يومٌ مع صهيوني فوق هِضاب أثينا
في حياتنا لحظاتٌ نلتقي فيها أشدّ مخاوفنا وأعمقها موقعًا من وجداننا.. بديهي، وإنّما الغريب أنّه عندما يحدث لنا هذا تصعقنا شرارة الموقف ويأكلنا هول المفاجأة أكلًا؛ هذا ببساطةٍ لأننا نسير في حياتنا ناظرين إلى من حولنا نراقب ما يحلُّ بهم من الكوارث والنوائب؛ فنشرع فورًا بالنظر إلى الجانب الآخر من الطريق مطمئنين أنفسنا أنّنا لسنا هم، وأنّ هذا النوع من المصائب لا يحدث كل يوم، وإن حدث فإنه من غير المحتمل أن يُصيبنا نحن.. نقولها لأنفسنا ونحن ندرك أننا نكذب من لساننا وحتى أخمص قدمينا ولكننا نتجاهل إدراكنا هذا وندسّه في أبعد ركنٍ من عقلنا اللاواعى حتى لا يتسبب في جنوننا، ونظلّ على حالتنا المُنكرة للواقع تلك حتى تقع النائبة من السماء على أمّ رأسنا لندرك في ساعتها أننا بشرٌ كباقي البشر.. لسنا مُحصّنين ضد المصائب..
كان صباحًا غائمًا في ميدان أومونيا بأثينا، أم كان مشمسًا؟.. لن أتذكّر على أي حال؛ فقد كان صباح اختبار تقييمٍ هامٍّ أحضّر له منذ أيام، ولم يكن الاهتمام بحالة الطقس خيارًا مطروحًا في ذلك اليوم، نزلت من الفندق الذي كنت أقيم فيه، وتجاوزت بضعة شوارع حتى وصلت إلى فندقٍ آخر حيث يُقام الاختبار. حرصت أن يكون الفندقان متقاربين حتى لا أبذل من وقتي ومجهودي الكثير في الارتحال بين النقطتين يوم الامتحان فأوفّر طاقتي للتركيز في الحل، ومع هذا فها أنا ذا.. لم أنم جيدًا ووصلت متأخرًا راكضًا كعادتي أتصبب عرقًا معتقدًا أنّ الاختبار قد بدأ.. لم أتصوّر أن أجد أفواجًا من المتقدّمين أمام باب الفندق ينتظرون الدخول.. ما الذي عاد بي إلى مصر مرةً أخرى؟ لقد حددّوا لنا الموعد في تمام الحادية عشرة صباحًا، وهي الآن الحادية عشرة والربع تقريبًا ولم يدخل أحد، رأيت إذًا أن أستسلم للأمر الواقع وأن أسلّي وقتي بالتعرّف على أحد الواقفين، وكان يونانيًا يعيش في هولندا ويسمى “فيرناندو”، تحدّثنا عن الاختبار وعن عدم التزام المنظّمين بالمواعيد، وأبديت امتعاضي الشديد (رغم أنني أصلًا من كان يدعو طوال الطريق أن يسمحوا له بالدخول بعد تأخّري الواضح) ولكن التذمّر وإلقاء اللوم على الآخرين هما دائمًا نشاطان مريحان للأعصاب.
انقضت حوالي النصف ساعة حتى سُمح لنا بالدخول، ما إن دخلت حاولت أن أجلس على طاولة خالية حتي يمكنني أن أُريح رأسي وعينيّ قليلًا بعيدًا عن الضوضاء، مرّت دقائقُ وأنا مستندٌ برأسي على الطاولة حتى أحسست بشخصٍ يتخذ له كرسيًا أمامي، وإذا به يحييني ثم يتحدّث معي عن الاختبار ويطمئنني أنه سيكون سهلًا وأنّه ليسس هنالك داعٍ أبدًا لأن أقلق، وقد ظنّ هو أني قد ركنت رأسي على الطاولة هربًا من مخاوفي، والحقيقةُ أنّه كان هربًا من أن أنام على ورقة الإجابة بالداخل، إلّا أنني أحببت منه لُطفَه البالغ وقد كان شابًا أشقر حسن المظهر، وتستطيع حتى من أسفل كمامة الوجه أن ترى بشاشةَ وجهه، ولا يخفى عليك أنه من الأشخاص الذين ترتاح لهم من اللقاء الأول، بدأنا نتحدث عن الاختبار لمدة ثلث ساعةٍ تقريبًا ومع كلّ دقيقة كنت أرتاح لهذا الشخص اللطيف السهل أكثر فأكثر، وكعادة كل المحادثات في مكانٍ يجمع أُناسًا من دولٍ مختلفة فقد حان الآن وقت السؤال عن جنسية المتحدث، سألته: “من أين أنت؟” فرد بنفس بشاشة مُحيّاه وبعفويةٍ بالغة: “إسرائيل”..
أعرف المصائب جيدًا، خبرت كثيرًا من تلك المواقف التي يكاد المرءُ يبتلع فيها قلبَه من هَول الصدمة ولكنّ تلك المصيبة كانت جديدةً من نوعها، أمعنت النظر إليه فرأيت قبعةً صغيرة في مؤخّر رأسه لا تكاد تغطي شيئًا من شعره وضفيرتان طويلتان يتدليان أمام أذنيه وبالخلفية اشتغلت أغنية “هافا ناجيلا” الشهيرة (والتي يجب أن تسمعها قبل أن تُكمل القراءة لتفهم قصدي)، وبالطبع لا داعٍ لأن ترهق نفسك في تخيّل ردّة فعلي، فلا شكّ أنني هممت واقفًا بوجهٍ أحمر وعينين ينطلق منهما الشرَر لأقلب المنضدة التي تجمعنا رأسًا على عقب ثمّ أهشّم كرسيًا على رأسه بينما أسّبه بأفظع الشتائم التي احتفظت بها لنفسي طيلة حياتي حتى جاء الوقت المناسب لاستخدامها.. إلّا أن هذا لم يحدث! ماحدث هو أنني ظللت سابحًا في أحلام اليقظة تلك حتى ردّني صوتٌ من بعيد إلى الواقع وهو يسأل: “وأنت.. من أين؟”، فرددت عليه وقد ارتسمت على وجهي ابتسامة متوترة وأنا أضحك في داخلي من سُخرية القدر بينما أترقب ملامح وجهه لأرى وقع المفاجأة عليه هو الآخر: “مِصر”.. فما لبثت أن انتقلت إليه نفس ابتسامتي القلقة وظللنا ننظر لبعضنا ببلاهة لبعض الوقت وكأن الطير واقفً على رؤوسنا، والحقيقة أنني لم أرَ تركَ الطاولة خيارًا وقتها فقد كان الشاب مهذّبًا كفايةً معي حتى يأتي ليُطمئنني قبل الاختبار دون سابق معرفة بيننا، فلماذا أكون أنا وغدًا قليل الذوق وهو لم يُظهِر سوى لطفه البالغ لي؟ ولكنني أكون وغدًا خائنًا لقوميّتي أيضًا إن قررت أن أكمل حديثي معه وتجاهلت حقيقته، فأيُّ الوغدين أريد أن أكون؟
عندها تمامًا أنقذ الموقف شابٌ يونانيٌّ انضم إلينا على الطاولة وظلّ يتحدث معنا لبعض الوقت وقد انتابته نوبةٌ من الضحك بالطبع حين عرف أنه إسرائيلي وأنني مصريّ، ووددت أنا أن أقتلَه مع ضحكاته السخيفة تلك وقد كان الموقف متأزّمًا كفايةً قبل حضوره ولم ينقصنا شخصٌ يزيد لنا من وضوحه وفداحته، ولكن لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى جاء أحد المنظّمين وطلب منّا أن يبقى اثنان فقط على الطاولة حفاظًا على تعليمات السلامة الخاصة بكوفيد-١٩؛ فاستأذن زميلنا اليونانيُّ ذاك وتركنا في نفس موقفنا المُحرِج –بل المثير للشفقة- من جديد، وحينها وجدنا أنه لا بُدّ من الحديث قبل أن نتحول إلى صنمين، عُدنا للحديث عن الاختبار من جديد ثم انتقلنا إلى حياتي في مصر وحياته في إسرائيل حيث يمتلك أبواه مزرعةً تُرعى فيها الجِمال، واتضّح أنه يعمل مُسعفًا وأنه يسعى للدراسة والعمل في أوروبا ليبتعد عن إسرائيل لأن الحياة هناك سريعة وشديدة التنافسية، كلامٌ كثيرٌ قاله بالإنجليزية بطريقته التي لم تخلُ من دماثةٍ ولُطف، ولكن كل ما كنت أسمعه وهو يتحدّث كان: “خبيبي، إخنا اليهود والعرب أولاد عم”، ولا تنفكّ القبعة والضفيرتين تظهران علي رأسه وتختفيان من حينٍ لآخر وهو يتحدّث كمشهدٍ كلاسيكيٍّ من أفلام الجاسوسيّة المصريّة، والسببُ هو أنّ ضميري كان يمطرني وخزًا بأشواكه الحادّة طوال فترة حديثنا، كنت أرى أنّ كُلَّ كلمةٍ أوجهُّها إليه هي بمثابةِ بيان اعترافٍ مني بشرعيّة “دولة إسرائيل العظمى”، وأنّ كلّ ابتسامةٍ أتكلّفها في وجهِه هي بمثابةِ مباركةٍ منّي على سفكِ دماءِ الأطفال في غزّة، وهكذا ظللت أنتظر أن تحين فرصةٌ مناسِبةٌ لأعبّر له عن غضبي على بني جلدته؛ كيلا يظنّ أنّ كوني شخصًا لطيفًا معه يعني أنني متخاذلٌ أو أنني متسامحٌ مع اغتصابِ أرضِ قومي ومن عليها لعقود.
استمرّ الحديث وأشواك ضميري مستمرّةٌ في وخزي حتّى ما عاد بجسدي مكانٌ خالٍ من الجروح، ولا سبيلَ لخلاصي سوى بقدوم اللحظةِ المناسِبةِ لأتّخذ موقفًا جريئًا بدلًا من موقفي الحياديّ ذاك، وحانت اللحظة أخيرًا عندما ذكر لي أن بعضًا من أصدقائه سافروا في إجازتهم السابقة إلى سيناء وقضوا وقتًا ممتعًا هناك وأنهم أخبروه أنّ سيناءَ آيةٌ في الجمال، فوجدت نفسي أشرع قائلًا بابتسامةٍ ساخرة: “حسنًا ولكنّهم كانوا ليستمتعوا أكثر بالبقاء في سيناء عندما كانت أرضًا إسرائيلية قبل أن نستردّها منذ عقود”، ولمّا كان هو مهذبًا فهمهم بابتسامةٍ وقال: “نعم بالطبع”، وهنا قرّرت أن أطرقَ الصفيح وهو ساخن فتنهّدت ثُمّ قلتُ له: “اسمع يا صديقي، عليّ أن أخبرك شيئًا يثقل على عاتقي ولن يمكنني الاستمرار بالحديث معك إن لم أقله، أنا أتقبّلك كإنسانٍ أو كفردٍ مستقلٍّ لأنني لم أرَ منك سوى كلَّ خيرٍ حتى الآن، ولكنني أكره إسرائيل، لا أتقبَّلُها ولا أعترفُ بها ككيان، ولا داعي لذكر الأسباب التي تعرفها مسبقًا و..” فما كان منه إلا أن انتظر أن انتهيت من حديثي ثم قال: “أتفهم موقفك وأتقبّله تمامًا يا صديقي”، أراحني رده المهذب فقلت له: “آسف لانفعالي، أنت شخصٌ لطيفٌ وأعلم أنك لم تقتل أحدًا ولكن كان واجبًا عليّ أن أخبرك هذا لأريح ضميري الذي ظلّ يعذبني منذ عرفت جنسيتك، فقط حتى لا تعتقد أن حديثي معك وتقبّلي لك يعني اعترافي بدولتك أو تقبّلي لأفعالها”، فرد عليّ: “بالطبع يا صديقي أنا لم أقتل أحدًا، وكيف بي أن أفعل وأنا مسعِفٌ وعملي في الأساس أن أُنقذَ الأرواح؟ ولكن صدّقني أنا أحترم موقفك تمامًا ولا داعي أبدًا لأن تشرحه لي أو حتى أن تعتذر”، فارتحت أنا بعدها كما لم أرتح من قبل؛ فقد شعرتُ أنّي قد برّأتُ نفسي أمام ضميري من قضيةِ تطبيعٍ أو خيانةٍ عظمى للوطن، وحينها فقط كنت قادرًا على أن أتمّ الحديث، سألني عمّا سأفعله بعد الاختبار؛ فقلت له إنني سوف أزور بعض المعالم السياحيّة في أثينا لأن تلك أوّل زيارةٍ لي هنا، “ربما أذهب إلى الأكروبوليس” قلتها فردّ علي: “أنا أيضًا ذاهب إلى هناك بعد الاختبار!”، فابتسمت وقلت مترددًا: “أظن أنّ طريقنا واحدٌ إذن..”.
لا أعرف لماذا قلت هذا في الوقت الذي أمرُّ فيه بعقدةِ ذنبٍ لمجرّد جلوسي معه، ربّما هي عادتُنا القبيحة في إظهار الودِّ للمتحدِّثِ بدعوته للخروج سويًّا قريبًا؛ بينما أنا أعلم وهو يعلم أن كلانا لا يودُّ الخروجَ قريبًا حتى لا نكسر الروتين، فينتهي الحوار دائمًا بأن يرد الطرف الآخر بحماسٍ مصطَنَع “بالطبع!، حضّر نفسك وكلّمني”، وهكذا يخرج الطرفان رابحين، لأننا نعلم أن كلًا مِنّا سوف يقضي نهاية الأسبوع في المنزل مع مسَلسَلِه المفضَّل، ولكن يبدو أن ثقافة “عزومة المراكبيّة” لم تصل لإسرائيل بعد؛ لأن صديقي العِبريّ هنا كان مُرحِّبًا بالفكرة دون أي تصنُّع؛ فاتّفق معي أن نلتقي على باب الفندق بعد الاختبار لنذهب إلى الأكروبوليس سويًا، ورغم أنّ ضميري كان قد سكن قليلًا بعد أن ألقيتُ خطابي الوطنيّ السابق ذاك، إلّا أنّه عاد بعدها إلى وخزي من جديد، بل وأشدّ من ذي قبل؛ فالحديثُ مع إسرائيليٍّ شئ، والخروجُ للتنزّه معه شيءٌ آخر تمامًا، لذا عندما أنهيت الاختبارَ ووقفت أنتظره بالأسفل في صالة الاستقبال ظلّت فكرةُ الهروب تحوم فوق رأسي كنسرٍ جائع، كيف بي أن أقضي يومًا كاملًا مع إسرائيليّ؟ الفكرة مُرعبةٌ في حد ذاتها ولا تنفكُّ مشاعرُ خيانةِ الوطنِ تعصفُ بكياني. “ماذا كان رأفت الهجان ليفعل لو كان هنا؟” قلتها لنفسي بسخريةٍ حتى أدركتُ أن أنه كان سيدعوه إلى فنجان قهوةٍ ويفتح معه حديثًا مُتّصلًا؛ فقد كان عمله في الأساس أن يُصادقَ العدوَّ حتى يفهمَه؛ لأن أول خطوةٍ لهزيمةِ عدوّك هي أن تعرفَ جيّدًا كيف يُفكّر، وبينما أنا لستُ عميلًا مزدوجًا إلا أنني استشعرتُ أنّ الحكاية بها إنَّ، حوالي مائةُ متقدّمٍ للاختبار ويجلس على نفس الطاولة المصريُّ والإسرائيليُّ الوحيدان في المكان؟ للقدر ألاعيبٌ عجيبة، ولا بُدَّ أنّه يُمارس إحداها معي الآن، فدعني أسايره إذًا حتى يُنهي لُعبته الصغيرة تلك.
لم أنتظر كثيرًا حتى نزل من قاعة الاختبار ثم استأذنني أن يُحضر أغراضًا من غُرفته بالأعلى حيث كان يقيم بنفس الفندق، انطلقنا في طريقنا ما إن انتهى، وفي الطريق أخبرني بحاجته إلى بعض الكافيين فتوقفنا عند محلٍ للقهوة وطلبنا كوبين من اللاتيه، وخلال انتظارنا لطلبِنا أدركت أننا لا زلنا لا نعرف أسماء بعضنا؛ قلت له إن اسمي عبد الرحمن، فكان أن نطقه: “عبد الرخمن” بصعوبة ثم سألني إن كان يمكن أن يناديني “عبدِل” (وهو اختصارٌ إنجليزيّ لعائلة الأسماء العربية اللتي تبدأ بكلمة عبد) فوافقت إشفاقًا عليه حيث كنت مُدركًا لمعضلة ثقل اسمي حتى على أصحاب اللسان العربي الذين ينطقونه “عبرَحمن” فلا حرج على العجم إذًا، ثم سألته عن اسمه فقال بفخرِ جنديٍّ في البحرية الأمريكية: “شَخَر”، نظرت إليه في محاولةٍ مني لاستيضاح صحة ما سمعت وقلت: “عفوًا، ماذا؟”، فرد عليّ بذات الثقة: “شخر.. شخر” وهنا لم أستطع أن أتمالك نفسي فانفجرت في الضحك كما لم أفعل من قبل. نظر إليّ وقال وهو يبتسم في حرج: “ما المضحك؟”، فحاولت بصعوبةٍ أن أشرح له أن “شخر” في العربية ليس اسمًا بل فعلًا، وما إن شرحت الأمر له حتى كاد كلانا يتمرّغ على الأرض من الضحك، وبعد وصلة الضحك هذه أراد أن يُفهمنى معنى اسمه الحقيقي في محاولةٍ منه لحفظ ماء وجهه فقال: “إنه يعني بالعبرية شروق الشمس”، ففهمت فورًا أنها مُشتقّةٌ من الكلمة العربية “سحر” وهو الثلث الأخير من الليل قبيل الفجر، وكنت أعلم أن هناك العديد من الكلمات المشتركة بين اللغتين، إلا أنني في النهاية لم أجد عزاءً كبيرًا له في أن يكون اسمه “سحر” بل وجدت الفكرة أكثر كوميديةً من غيرها.
في طريقنا إلى الأكروبوليس، استخدمنا هاتف “شخر” ليقودنا إلى وجهتنا حيث كانت خريطة “أثينا” الورقية التي أخذناها من موظفة الاستقبال في الفندق بلا معنى لفردين من جيلنا، تحدّثنا عن هواياتنا والمسلسلات والأفلام الأجنبية التي شاهدها كلٌ منا مؤخرًا. كان “شخر” شخصًا رزينًا قليل الكلام وكان إذا تحدث فهو صاحب حديثٍ مهذب لطيف، يمكنك أن تقول أنه من نوعية الأشخاص الذين يحب المرء أن يكون صديقًا لهم، وأظن أننا في عالمٍ آخر مثالي بلا قتلٍ أو عدوان كنا لنصبح صديقين مقربين ولكن، حسنًا، هذا العالم ليس مثاليُا! كان الطريق إلى قمة الأكروبوليس وعرًا مليئًا بالمرتفعات فاستمررنا في الحديث لاهثين أثناء تسلقنا للطريق المنحدر، ورُغم أن “شخر” احترم مبادئي فلم يفتح معي موضوع إسرائيل مرةً واحدة طوال الطريق ولا حاول حتى أن يقنعني بأيّ شيءٍ يخصّها، إلا أنّ عُقدة الذنب الأولى نفسها ظلّت تتنامَى بداخلي من جديد مع كل خطوةٍ نخطوها سويًّا؛ فقد كانت هناك تلك اللحظات التي أُسأل نفسي فيها ما الذي جاء بي إلى هنا؟ وهل ما أفعله صحيحٌ أم أن يدي الآن مُلطخةٌ بالدماء؟ ولكنني كنت أُخمِدُ تلك الشكوك بفكرة أن الله جمعنا هنا لسببٍ ما لن أعرفه حتى أتمّ المغامرة لنهايتها؛ فلا أرى مانعًا للاستمرار إذًا خاصّةً وأنني كنت واضحًا صريحًا من البداية معه بشأن انتماءاتي ورأيي في دولته، ولكن المرة الأولى في مواجهة معضلةٍ غير معتادةٍ مثل هذه دائمًا ما تكون سببًا لقرع طبول الحرب بين عقلك وقلبك وضميرك، حتى وإن كانت بُوصلتك الأخلاقية من فولاذ، فأنت لا تتدرب يوميًا على صيد البطاريق القطبية إن كنت تسكن أدغال إفريقيا!
وصلنا أخيرًا إلى قمة الهضبة العالية في مركز مدينة “أثينا” لنجد نفسينا وسط مجموعة من المعابد البيضاء الساحرة التي ظلت قائمةً هنا مُذ كانت البشرية طفلةً تحبو، تنظر حولك فتستشعر وجود الإغريق القدامى يؤدّون شعائرهم بسكينة في معابدهم الشامخة، يرتفع رأسي للسماء فأرى الإله “زيوس” بين السُحُب يُطل على رعاياه من على عرشه الرابض فوق جبل الأوليمب، نفس التجربة الروحيّة الموغلة في التاريخ التي تشعر بها في صحراء الجيزة أمام كيان أبي الهول الشامخ ولكن بحرارة أقل في الجو، والواضح أن كمية الصور التي أخذتها أمام المعابد قد أثارت غضب “زيوس” فقرر أن يُمارس معي نوعًا من الكوميديا الإلهية السوداء حتى يُمعن في تعذيبي نفسيًّا أكثر مما أنا مُعذَّب، والقارئ في الميثولوجيا الإغريقية يعرف أن آلهة الأوليمب كانت تسلّب وقتها بصنع المقالب في البشر، فتأكدت أنا من هذا حين لمست حسّهم الفكاهي بنفسي في موقفين خلال اليوم، وددت خلالهما لو تنشق أرض اليونان وتبتلعني حيًا.
الموقف الأول كان حين طلب منا موظّف الشباك جوازي سفرنا أنا و”شخر” كي يمنحنا خمسين بالمئة كتخفيضٍ خاصٍ بالطلبة على تذاكرنا، ولم تكن دهشتي أقل من دهشة الموظف حين وُضع أمامه جوازان أحدهما أزرق وعليه صورة الشمعدان اليهودي وغصني زيتون كرمزٍ للسلام (نعم لك أن تتخيل) والآخر أخضر وعليه نسرٌ جناحاه ضامران لا يستعملهما منذ سنواتٍ طوال. راعني الموقف فلم أجد غير الدُعابة سبيلًا لمواجه غرابته لأجد نفسي أقول إلى “شخر” ما إن خرجنا: “ياللرجل المسكين، تخيل أن يدخل عليك السادات ومعه جولدا مائير لشراء التذاكر للسينما” فضحك وقال لي: “نعم، إننا تقريبًا كمعجزةٍ متحركة”. أما الموقف الثاني فكان عند خروجنا من المنطقة الأثرية بعد انتهاء اليوم ليطلب سائحان من “شخر” أن يأخذ صورةً لهما، وقفت من بعيد أنظر إليه وهو يلتقط الصورة ثم لاحظت فجأة تحوّل اللغة بينهما وبين “شخر” من الإنجليزية إلى لغة أخرى مليئة بحرف الخاء، وبما أنني لدي خبرة لا بأس بها باللغة العربية فكان من السهل عليّ أن أعرف أنهم لا يتحدثون العربية الآن، مما لم يترك لي سوى خيار “العبرية” الذي كنت خائفًا من الاعتراف به حتى لنفسي، صديقانا الجدد هنا إسرائيليان! لم أوشك أن أدرك حقيقة المأزق الذي أنا فيه حتى وجدت “شخر” يقول لهم شيئًا جعلهما ينظران إليّ بتعجبٍ واضح ثم ابتسم لي أحدهما وحيّاني بسعادةٍ غامرة، فأدركت أنه أخبرهما للتوّ أنني مصري. شئٌ ما في نظرة ذلك الفتى وسعادته بمعرفة جنسيّتي ذكّرني بابتسامة نتنياهو السمجة وهو يطالب العرب بتحقيق ال”شالوم” المزعوم مع إسرائيل بصفتنا نحن الغيلان الكارهة للسلام، فوددت لو ألقي نفسي من فوق الهضبة التي نقف فوقها لأتخلص من المأزق الذي وضعت نفسي فيه، اتضح في النهاية أن آلهة اليونان ذات دمٍ ثقيل بالفعل..
كانت الساعة السابعة تقريبًا والشمس قد آلت للغروب وكنا متعجّلين للعودة إلى فنادقنا؛ لأن طائرتي إلى القاهرة سوف تُقلع في تمام الحادية عشرة وهو ينتظر مكالمةً من أسرته في تمام التاسعة، تركنا الأكروبوليس وفي طريق هبوطنا انفتح حديثٌ بيننا حول الأديان، عرف هو مني أن لُعاب الكلب يُبطل وضوء المسلم (في معظم المذاهب على الأقل) وعرفت منه أن لحم الخنزير مُحرم على اليهود كالمسلمين تمامًا، إلا أنه تذوقه بضعة مرات فهو غير متدين ولم يعد يمارس الشعائر اليهودية عدا الاحتفال بالأعياد لأنها تعيد له ذكريات الطفولة، في تلك اللحظة تمامًا رنّ هاتفي مُؤذنًا بوجوب صلاة المغرب فقلت له: “حسنًا أظن أن هذا يجيب عن سؤالك القادم لي مُقدّمًا”، كُنا جائعين بعد اليوم الطويل فقررنا أن نعرج على أحد فروع “كنتاكي” للحصول على وجبة العشاء، سألته عما يريد ثم دخلت وطلبت وجبتان لنا بينما جلس هو ليحجز لنا طاولةً بالخارج، وما إن خرجت له بالطعام كان قد أعدّ لي السؤال الذي كنت أنتظره منذ بداية رحلتنا القصيرة، بل ربما يكون هو السبب الرئيسي لقيامي بتلك الرحلة في الأساس، سألني : “لماذا تكره إسرائيل؟”.
أكره الأسئلة البديهيّة وأقف أمامها دائمًا مشدوهًا فارغ الفاه، أعني كيف بحق الله لا يعرف إسرائيلي سبب كره عربيٍّ لإسرائيل؟ ولكنني كنت أنتظر هذا السؤال بالذات منذ لقائنا لأنه كان مفتاح خلاصي من جلد ضميري وكنت قد جهزت له إجابة وافية، فاعتدلت في جلستي استعدادًا لنقاشٍ طويل حين قاطعني قائلًا: “وعلى فكرة، لقد سمعت أنه من أسبوع تم توقيع اتفاقية تطبيع بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل”، ابتسمت له وقلت: “آه نعم، لم يعجبني هذا” فتعجّب هو وأرجع ظهره للوراء ليسمعني أقص حكايةً طويلةً تبدأ بطرد اليهود قديمًا من القدس –والذي لا ذنب لنا فيه- مرورًا بوعد بلفور وهولوكست هتلر ثم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام ١٩٤٨ فالعدوان الثلاثي على مصر ثم نكسة ١٩٦٧ ونصر ١٩٧٣ انتهاءً ببدء الإسرائيليين ممارسة الهولوكوست الخاص بهم على العرب أطفالًا وشيوخًا ونساءً ورجالًا ، واغتصابهم الأرض والعرض والأخضر واليابس وكل ما هو من شأنه إنجاح دولة إسرائيل المجيدة حديثة التكوين، حرصت أن أبدي له كرهي لإسرائيل بكل ما أوتيت من قوّةٍ ولسان، ولكنني حرصت كذلك على إيضاح أنني لا أكره اليهود فهم أهل كتابٍ في القرآن إنّما أكره الصهاينة أي كل من له علاقةٌ بالاحتلال الإسرائيليّ من قريبٍ أو بعيد. ظل “شخر” يستمع إليّ بإنصات ويبدي اعتراضه على هذه النقطة أو تلك من حينٍ لآخر، وأهمّ ما لاحظته من تعليقاته هو أنه ليس معترضًا (أو على أقل لم يجرؤ على الاعتراض) على أنّ الاحتلال كان عدوانًا واغتصابًا للأرض والبشر، ولكنّه يرى أنّه قد حدث ما حدث والوضع سوف يبقى غالبًا على ما هو عليه؛ فلماذا إذن لا نتصالح نحن -الأجيال الجديدة من الطرفين- فنفتح صفحةً بيضاءَ جديدةً في تاريخنا، وننسى ببساطة ما فعله الأجداد المتحاربون كي نستطيع أن نحيا سويًا في سلام، وكان رأيه هذا هو الموضع الذي بدأ من عنده النقاش الفعلي بيننا وازداد احتدادًا وكنا قد أنهينا طعامنا فأكملنا النقاش في طريقنا إلى ميدان “أومونيا”.
– ” أي سلامٍ تريد يا صديقي؟ أنتم من تقتلوننا على أرضنا!” هكذا رددت عليه.. “السلام يكون بعد ردّ المظالم، لقد سُلبت أرضنا وقتّل أهلنا وهُتكت عروضنا، ثم تأتون والدماء تقطر من أياديكم تطلبون السلام؟ أي وقاحةٍ تلك؟”.. قلتها وسكتت قليلًا لأستردّ هدوئي ثم أكملت: “نحن مستعدون للسلام يا صديقي ولكنّ السلام يكون بعد أن تُردّ لنا حقوقنا المنهوبة.. نستعيد حكم أراضينا ونحاسب القتلة والسفاحين، حينها فقط يكون هناك سلام بل ويعود اليهود للعيش في فلسطين في سلام كما كانوا يعيشون أصلًا قبل الاحتلال، إنّما أيُّ سلامٍ قبل هذا لا يكون إلا عارًا على جباهنا.. نحن لم نعرض السلام في ١٩٧٣ إلا بعد أن استعدنا سيناء التي كنتم قد سلبتموها، ذاك يا صديقي هو السلام الحقيقيّ وليس السلام الزائف الذي تطلبونه”.
= “ولكن هؤلاء كانوا أجدادنا الذين تحاربوا على الأرض وتقاتلوا فيما بينهم، ما ذنبنا نحن الأجيال الجديدة أن يقتل بعضنا بعضًا؟ لماذا لا نعيش فقط؟”، هكذا ردَّ هو.
– “القضايا لا تسقط بالتقادم يا “شخر”، أولازلتم تحكمون أرضنا حتى الآن؟ فكيف تريد أن يتوقف خيط الدماء إذًا قبل أن نسترد أرضنا التي هي ملكنا منذ آلاف السنين؟ تخيل معي رجلًا يدخل بيتًا عتيقًا به أسرةٌ من خمسة أفراد، فيقتل الأب ويغتصب الأم حتى الموت ثم يترك الأولاد الذين شاهدوا مقتل أبويهم بأمّ أعينهم ليعيشوا في المنزل كالعبيد مع أسرة الرجل الغاصب، يأكلون طعامهم ويتركون لهم الفتات، ينامون على أسرّتهم ويتركونهم ينامون على الأرض، بل ويحاولون أن يعبثوا بعقولهم ليزيفوا تاريخ المنزل فيخبرونهم أن البيت كان بيت الرجل الغاصب من البداية وما فعل هو شيئًا غير أنه استرده من أبيهم، ثم يطلب الرجل منهم أن ينسوا الماضي الأليم ويعيشوا في سلام مع أولاده في “بيته” غير أنهم سيأكلون ذات الفتات وينامون على نفس الأرضية الباردة بينما ينعم هو وأولاده بطعامهم وأسرّتهم الناعمة، أليس هذا هو السلام الذي تريدون؟”
= “كلّا، أنا أرفض هذا المثال جملةً وتفصيلًا”
– “لماذا ترفضه؟”
= “لأنه مثالٌ مريع، كما أنه ليس حقيقيًا”
– “كيف يكون غير حقيقي؟ ألم تسلبوا الأرض وتقتلوا آباءنا وأجدادنا ثم إذا بكم تطلبون أن ننسى من مات ونتغافل عن حقيقة أنكم تعيشون على أرضنا وتسرقون خيرها ونتظاهر أن شيئًا لم يحدث، كيف يكون هذا مختلفًا عن ذاك؟ ثم إن كنت معترضًا على مثالي فأعطني مثالًا أفضل لأعرف منه حقيقة ما حدث”
= “ولماذا عليّ أن أعطيك أنا مثالًا؟”، قالها شخر بانفعال.
– “البيّنةُ على من ادّعى يا شخر، أنت تعترض على مثالي إذن فعليك أن تعطيني المثال الذي يصف ما حدث بالفعل من وجهة نظرك حتى تستطيع أن تنفي صحّة كلامي”.
صمت قليلًا ثم قال: “لا زلت أعتقد أننا يجب أن ننسى”، فأسرعت أنا بالرد عليه:
– “وهل نسيتم أنتم ما فعله بكم هتلر أم أنكم تبكونه في كل المحافل لتبررّوا به جرائمكم؟”
= “إن ما فعله هتلر كان علامةً في التاريخ!”
– “وما فعلتموه أنتم علامةٌ في تاريخنا!”
هنا ارتبك شخر وتوقف عن الكلام. كان أكثر ما لاحظته في حديثه معي هو أنه لا يكفّ عن الدوران حول الموضوع الرئيسي بسبب جهله به، والأدهى هو أنه اعترف لي بنفسه أكثر من مرة خلال نقاشنا أنه لا يعرف هذا الموضوع أو ذاك ويكون الأمر مُفجعًا لي حين يكون هذا الموضوع الذي لا يعرفه جزءًا لا يتجزأ من تاريخ إسرائيل وفلسطين، كمذبحتي “صبرا وشاتيلا” و”دير ياسين” مثلًا، حتى بدا لي وكأنه يعيش في فقاعة كبيرة. شخر لا يعرف شيئًا عن كيف عاش الفلسطينيون قبل الاحتلال وكيف يعيشون الآن، هو لا يعرف كيف كانت الأديان كلها بما فيها اليهودية تنصهر في مزيج رائع في بوتقة القدس قبل أن يرى العالم إسرائيل، ولا يعرف عن جرائم حكومته تجاه أبناء فلسطين للدرجة التي تجعله يتعجب لرغبة الفلسطينيين في التحرّر من قبضة حكومته واسترداد أرضهم، هو يعيش فقط كما يعيش بقية الإسرائيليين وكأنّهم استيقظوا صباحًا فوجدوا أنفسهم في فلسطين ووجدوا العرب السفاحين يرمونهم بالحصى بلا سبب..
بعد بعضٍ من الصمت، قال لي “شخر” ونحن نعبر إشارة مرور:
= “إن القدس لليهود، لطالما كانت كذلك، ولقد كان هناك عصرٌ كنا نحكم فيه أورشليم ولم يكن فيها سوى اليهود، فكيف لك أن تدّعي أنكم تملكونها وهي لنا منذ البداية؟”
– “تقول إنّ اليهود كانوا يحكمون القدس قبلنا يا صديقي وهذا صحيح، ولكنك تنسى أن اليهودية دينٌ وليست عرقًا من الناس، وأديان الناس تتغير ولكن يبقى الإنسان على عرقه وفصيلته حتى وإن غير دينه في اليوم التالي؛ فإنّ اليهود في القدس كانوا وثنيين قبل مجيء موسى برسالته، ثم جاء عيسى فتحوّل أبناؤهم إلى المسيحية، ثم تلاه محمد فاعتنق أحفادهم الإسلام.. إنهم نفس السلالة من البشر ولكن تغيرت أديانهم مع الزمن وظلوا يحكمون القدس ولكن بدينٍ مختلف، والبشر هم من يحكمون البلاد وليست الأديان، وإن كنا سنأخذ منطقك بوجه الاعتبار فإذًا إن جاء إلى مصر جماعةٌ من الناس ببشرةٍ بيضاء وشعورٍ شقراء وعيونٍ ملونة وطلبوا منا حكم البلاد بدعوى أنهم يعبدون الإله آمون في السر منذ آلاف السنين يكون لهم بهذا الحق في الحكم فقط لأنهم يعتنقون الديانة المصرية القديمة!”
بدا على “شخر” الانزعاج من ردّي، ولكنّه لم يُبدِ اعتراضًا عليه، وقد كان يزداد توترًا وكأن شيئًا ما يهتزّ داخله مع كل خطوةٍ نخطوها سويًا؛ وقد كان صوته –ككل الإسرائيليين- يتسم بنبرة عدم التصديق لما يقول وكأنه يعرف أنه يكذب، ولكنه استمرّ في الحديث وكأنّه يتحدث فقط ليُبرئ ذمته أو ليؤدي واجبه تجاه الوطن الذي وُلد على أرضه، وبنفس النبرة سأل سؤاله الأخير قبل أن نصل إلى الفندق الذي يقيم فيه:
= “حسنًا لقد كنّا نحكم القدس قديمًا ثم حكمها المسلمون ثم عدنا نحن الآن لنحكمها من جديد وبقيت فلسطين هي فلسطين بغض النظر عن الحاكم.. الناس فيها يعيشون ويتعايشون، لماذا يهم من الذي يحكم إذًا؟ لماذا لا نعيش في سلام وننسى دين من يحكم؟ ما الفرق بين حاكمٍ يهودي وحاكمٍ مسلم؟”
– “الفرق ببساطةٍ يا صديقي هو أنكم تحت حكمنا كنتم تعيشون في أمان.. تمارسون شعائركم بكل حرية وتمتلكون ذات الحقوق التي نمتلكها، كانت القدس إناءً تذوب فيه كل الأديان والعرقيات ويعيش فيها كل البشر في انسجام دون تمييز، أما نحن تحت حكمكم فمقهورون، نُقتل يوميًا كما الكلاب في الشوارع، أُخرجنا من بيوتنا التي عاش بها أجدادنا، أطفالنا مُشردون وشبابنا معتقل، محرومون من الصلاة في المسجد الأقصى ورجال ديننا مُهانون، ولا داعي لعدّ المذابح التي ارتكبها قومك في حق قومي، عن أي فرقٍ تسأل يا شخر؟ عن الفرق بين السماوات العُلا والدرك الأسفل من جهنم، ذاك هو الفرق”.
كنا وقتها قد وصلنا إلى باب فندق شخر ونستعد ظاهريًا للوداع، حين نظر إليّ شخر وقال لي جملةً لم أكن أتوقع أن أسمعها من فم إسرائيلي ولو بعد مائة عام، وهي ذات الجملة التي خلّصتني من أي بواقٍ لعذاب الضمير وجعلتني موقنًا أن لقاءنا اليوم كان مُقدرًا لسببٍ ما:
= “لقد سمعتك جيدًا يا عبدِل، وبالرغم من أنني لست متأكدًا مما قلت فقد سمعت معظمه منك لأول مرةٍ في حياتي إلا أنني أعدك أنني سأبحث فيه عند عودتي للوطن، لعلني أغيّر كثيرًا من آرائي”.
لا أذكر أن شيئًا ما قد أراحني في حياتي القصيرة أكثر مما قاله “شخر”، لقد استطعت أن أجعل عدوًّا يُفكّر.. يُعيد النظر في مبادئه، لم أكن أحاول أن أقنعه بشئ فقد بدا لي هذا مستحيلًا، كل ما كنت أريده هو أن يرى الجانب الآخر الذي لا يراه، الجانب الذي دمرته نيران المدافع والقنابل، وحينما يرى هذا الجانب الذي تعمل حكومته جاهدة على إخفائه وتدليسه شاغلةً العالم بدموع التماسيح.. حينها فقط يمكنه الحُكم بشفافية، في اللحظة التي يرى فيها وجهة نظرٍ أخرى تجعله يشكّ ولو قليلًا في وجهة نظره التي رضعها من ثدي أمه..
كنت ممتنًا على كلماته تلك فشكرته على تفتح عقله وصبره وهو يستمع لي أندد بأفعال قومه منذ بداية حديثنا، ثم نظرت إلى عينيه لأقول له كلماتي الأخيرة قبل أن أتركه وأنطلق في طريقي حيث شعرت وقتها أنني يجب أن أنهي هذا الحدث غير العادي بطريقة سينمائية دراماتيكية:
“لقد قضيت معك يومًا كاملًا يا شخر ولم أكن أعرف لماذا فعلت هذا من البداية، ولكن الشئ الأكيد هو أنك الآن تأكدت من خلال تعاملك معي ليومٍ كامل أن العرب قادرون على السلام بل راغبون فيه، إنّما لن نقبل به إلا ورؤوسنا مرفوعة، لذا أعدك يا صديقي أننا سنعود يومًا ما إلى القدس لنسترد ما هو لنا ونصلي الفجر في الأقصى، حينها فقط سنفكر في السلام”.
قلتها له بأفضل أداءٍ استطعته للفنان أحمد عبد العزيز ثم ودعته ورحلت، كنت أتمنى أن يكون ما قلته له للتو حقيقيًا ولكني كنت أعلم للأسف أنه بحكّامٍ صهاينةٍ كحكّامنا لن يكون هذا الحلم قابلًا للتحقيق قريبًا على الأقل، بل وربما ضحك “شخر” من داخله بعد خطبتي القصيرة تلك لأنه يعرف حالنا المخزي كما يعرفه العالم أجمع، إلا أنني شعرت أن واجبًا وطنيًّا يحتّم عليّ أن أقول ما قلت لأُبقي الأمل حيًا في قلبي على الأقل. والشاهد أنني بعد ساعتين كنت جالسًا على مقعدي من الطائرة المتجهة إلى مطار القاهرة أنظر من الشبّاك بينما تتلاشى أرض اليونان الساحرة من أمام عينيّ وأنا أتذكر الحدث الغريب وأبتسم، شاعرًا أنني سددت ولو قليلًا من ديني تجاه قوميتي..
يبدو أن “إدوارد ميرفي” لم يكن دجالًا في نهاية الأمر.. “كلُّ شيءٍ هناك احتماليةٌ له أن يحدث، فإنه سوف يحدث”.. اليوم تكون جالسًا على سريرك في بيتك المتواضع بأحد أحياء مدينة المحلّة الكبرى وفي اليوم التالي تكون في أثينا عاصمة اليونان على طاولةٍ واحدة مع ألدّ أعداء وطنك.. كل شيئٍ ممكن إذًا، ولكن الشئ المؤكد أنك لن تخرج من تجربةٍ نادرةٍ كتلك إلا وقد تعلمت شيئًا جديدُا، فقد كان يساورني الفضول دائمًا لأعرف كيف يعيش الصهاينة في إسرائيل على أرضٍ ليست بأرضهم دون عقدة ذنب؟ ماذا يخبرون أطفالهم بشأن جثث أطفال العرب في الشوارع؟ كيف يحكون قصتهم لأنفسهم فضلًا عن العالم؟ كانت المسألة معضلةً بالنسبة إليّ حتى قابلت شخر، ومن حديثه معي فهمت سياسة إسرائيل في كل جرائمها وعلى رأسها الاحتلال، إنهم فقط يتظاهرون أنها لم تحدث.. لا أكثر ولا أقلّ، وفوق هذا فإنهم محترفون في تزييف الحقائق بشكل مذهل، فهم مثلًا يتظاهرون أنه لم يكن هناك احتلال من الأساس بل إننا عدنا فقط إلى أرضنا –أرض الميعاد- بعد تشتتنا في الأرض والعرب الأشرار يودون طردنا فقط لأننا يهود، ثم إنهم بعد كل مذبحة يدّعون أنهم اضطروا بكل أسفٍ لقتل هؤلاء العرب لأنهم همج مجانين يودون قتلنا وذبح أطفالنا ونحن لا نفعل شيئًا سوى الدفاع عن أنفسنا، وبالطبع فإن اعتقال هؤلاء البرابرة ضرورة حتى يحموا رعاياهم من شرّ الهمج الذين يقتلونهم بلا سبب، ولا داعي لذكر أهميّة امتلاكهم للسلاح النووي لأنهم مجموعة غنمٍ مسالمين يعيشون وسط قطيعٍ من الذئاب ولا بدّ لهم من حماية أنفسهم..
إنّهم مجرّد ضحايا دائمًا في وضع الدفاع وطبعًا لا يعرفون شيئًا يسمّى الهجوم؛ ولذلك فهم دائمًا ساعون إلى السلام، ولكنّ الغاية تبرر الوسيلة، نحن العرب نقتلهم فيضطرون آسفين لقتلنا، وقِسْ على هذا كل شئٍ يفعلونه، وهذه السياسة إن سألتني سياسةُ المحتلّ الذهبيّة، وهي ناجحةٌ أيّما نجاح، فأمامنا شخر كمثال.. شابٌ إسرائيلي لا يستطيع حتى أن يؤذي ذبابة مُلحدٌ تقريبًا –أي أنه لا يعتنق حتى ديانة دولته الرئيسية- وهو يتمنى أن يعيش ويعمل خارج إسرائيل –أي أنه ليس حتى بهذه الوطنية- وهو مع هذا ما زال يردد شعاراتهم الفارغة، لا لشيءٍ سوى أنه ظلّ يتلقّنها منذ ولادته، فما بالك بكيف تكون عقول اليهود الذين يعشقون تراب الوطن؟ وهو ما يؤكّد لك نجاح تلك السياسة القميئة، ّإن فلسطين الآن تحوي قصّتين، قصّةُ فلسطين الأصلية والقصّةُ المزعومة التي اختلقتها إسرائيل، وللأسف فإنه في عصرنا الحالي انتصار قصّةٍ ما على غريمتها لا يعتمد على صحتها أو نزاهتها، بل يعتمد على جودة التسويق لها وهم يسيطرون على الإعلام العالمي كافّة، بالإضافة إلى قدرة الصهاينة التي لا غبار عليها في التلاعب وتسخير المآسي لمصلحتهم؛ فهم يمتلكون أسلحةً شتَّى كـ”الهولوكوست” و”معاداة الساميّة” و”أرض الميعاد” و”طرد اليهود من القدس ليتشتتوا في الأرض” وهي أسلحةٌ فعّالةٌ يستخدمونها لشحذ تعاطف ضِعاف النفوس في كلِّ مكان، ناهيك بالطبع عن المصالح السياسيّة مع الدول العظمى التي من مصلحتها أن تبقى إسرائيل في المنطقة بهدف تعدل القوى والنفوذ، ولكلِّ هذه الأسباب فإنّ قصّتهم أعلى صوتًا من قصتنا حتّى لو كان الجميع –بمن فيهم هم أنفسهم- يعلمون أن قصّتنا هي الحق، إنّ الاحتلال جريمة، ولكن الجريمة الأعظم منها هي محو المحتلّ لتاريخ الأرض المحتلَّة.. إنهم لا يسرقون الأرض فحسب بل يسرقون تاريخ أمةٍ بأكملها بتراثها وأغانيها الشعبية وحتى أطباقها المشهورة كالحمص والفلافل، وكأن هؤلاء الناس لم يكونوا قطّ هنا، وكأنّ الأرض كانت منذ بدء الخليقة لهؤلاء العُتاة، أي جريمةٍ تكون أقذر من هذه؟
أما عن شخر فهو شخصٌ طيب، ولكنه فقط مسمومٌ بسُمّ عشيرته، كل ذنبه أنه قد وُلد في المكان الخطأ، وُلد في عشّ الأفاعي، وعليك أن تعترف أن الحرب الأصعب التي قد يخوضها الإنسان هي حربه ضدّ قومه؛ فهي ليست حربًا على الأهل وتقاليدهم وعاداتهم فحسب، بل هي حربٌ على النفس كذلك، تتطلب منك أن تعترف أن أمّك التي أرضعتك وأباك الذي كساك ووضع سقفًا فوق رأسك وجدّتك الحنون التي داعبتك في مهدك كلّهم مجرمون، وأنت نفسك شريكٌ معهم في الجريمة لسكوتك عنها، هي حربٌ شعواء لا يقدر عليها الكثيرون، وما لُقِّب موسى وعيسى ونوح وإبراهيم ومحمد بأُولي العزم من الرسل إلّا لأنّهم اضطروا لخوض تلك الحرب الشعواء مع أقوامهم.. أما أنا؛ فأتمنى أن يكون شخر أينما كان الآن قد قرأ بالفعل وبحث بتمعّنٍ في تاريخ قومه بعد حديثنا ذاك، فإن بلغ الصواب يومًا ما أتمنى أن يكون أهلًا للحرب التي تنتظره..