ويليام جيمس: المفكر الذي آمن بالأفعال

ويليم جيمس وفلسفته البراجماتية

 

..لا تخافوا  الحياة، صدوقوا بأن الحياة تستحق العيش، وسيساعدكم إيمانك في صنع تلك الحقيقة..

-ويليام جيمس

دخل ويليام جيمس إلى صفّه في جامعة هارفارد على مضض في صباح يوم من أيّام سبتمبر عام 1891 مرتديًا -بشكل ملفت- قميصًا ملونًا ومعطفًا صوفيًا تزين صدره وردة. لاشك في أن مظهره بدا غريبًا بعض الشيء. أمّا محاضرته فقد كانت عفوية وغير منمّقة، على العكس من محاضرات زملائه والتي عادة ما تكون أكثر تنظيمًا و منطقيةً. كان جيمس يدّعي أنه لا يحب التدريس، وخاصة لطلاب هارفارد الكسالى، و مع ذلك فقد كان بارعًا في التدريس، بل أنّه كان استثنائيًا. يستدعي والتر ليبمان ذاكرته قائلًا: “لقد كانت محادثاتي مع جيمس هي أعظم ما حدث لي خلال حياتي الجامعية”، أما ويليام إدوارد دي بويز فكتب “لقد كان جيمس صديقي ومرشدي إلى التفكير بشكلٍ واضح”، ويقول روبرت ريتشاردسون في سيرته عن جيمس: “لقد كان جيمس واحدًا من أعظم الأساتذة في أميركا“.

..يمكن لنمط الشخصية المقاتل أن يُولد دون خوف..

-ويليم جيمس

تفادى جيمس الجلوس في مكتبه، فقد وقّع في عام 1878 عقدًا لمدة عامين بهدف تأليف كتاب في علم النفس، غير أن العمل على هذا الكتاب قد  تطلّبَ منه إثنى عشر عامًا. نظرًا لمشقة الكتابة وثقلها على نفس جيمس من التحدث في المؤتمرات أو حتى تسلق الجبال. فبأسلوب نثريّ مفعم بالحيوية، وزاخر بالأمثلة والنوادر من حياته الشخصية، لقي كتابه “مبادئ علم النفس The Principles of Psychology” المنشور في 1890 الكثير من المديح من قِبَل الأكاديميين والقراء العاديين على حد سواء. ووصف المؤرخ جاك بارزون الكتاب بالعمل الكلاسيكي و شبهه بـ”موبي ديك Moby-Dick“.

ولم يكن كتابه هذا  سوى البداية، فعلى مدار حياته كتب جيمس الكثير من المقالات والكتب التي غيرت وجه علم النفس و الفلسفة. روّج جيمس تحديدًا لـ”البراجماتية” وهي أسلوب تفكير أميركيّ بامتياز، يدّعي أنه يجب أن نختبر معتقداتنا وقراراتنا “فقط” بواسطة نتائجها.

في كتابه “خطابات إلى المعلمين في علم النفس Talks to Teachers on Psychology” أخذ جيمس علم النفس إلى الفصول الدراسية، و في مقالاته واسعة الانتشار مثل “ما الذي يجعل الحياة ذات أهمية What Makes A Life Significant” مدح بشدة قيم التفاؤل والتعاطف، وفي نهاية حياته كتَبَ “تنويعات التجربة الدينية The Varieties of Religious Experience” مثمنًا دور الدين في عصر تسيّد فيه العلم والمنطق المحض. كان ألفريد نورث وايتهيد يعتقد أن جيمس مفكر استثنائي تمامًا كأرسطو وأفلاطون وليبينيز.

فمن هو ويليم جيمس؟ وما الذي يربطه بوقتنا الحاضر؟

إعلان

لوحة رسمها جيمس لنفسه، 1866

ينحدر ويليام جيمس من عائلة مرموقة، فقد كان والده الثري هينري صديقًا لكلًا من إيمرسون وثورو، وقد كتب لمجلة أتلانتك الشهرية. تنقّل بعائلته من لندن إلى باريس إلى نيوبورت، عرفهم على ألفريد لورد تينيسون وجون ستيوارت ميل؛ باحثًا عن التنوير الفكري، وساعيًا لتقديم أفضل تعليم لأبنائه الخمسة الذين أحبَّهم كثيرًا. كان هينري شقيق ويليام واحدًا من أشهر الروائيين في أميركا خلال العصر المذهب*، أما أليس جيمس شقيقتهم فقد أصبحت مشهورة مؤخرًا بخطاباتها ويومياتها التي تبرز معاناة المرأة في مجتمع أبوي فيكتوري.

أما ويليام الشقيق الأكبر فقد علم نفسه بنفسه،  ولكنه لم يستطع إيجاد هدف محدد أو أن يبدأ مسارًا مهنيًا واضحًا. في 1860 درس ويليام الفنون في نيوبورت برفقة ويليام مورس هانت، وسافر إلى الأمازون برفقة العالم المشهور لويس اجاسيز؛ لجمع ودراسة الأسماك، ودرس التشريح في كلية الطب في هارفارد، وقرأ بنهم لكل من تشارليز داروين وجورج إليوت وتوماس هيكسلي وفيودور دويستوفسكي.

 

صاحبت الاضطرابات النفسية موهبته وثروته، فخلف مظهره النشيط والمتحمس أخفى جيمس الكثير من الشك والأمراض المزمنة (آلام الظهر، وضعف النظر، واضطرابات الهضم، والأرق، والاكتئاب). تجنب جيمس الحرب الأهلية وارتحل إلى أوروبا جيئةً وذهابًا. أغرقته الأفكار الانتحارية، فبحث عن الشفاء في العلاج بالماء والصدمات الكهربائية وحتى التنويم المغناطيسي واستنشاق أكسيد النيتروجين. وبحث عن إجابات في كتابات كثير من المفكرين أمثال توماس كارليل ويوهان فولفجانج فون جوته.والجدير بالذّكر أيضًا أن جيمس لم يجد بعضًا من الاستقرار سوى في منتصف الثلاثينات من عمره، حيث وجد غايةً لحياته وشَعَرَ بطاقة وقليل من الارتياح من توعكاته المتكررة.

كان إيجاد وظيفةً والعثور على الحب بمثابة نقطة تحول في حياة جيمس، فقد عرض تشارليز والبرت رئيس جامعة هارفارد النامية على جيمس وظيفة تدريس التشريح في 1837، كما وقّعت معه دار هينري هولتز للنشر عقدًا من أجل كتابه عن علم النفس، وفي عامه السادس والثلاثين  تزوج من آليس جيبينز “المرأة المثقفة القوية، التي كرّست نفسها لأجل زوجها المصاب بالوهن العصبي وأطفالها الخمسة”. كتب جيمس لها بعد شجار وقع بينهما: “عزيزتي، لقد وجدت فيك جنتي بعدما انتشلتيني تمامًا من جحيم الوحدة.. ووجدت الخلاص فيكِ بعدما أنقذتِ حياتي من دمار ِمحتم“.

لم يكن جيمس ليستقر كثيرًا بالرغم من امتنانه لزواجه؛ فقد كان يهرب إلى الجبال في نهاية الفصل الدراسي، حتّى أنّه سافر إلى أوروبا بينما كانت زوجته تضع مولودها. انتكس جيمس مجددًا بالاكتئاب، واستشار عددًا من الأخصائيين النفسيين. وكتعويض لقلة فاعليته واعتلاله، و كترياق لأمراضه المتكررة، آمن جيمس بالتفاؤل والحركة المستمرة. فكتب ثيودور روزفيلت -تلميذه في هارفارد- يقول: “من النادر أن يلحق الأسى بقائد يقود بسرعة كافية للهروب منه” كان جيمس ليوافق تمامًا على هذه المقولة.

 

عند تسليم مسودة كتاب “مبادئ علم النفس” ذات الجزئين إلى الناشر المتحرق شوقًا لذلك، أرفق جيمس ملحوظة تقول: “لا يمكن لأحد أن يكون أكثر اشمئزازًا مني عند رؤية هذا الكتاب”، ولكنّ زملاؤه من الأكاديميين أدركوا لاحقًا أنهم أمام عمل استثنائي، يجمع بين البحث الأكاديمي والبصيرة العميقة. أعاد جيمس لاحقًا كتابة بعض فصول الكتاب من أجل نسخةٍ مختصرة، تلقَّوها طلاب هارفارد بشغف كبير، وأطلقوا عليها “جيمي”، لتصبح فيما بعد “علم النفس: مَسَاق مختصر” أهم مراجع علم النفس للطلاب في أنحاء البلاد.

يقول جيمس في إحدى فصول الكتاب والمعنونة بـ”العادة”: لايوجد إنسان أكثر بؤسًا من شخص ليس لديه عادة سوى التردُّد. حيث يصف جيمس العادة بأنها “العجلة المحركة للمجتمع“، ويقدم اقتراحات محدّدة حول كيفية تحويل الأفعال المفيدة إلى عادات، مثل: حدد أهدافك، أعلنها، ابدأ بالعمل عليها، تحَلّ بالمثابرة. إن العادات الجيدة إذا ما عملنا عليها بجدية تصبح راسخة في عقولنا، فالتلقائية تمحو التعب، وتحرر أقصى الطاقات العقلية لدينا، كما أنّها تجعل حياتنا اليومية أكثر احتمالًا، وهذا ما يسمح للحضارة بالازدهار.

 

ابتكر جيمس عبارة “تيار الوعي” ليصف طريقة عمل عقولنا؛ فتفكيرنا ليس منظمًا ومنطقيًا، وإنما عشوائيًا، وأمزجتنا تتأرجح باستمرار وبدون تفسير. “ما كان مثيرًا ولامعًا يومًا يصبح باهتًا ومرهقًا و بلا قيمة”. كان الهدف من الكتاب أن يقدم رؤىً تجريبية لعقولنا التائهة وعواطفنا المتذبذبة، حيث يحاول جيمس في الكتاب أن يشرح كيف نتذكر، وكيف نترابط ونتخيل ونفكر، وكيف نشعر ونتصرف.

وفي فصل “عن الذات” يستشهد جيمس بسير السابقين، فيستدعي النبي أيوب وماركوس أوريليوس، ويجعل حديثه شخصيًا على غير عادة الكتب الدراسية. أما في فصل “عن الانتباه” فيسخر من أستاذ جامعي (غالبًا هو نفسه) كثير التلكؤ والتسويف، والذي سيفعل أي شيء ليتجنب تدريس مساق عن المنطق الذي يكرهه، ويقدم نصائحًا حول تحسين الذاكرة ومقاومة الكآبة، والتغلب على الخمول، والنهوض من الفراش في الصباح.

أصبحت أجزاء من الكتاب قديمة الآن بالطبع، فجيمس لم يكن يعلم شيئًا عن المليارات من الخلايا العصبية في الدماغ والروابط العصبية بينها، وكذلك النواقل العصبية الكيميائية مثل الدوبامين والأوكسيتوسين. ولم يمكن بإمكانه النظر داخل الدماغ أثناء الاستثارة الجنسية أو الاكتئاب كما هو متاح للنفسانيين في العصر الحالي. قد يتذمر النفسانيون المعاصرون من كثرة المواعظ والخروج عن صلب الموضوع في الكتاب، لكن يبقى التواضع أحد سماته الجذابة. فقد توقَّعَ ورحَّبَ  بأن يزيحه نفسانيٌّ آخر عن مكانته مستقبلًا، و شبَّه ذلك بظهور “جاليليو علم النفس“.

في منتصف الثمانينات من القرن التاسع عشر، يتنقل جيمس بين بوسطن وشيكاغو وكلورادو سبرينج، ملقيًا محاضراته أمام آلاف المعلمين، في محاولة لكسب المال، وكذلك لتقوية الصلة بين بحثه في علم النفس ولا المناهج الدراسية. لاحقًا يقوم بتلخيص محاضراته في كتاب صغير بعنوان “خطابات إلى المعلمين في علم النفس“.

أشار جيمس في إحدى فصول كتابه، والتي تحمل عنوان “عن الترابط” إلى أن المعلم الماهر هو من يستطيع ربط الموضوع بالخبرات والمعارف السابقة لطلابه. وأشاد بالمعلم القادر على الربط ببراعة وبخيال واسع. ذلك المعلم الذي ينتهز اللحظة المناسبة، فيضرب المثال الصحيح.

كان جيمس متفائلًا حيال قدرات الإنسان الكامنة، ولكنه كان واقعيًا إزاء طبيعته البشرية. ففي فصلي “الإرادة” و”الغريزة”، قدم تمهيدًا لعلم النفس التطوري يُذكّر فيه المعلمين بأن البشر بطبيعتهم عدوانيون وتنافسيون وجشعون، ولكنه أضاف أن غريزة الصراع لدينا يمكنها أن تصبح حليفة للمعلم؛ حيث أنها تدفعنا نحو محاولة إتقان المواضيع الصعبة وغير المستساغة لنا. فمثلًا يمكن للمعلم تحفيز الطالب عن طريق إشعاره بالخجل لكونه يشعر بالرهبة أمام مسألةِ قسمة مطولة، أو لكونه يشعر بالضآلة أمام فهم قانون الجاذبية.

سبق جيمس “إي.دي.هيرتش” في الدعوة إلى محو الأمية الثقافية حين أكّد على أن أفضل العقول المتعلمة هي تلك التي تمتلك أكبر مخزون من المفاهيم والأفكار لمجابهة أكبر قدر ممكن من الطوارئ والمتغيرات في الحياة. وسبق كذلك “هاورد جاردن” إلى اكتشاف تعدد أنواع الذكاء،  فأكد على أن الطلاب يتباينون من حيث الأمزجة، وأن المعلم الماهر هو من يستخدم تقنيات مختلفة مع أساليب التعلم المختلفة. وعلى عكس غالبية الأساتذة في هارفارد -في ذلك الوقت- شجّع جيمس طلابه على التساؤل، ومدحهم بدون تحفظ، ودعاهم إلى منزله. حتّى أنّه كان صبورًا أمام عجرفة تلميذه “ثيودور روزفلت”.

بدأت كلمتي في حفل تأبين والدي باقتباس من ويليام جيمس: “لا تخف من الحياة، آمن بأن الحياة تستحق أن تُعاش، وسيساعدك إيمانك في جعل ذلك حقيقة“. لقد أحب والدي جيمس الذي شدد على أهمية التجريب والتحقق والحركة. فالأمريكيون يتّصفون بأنهم عمليون ومبدعون، يتعطشون للحقائق ويوازنون التكاليف والفوائد.  ومن أجل الخروج بأمةٍ ذات نظرة مثالية تفاؤلية ونفعية؛ قدّم جيمس فلسفة البراغماتية.

كانت البراغماتية طريقة لحل المشكلات واختبار المعتقدات وتسوية النزاعات، في عالم مليء بالصدف والمعلومات غير المكتملة. ولقد شدد جيمس على أن الحقيقة صعبة المنال، ولكن الأفعال ضرورية. لذلك كان الحل هو أن تتخذ قرارًا ثم ترى إن كان سيجدي نفعًا أم لا، وأن تجرب معتقدًا ثم ترى إن كانت حياتك ستتحسن على إثره أم لا، وألّا تعتمد على المنطق وحده، بل تضيف إليه الخبرات والنتائج، وأن تتجنب المذاهب والتجريد، وأن تخاطر.

الحقيقة تحدث للفكرة، وأنّها تتحول إلى واقع بواسطة الأحداث.

أصرَّ جيمس على وصف نفسه كمن نشر وجمع البرجماتية، وليس بصفته منشئها. فقد كان أرسطو وجون ستيوارت ميل براغماتيين ومفسرين للتجريبية. بالطبع كان بعض الفلاسفة متشككين حيال البراغماتيّة، فالحقيقة تصبح كل ما هو نافع وذو قيمة. فقد كان بيرتراند راسل متخوفًا من أن تحل البراغماتية محل الموضوعية المثالية للحقيقة، مطلقًا عليها “نوع من الجنون غير الموضوعي المميّز لأغلب الفلسفات الحديثة”. فمن وجهة نظر هؤلاء المشككين، تشجع البراغماتية على النسبية واللاموضوعية، وتقود إلى اللاعقلانية”.

يقول المؤرخ المعاصر “جيمس كلوبنبرج” أن الأمر ليس كذلك، فقد اجتاحت البراغماتية أميركا خلال النصف الأول من القرن العشرين، مشجعةً على تجريب التقدمية وكل ما هو جديد. وبعد فترات من التراجع، تعود الآن مؤثرة في الواقعية القانونية، ومشجعة على التعددية الثقافية والحكومة العلمية، ووفقًا لـ”كلوبنبرج” فقد ساهمت أيضًا النظرة العالمية لـ”باراك أوباما”. وتعد البرجماتية العدو الأول لليقين والتبسيط والخيالية، كما أنّها تمجّد التشكك والتجريب والتسامح.

تتجلى البرجماتية في عالم الأعمال اليوم عندما يسجل مكتب الأعمال والميزانية مقترحًا ضريبيًا أو فاتورةً طبية. فعندما يطلب مدير الشركة تحليل الفائدة والتكلفة فإنه يفكر بطريقة برجماتية. ويجعل القانوني المعاصر”ريتشارد بوسنر” القانونَ برغماتيًا حين يربط بينه وبين الاقتصاد في كتابه الصادر في 2003 “القانون والبراغماتية والديموقراطية”. كما أن جملة “الشيطان يكمن في التفاصيل” أصبحت صيغةً مبتذلة، فهي تعكس إيماننا بالحقائق والمنفعة والمنطق، كما تعكس توغُّل البراغماتية في كل مناحي الحياة الأمريكية.

تمتلك البرجماتية ميزة أخرى، وهي أنها أفسحت الطريق للوصول إلى الإله، فلطالما كان جيمس مهتمًا بالدين ومؤمنًا بأهميته، فشجع أبناءه على الالتحاق بالصلوات الصباحية بكنيسة جامعة هارفارد، واعترف أنه لم يمتلك أي خبرات شخصية عن الله، ولكنه كان يحترم من امتلكها. ففي عصر الداروينية اكتشف جيمس سلاحًا يجيز المعتقدات الدينية، وكشف عن براهينه في محاضرة عام 1896 بعنوان “إرادة الاعتقاد” (قال لهينري لاحقًا أن العنوان كان يجب أن يكون “الحق في الاعتقاد”)، فطالما أن الإيمان يمنح الفرد شعورًا بالسلام و الطمأنينة، ويُذهِب شعور الوحدة، ويعزز قدرته على التحمل، ويحسن من سلوكياته؛ فإنه يمكن القول بأن الإيمان حقيقة بالنسبة لذلك الفرد. يتصرف البشر في مختلف جوانب حياتهم بناءً على أدلة غير كافية، فإذا كان الدين يزيد من سعادتنا، ويشجع السلوكيات الأخلاقية، ويمنحنا حياة لا نهائية، فلم لا نقامر؟

أتبَعَ جيمس كتابه “إرادة الاعتقاد” بعشرين محاضرة ألقاهم في إدنبرة باسكوتلندا، والتي نشرت لاحقًا في عام 1902 في كتاب أطلق عليه اسم “أنواع في المعتقدات الدينية: دراسة في الطبيعة البشرية”. أصبح هذا الكتاب الذي كتبه جيمس أثناء معاناته من أزمة قلبية واحدًا من أفضل الكتب مبيعًا، و أكثر أعماله تأثيرًا، وما زالت تصدر طبعات جديدة منه حتى اليوم.

احتاج جيمس لفهم المعتقدات الدينية من أجل الدفاع عنها، فجمع الكثير من الروايات عن إلياس وعن الاتصال الروحاني، وجمع الكثير من الأوصاف للحظات النشوة الروحانية، وقدّم في كتاباته أشعار والت ويتمان عن “الروح الصحية”، وكذلك مرثيات ليو تولستوي عن “الروح المريضة”. اقتبس عن جوناثان إدواردز وبلايز باسكال، كما أشار إلى مفكرين بوذيين ومسلمين ومن طائفة كويكرز الكاثوليكية. وتضمّنت كتاباته قصصًا عن بعض الأشخاص المتعافين من إدمان الكحول واللذة، وأخرى عن صوفيين ذوي اتصال مع قوى عليا، وعن مبشرين اعتنوا بالمرضى. يقول جيمس: “تتحرر كل أنواع الطاقة و الجلد والشجاعة والقدرة على تحمل شرور الحياة بداخل أصحاب الإيمان الديني.

يصف ويليام جيمس كيف تتغلب الصلاة على الكآبة، وكيف يخفف الاعتراف من عبء الذنب، وكيف تقود التضحيات إلى السكينة. فيذكّرنا بأن “كل وجود فردي يخرج إلى نوبة من الوحدة والعذاب البائس”، ويصف أكثر مميزات الدين جاذبيةً وهي “الأمل في حياةٍ أخرى”. سجل جيمس بتعاطف كبير خبرات أولئك الذين ادعوا اتصالهم بما هو غير مرئي، مؤكدًا وجود أنواع مختلفة من الوعي. حيث يؤدي الدين إلى حياة أكبر وأكثر رضا، ويضيف إليها متعة و شعورًا بالأمان، ويناشد فينا روح البطولة.

عارض جيمس ادّعاء أصحاب المذهب العقلاني بتفوقهم، فأعاد العاطفة والمشاعر للبحث الديني وللعقل نفسه. كان فرويد يدّعي أن الدين مبني على التقليل من قيمة الحياة، أما جيمس فقد آمن بأن الدين يحسن من الحياة. يرى المترددون بشأن الدين أن جيمس قدم حججًا قوية للغاية، بينما يرى المتشككين أنه لم يكن لديه الكثير ليقدمه حول مساهمة الدين في نشر التعصب والخرافات والحروب.

انتقد جيمس بالفعل الهيستيريا الدينية، فبينما كان يخاطب جمهورًا من بضعة آلاف في إدنبرة، كان المبشر الإنجيلي “دوايت مودي” يلقي خطاباته من إنجيل قديم الطراز على مئات الآلاف حول أمريكا وأوروبا. وكان الواعظ ونجم البيسبول السابق “بيلي ساندي” يندد بنظرية التطور ويتوعّد بلعنة الرب أمام جماهير وصل تعدادها لملايين.

يظل كتاب جيمس بالنسبة للكثير من المؤمنين بمثابة دفاع قوي أمام كارل ماركس، الذي انتقد الدين باعتباره “أفيون الشعوب“، وأمام فرويد الذي اعتبر الدين مجرد وهم، وأمام الكتاب المعاصرين أمثال دانييل دانيت وسام هاريس وريتشارد دوكينز وكريستوفر هيتشنز (المعروفين سويًا بلقب “فرسان الإلحاد الأربعة”). قرأ بيل ويلسون مؤسس منظمة “مدمنو الكحول المجهولين” كتاب “أنواع التجربة الدينية” مرات عدة، وامتدحه “جون آبدايك” في مقاله “مستقبل الإيمان” عام 1999، و كذلك آندرو نورمان ويلسون في كتابه “جنازة الرب”.

حل عام 1900 ليجد أبناء الطبقة العليا الأمريكية أنفسهم وسط أزمة “الوهن العصبي neurasthenia”، والمعروفة أيضًا بضعف الأعصاب. اشتملت الأعراض وفقًا لمكتشف المرض “جورج ميلر بيرد” على الاكتئاب والإرهاق والتهيج، وتلخّصت الأسباب في العمل المكتبي المثير للتوتر والمدن المزدحمة والتغيرات السريعة الملازمة للمخترعات الجديدة. والجدير بالذكر أن عائلة جيمس  عانت من الوهن العصبي، وكذلك ثيودور روزفيلت الذي هرب إلى الحدود، وجين آدمز الذي احتضن المضطهدين. وكان الدين بمثابة الدواء كما أوضح جيمس، وربما كانت هناك أدوية أخرى مثل اليوجا والروحانية والعلوم المسيحية والمستويات المختلفة للوعي، وكل ذلك يمثل طرقًا مختلفة نحو السكينة في عصر قلق.

استقصى جيمس هذه “العلاجات الروحية“، حيث أصبح صديقًا للروحانية الشهيرة “ليونورا بيبر”، فحضر جلساتها لتحضير الأرواح، وشغل لاحقًا منصب رئيس جمعية الأبحاث النفسية. لم يؤيد جيمس علاجًا محددًا وإنما شجع البحث وراء تلك الظواهر، ما جعله محل سخرية زملائه باعتباره مشجعًا للخرافة.

قدم جيمس بالفعل نموذجه الخاص من العلاج الروحي في سلسلة من المحاضرات ألقاها خلال العقد السابق للحرب العالمية الأولى.

قدمت هذه السلسلة “طاقات الإنسان” رسالة داعمة مضمونها “أننا -مقارنة بما ينبغي- فإننا فقط نصف مستيقظون، وأن نيراننا منطفئة”. ويضرب جيمس مثالًا بالجنود في الحرب والمدنيين في زلزال سان فرانسسكو؛ ليبرهن على أنه من خلال الضرورة وقوة الإرادة يمكننا أن نرفع مستويات طاقتنا وأن نصبح أكثر بطولة.

أصبح ويليام جيمس رائدًا لحركة “الإمكانات البشرية”، وينسب أبرهام ماسلو الفضل لجيمس في التأثير على نظريته عن تحقيق الذات. وامتدحه مارتن سيلجمان مؤسس “علم النفس الإيجابي”، وكذلك أنجيلا دوكوورث مؤلفة الكتاب الأفضل مبيعًا “الحصيلة: قوة الشغف والمثابرة”.

ينتقد جيمس في مقاله “عن نوع من العمى لدى البشر” الرجال والنساء المتمركزين حول ذواتهم لدرجة عدم الاهتمام بالآخرين، وينتقد كذلك المتشائمين الذين يفقدون تواصلهم مع الطبيعة ويحتقرون كل ما هو اعتيادي، وينادي بالتسامح والتعاطف والامتنان ممتدحًا الشاعريْن والت ويتمان وويليام ووردزورث. يشير الكاتب روبيرت ريتشاردسون إلى تلك المقالة -المفضلة لدى جيمس- باعتبارها إحدى الوثائق التي تُعرف الديموقراطية الأمريكية.

يطبق جيمس في كتابه “إنجيل الاسترخاء” أفكاره في علم النفس على الاهتمامات اليومية، فمثلًا: قللْ من التأمل الذاتي، ولا تصبح سجينًا للمشاعر الكئيبة. لكي تشعر بأنك شجاع؛ تصرف بشجاعة. لتصبح مرحًا؛ ابتسم واضحك. يتطلب العقل الهادئ جسدًا صحيحا. مفتاح الحيوية هو الرياضة كالتنس والتزلج وركوب الدراجة، وقبل كل شيء، عادات صحية. ثم يصبح جيمس “العالِم بهارفارد” رائدًا للخطاب العلماني، وللطرق الواعدة لكتيبات المساعدة الذاتية، والتي ستصبح سلفًا لأكثر من ٤٥٠٠٠ كتابًا يتم طباعتهم الآن.

كشف جيمس من خلال هذه المقالات المشهورة عن قدرته الفائقة على إصابة عين الحقيقة بعبارات لا تنسى. “ما الذي يحفز الرجال؟ كيف تكتسب وكيف تُبقي وتستعيد السعادة هو في الحقيقة الدافع السري وراء كل ما يفعله أغلب الرجال و كل ما هم مستعدون لتحمله”. “لماذا نذهب إلى الكلية؟ إن أفضل جواب قد يقدمه التعليم الجامعي هو أنه يساعدك على معرفة الرجل الجيد حين تراه”. ويقول جيمس في نقده للعقلانيين: “تؤثر مشاعرنا وأمزجتنا وحالاتنا العقلية الحالية على أفكارنا، فلا يمكننا في النهاية التفرقة بين المفكّر وفكرته”. “المغزى من الحياة: لا توجد سوى توصية واحدة غير مشروطة يجب السعي وراءها باستمرار وبخوف ورهبة، وهي أن نختار ونعمل لتحقيق أكبر عالم من الخير يمكن تحقيقه“.

لم يتكلم جيمس فقط عن التحول الشخصي وإنما أشار أيضًا إلى شرور العصر: إدمان الكحول، العنصرية، الإعدام بدون محاكمة والحروب. فكتب مقالًا في ١٩١٠ بعنوان “التاريخ هو حمام من الدماء“. أصابته الحرب الإسبانية-الأمريكية بخيبة أمل، وأفزعه اجتياح الفليبين الذي تلاها، فألهمه لكتابة مقاله المشهور “المعادل الأخلاقي للحرب”، والذي انتشر بين ملايين من القراء. و كتحولٍ نحو علم النفس التطوري؛ تقبل جيمس أن التنازع والكبرياء والوطنية هي صفات غريزية، لكنه جادل بأن العنف يمكن إعادة توجيهه، وأنه يمكن للتجنيد من أجل الخدمة المدنية أن يستبدل التجنيد العسكري. فهؤلاء الشباب يمكنهم أن يجابهوا الطبيعة بدلًا من محاربة الأمم. يمكنهم أن يخدموا المجتمع ويمكنهم أن يجدوا الرومانسية في أساطيل الصيد أو في سيارات الشحن. “يمكن لنمط الشخصية المقاتل أن يولد من دون حرب“.

تسلق جيمس جبل مارسي أعلى قمة في ولاية نيويورك في ١٨٩٨، مما أجهد قلبه، ولم يستعد عافيته تمامًا بعدها. و لكنه استمر في العمل رغم تدهور صحته. وخلال الإحدى عشرة سنة التالية كتب كتابيه الكلاسيكيين “أنواع الخبرة الدينية” و”البراغماتيّة”. قال فرويد -الذي قابل جيمس في ١٩٠١- أنه تمنى لو كان بمثل شجاعة جيمس في مواجهة الموت. توفى جيمس بعد عام ونعت الصحف وفاته في كل أنحاء أميركا.

يذكرنا جيمس بأن “الفلسفة هي التعبير عن شخصية الإنسان الحميمة“، فشقيقه هينري كتب بعد وفاته أنه سيفتقد صحبة شقيقه التي لا تنضب، سيفتقد وجوده الجميل والنابض بالحياة. ترك جيمس خلفه المئات من الخطابات إلى عائلته وزملائه وتلامذته. تكشف الخطابات عن شخصية جذابة: عفوي وبارع ومرح وعطوف ومتسامح ومحب للغير. لقد كان رجلًا يحول عصابه إلى منجزات.

ما هو إرثه؟

أخرج ويليام جيمس الفلسفة من الأروقة الأكاديمية إلى الشارع. صاغ الفلسفة في جمل مميزة لا تُنسى، فجعلها مفيدة للرجل العادي الذي كان يتوق لفهم عقله وتحسين حياته. حول علم النفس إلى علم حقيقي، مبتكرًا مفهوم “تدفق الوعي”؛ حيث يقترح أن الدماغ هو عضو حيوي ديناميكي. روّج للبرغماتيّة باعتبارها طريقة أمريكية خالصة لحل المشكلات، مفيدة لصانعي القرار وللمواطن العادي على السواء. أجاز المعتقدات الدينية، جالبًا بذلك العزاء والسكينة إلى أمريكا الحائرة بين يدي الداروينية. دعى إلى التفاؤل والطاقة والحركة في بلاد موبوءة بالإرهاق العصبي والذهني. وكتب في مطلع العشرينات تنديدات لاذعة للإمبريالية محاولًا تفسير واستئصال العنف والعدوان البشري في عالم ينجرف نحو كارثة.

المصدر
https://www.neh.gov/humanities/2018/winter/feature/the-thinker-who-believed-in-doing-0
هوامش
* العصر المذهب (بالإنجليزية: Gilded Age)‏ هو مصطلح يُستخدم للإشارة إلى الفترة الممتدة ما بين العقد السابع للقرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين من التاريخ الأمريكي.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

تدقيق علمي: ريهام عطية

ترجمة: عمرو مختار

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا