الأخير شيئًا من المقالات التي تتحدث عن تخصصها فقط، تخصص علم النفس، الذي علمت في الأخير أن آرثر يتفوق عليها فيه من غير جهد يذكر، سوى لعب بعض المسرحيات، والرسم المقلد لبعض اللوحات، حيث لمحت في عيني آرثر سعادة كبيرة تفوق سعادتها التي كانت تظن أنها تملكها، وبجولة في بيت آرثر تهدم مبدأها القائل بمساواة السعادة للمال، فهو كان مفلسًا من غير وظيفة، مع بيت أشبه بمدرسة للصغار، خلافًا لها، الناجحة في مهنتها، المرتاحة ماديًّا في حياتها، لكنه كان أسعد منها بكثير، سعادة الطفل الصغير التي لا تفارقه.
لم تجد تيريزا شيئًا مشتركًا مع المتقدم للوظيفة، إلا لوحة الشطرنج التي رمقتها في الصالة، مع مجموعة من الأفلام المرتبة هناك، فقد كان آرثر يحب لعب الشطرنج، وإن كان يقوم بذلك غالبًا بمفرده، ومرات نادرة مع صديقه ريتشارد. كان يهوى تطبيق الخطط المشهورة، فيجلس على طاولة الشطرنج من جهة مُطبِّقًا خطة عمود نصف مفتوح، يقوم بالحركة الأولى، ثم ينتقل إلى الجهة الثانية من الطاولة ليقوم بالحركة الأولى ضد نفسه مطبقا خطة منتصف اللعب، أما الإستراتيجية المفضلة لديه، والتي غالبًا ما يستعملها للفوز على غريمه ريتشارد فقد كانت تكتيك الـ فيانشيتو، وهي كلمة إيطالية تعني الزاوية الصغيرة، التي كان يتقنها آرثر جدًا، مبرزة المهارات الإستراتيجية التي يتمتع بها، خلافًا لتيريزا المحبة للشطرنج، لكنها لم تتمتع يومًا بالثقافة الحقيقية له، بل سرعان ما كانت تمل منه بعد مباراة واحدة، وأحيانا لا تكون مباراة كاملة حتى. لكن ذوقها من الأفلام لم يكن بعيدًا عن المتقدِّم للوظيفة، فهو آمن من جهة أن فيلما قد يكون أبلغ تأثيرا من مائة كتاب، وهي من جهة ثانية آمنت بذلك تلبية لعواطفها الأنثوية وتفكيرها العلمي. أفلام شأن:
persuit for happyness, the prophet , exam , Angels & Demons , the revenant.
خلال الجولة الاستعراضية التي منحها آرثر للجميلة تيريزا، لم تنبس ببنت شفه هذه الأخيرة، صامتة خلال الوقت كله، مصغية للشاب المتحدث كأستاذ ثمانيني العمر، دارس لكثير من العلوم، مع نبرة مليئة بالثقة، تجعل كل ما يقوله يبدو ذكيًّا، وبعد نهاية كل ذلك، راحت تحاول مع نفسها في صياغة السؤال الذي من وراءه تكمن الإجابة عن هذا المنزل الغريب، وبعد تلعثم طويل لم تجد إلا كلمة واحدة لتعبر بها. قائلة فقط:” لمــإذا؟” فهم مباشرة آرثر بسرعة بديهته فحوى سؤالها، الذي سمعه سابقًا من صديقه ريتشارد، فطلب منها أن تتبعه إلى الغرفة الثانية، غرفة التيلسكوب، حيث قام برسم مثلث على سبورته القديمة سائلًا إياها:” هل سمعت بهندسة ريمان؟”.” لا، لم أسمع” مجيبة هي.الأخرى.. فيستطرد آرثر قائلًا:
“لقد تعلمنا في المدارس الهندسة الاقليدية التي تقول أن مجموع زوايا مثلث على سطح مستوي هو 180 درجة، لكن الرياضياتي ريمان اكتشف أن زوايا المثلث لا تساوي تلك القيمة بل هي إما أصغر من 180 أو أكبر على حسب التقعر أو التحدب في الفضاء، والفرق الوحيد بين اقليدس وريمان هو المعلَم الذي قمنا بالإسقاط عليه، فمعلَم اقليدس ثنائي المحاور ذو بعدين، أما معلم ريمان فثلاثي المحاور ذي ثلاثة أبعاد، وإضافة البعد الثالث هي التي جعلتنا نكتشف أن حقيقة زوايا المثلث تختلف عن 180 درجة، والأمر سيان بالنسبة للحقائق الموضوعية التي نؤمن بها، فإن دراسة لون واحد، وفن واحد، وتخصص واحد في عالم حافل بالفنون المتقاطعة والتخصصات المتداخلة لا شك أنه لن يوصلنا إلى الحقيقة كما هي أبدًا، بل نسخة مشوهة كنسخة اقليدس، والعلم الامبريقي، والفن، والنحت، والفلسفة، والدين، كلها محاور وأبعاد، كلما امتلكت أكثر منها، كلما كنت أقرب للحقيقة، كلما كانت نسختك في الفهم أقل تشوّهًا، والذي أُحاول أن أفعله هو أن أجعل المعلم الذي أقوم بالإسقاط عليه متعدد الأبعاد حتى لا يفوتني شطر كبير من حقيقة الشيء الذي أقوم بإسقاطه..”
تحأول تيريزا الفهم أكثر:” أليس في أحيان كثيرة، أن الأمر يفوق قدراتنا؟”
يبتسم آرثر مُظهرًا خبرة الأزمان التي عاشها قبل وجوده في هذا العالم، مبرزًا خبرة الأماكن التي زارها بعقله وقلبه دون جثمانه، ثم يتلفظ من غير أن يدير وجهه باتجاهها:” وأنا صغير كنت أتغنى وأترنم بصلاة القديس فرانسيس: يا ربي امنحني القوة لأقبل تلك الأمور التي لا يمكنني تغييرها. لكنني لم أعتقد يومًا بصحة هذه الصلاة، بل آمنت بكل وجداني أنه ليس هناك ظرف لا يمكن تغييره، وأنّه ليس من أمر يفوق قدرة الإنسان إلا قدرة الربّ وحده”. يسكت قليلا آرثر وهو يتأمل من نافذة الغرفة الثانية، كأنه يستعيد ذكريات كل تلك الأمور والتجارب التي قام بها، في خشوع وصمت الحكيم الذي عارك الأزمان وعاركته، وتيريزا مقهورة تحت تلك الهالة المحيطة به..
ثم يكمل قائلًا:” لقد وُجد الإنسان في هذا الكون ليبحث عن الخلود، و يفتش عن العالمية التي لا تحدها الزمان والمكان. وأنا أحاول السير في هذا السبيل لا غير.. سبيل أن أكون خالدًا وقادرًا على احتواء العالم برمته، ونعم سأستطيع بلوغ ذلك في السنين القليلة التي سأعيشها”
بعد المحاورة تلك، لم تجد الأخصائية النفسية أي كلمات لتعبّر بها، فقد أخرستها تلك الأحوال التي بعثت فيها نوعًا من الأحاسيس لم يسبق لها أن شعرت بها، تحاول أن تجد لها تفسيرًا قبل أن تصل لباب الخروج الذي ذهب آرثر باتجاهه، لكنها تفشل في ذلك، و يفتح آرثر الباب لخروج الآنسة التي علم أنه قد شد انتباهها، وحان الوقت ليسألها عن ذلك الموعد الذي خطط للحصول عليه بذكاء، الأمر الذي لم تغفل تيريزا عن ملاحظته مثبطة عزيمة هذا الأخير قائلة:” يبدو أنّك ستحصل على الوظيفة”، وقبل أن يتفوه هذا الأخير بأي كلمة، تقوم تيريزا بإخراج بطاقة من معطفها الأسود، ملونة بألوان مختلفة: أحمر، برتقالي، أصفر، أخضر، أزرق، بنفسجي.
لقد كانت بطاقة تمثل أحد نوادي المثلية الجنسية..