الأيام الأخيرة مع الإيدز
العقابُ الذي لا يَليه بعث، هو تهديدٌ ليسَ بعده تهديد؛ خصوصًا لأولئكَ الذينَ يريدونَ التخلُّص من أجسادهم الذين كانوا يتمنّون إنقاذها للأبد
تبدو جُملة نيتشه التي كتبها في مؤلَّف الفجر واضحةً تمامًا، إنّ المريض يَظلّ قلِقًا في انتظار تشخيصه، فتجد المريضَ في حيرةٍ دائمةٍ إذا ما كانَ هناك علاجٌ لمرضهِ، هيرفاي غويبرت Hervé Guibert صوّر حياته قبلَ أن يُتوفّى بثلاثة أشهر، و بعد تشخيص إصابته بالإيدز، كتب روايةً صعقَت الإعلام ودمّرت تفنُّن المثقفين في معرفة حياة ميشيل فوكو بعنوان “إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي”، وُصفت بأنها مُدمّرةٌ ومُضحكةٌ بطريقةٍ سوداء، والتي تؤرّخ ثلاثة أشهر في السنة قبل الأخيرة من حياة المؤلِّف، في أعقاب وفاة صديقه موزيل – اسمٌ مُستعارٌ لـ “فوكو”– وانتقاله من طبيبٍ إلى آخر، من دجّالٍ إلى آخر، ومن الإجازات إلى مراكز الاختبار العلمية، ويرسم أعلى مستوياته وأدنى مستوياته في محاولة خداع الموت، لكنهُ يقنتعُ أخيرًا بالمطاف الذي سيُنهي جسده عن الحياة.
عند نشرها في عام ١٩٩٠م؛ أثارت الرواية فضيحةً لوسائل الإعلام الفرنسية، التي سرعان ما حدّدت شخصيةَ موزيل على أنه صديق غويبرت المُقرّب “ميشيل فوكو” الذي عانى بشدّةٍ قبلَ وفاته.
أصبح الكتاب من أكثر الكُتب مبيعًا، وأصبح غوبيرت من الشخصيات المُشار إليها، وحقّق هذا الكتاب منذ ذلك الحين عبادةً متبعةً بسبب رواياته الرقيقة والمجزّأة والمكتوبة بشكلٍ فاضحٍ وصادمٍ عن المرض والصداقة والجنس والفن والحياة اليومية.
ركزوا معي: ملابسٌ مُعلّقةٌ بإهمالٍ على جسده غير المُتّزن صحيًا، كأنهُ فزّاعة، يتأرجح مع كل محاولةٍ ليرفعَ ذراعه ويوجّه لكمةً في الهواء، لا يوجدُ معه أيّ شخصٍ آخر في الغرفة، فهو مُستقلٌّ بعدَ أن كانَ شخصًا اجتماعيًا ومصوّرًا محترفًا ومُعدّ برامج متميّز، ينظر بتحَسُّرٍ فائقٍ إلى عارضة أزياء كانَ يصوّرها، لفتنيّ قرد محشوّ، كذلكَ ضبابيةٌ تعوم على الكتب ذات الأغلفة الورقية والسجاد الزهري، ثمّ دواءٌ مبعثرٌ في الحمام، يُذوِّب قرصًا في كوبٍ متّسخٍ وينظر إلى وجههِ في المرآة، ستشعرونَ فور مشاهدة المقطع أنهُ لم يغادر المنزل لفترةٍ طويلة.
كانَ فوكو يأخذ الأمراض التي ظهرت في التاريخ البشري على أنّها قد تُعطي “كشفاً للذات”، بهذا توجدُ علاماتٌ واضحةٌ لقيام غيبير بذلكَ الكشف، كتبَ في الرواية: “كنت أكتشف شيئًا أنيقًا ورائعًا رغم بشاعته الهدّامة، وعلى أنّه قد كان بالتأكيد مرضًا لا يرحم مُطلقًا، إلا أنه لم يكن كارثيًّا على الفور أو سريعًا في تحطيمه بنيتي الجسدية، بَل كان مرضًا على مراحل. كان رحلةً طويلةً جدًا من الخطوات التي أدّت بيّ بالتأكيد إلى الموت، ولكن كل خطوة كانت تُمثّل ليّ تدريبًا مهنيًا فريدًا. لقد كان مرضًا أعطى الموت وقتًا للعيش، وزمنهُ يُرخي ضحاياه، كذلكَ وقتهُ يعطي اكتشافًا جديدًا للزَمن الحيّ، وفي النهاية يُعطي ميزةً لاكتشاف الحياة”
كانَت هناكَ وصيّةٌ لفيرجينيا وولف وهي ” أن تكونَ لنا إحتراماتٌ حذِرة للصحة”، كذلكَ سونتاج وصفت أنَ الأمراض ليسَ لها أي معاني.
تبدو سوزان سونتاج مُحلّلةً لإمكانية أن يكون الإنسان مريضًا، ولهذا المرض الذي يمرُّ بهِ صاحبه، أزمات تتعدّى مشروعية الشكوى كما يصف لنا ويشرح ذلكَ دافيد لو بروتون في كتابه تجربة الألم.
هيرفاي غويبرت يصورُ أيامه الأخيرة..
وُلد هيرفاي غويبرت عام ١٩٥٥م ونشأ في باريس وتَرعرعَ في لاروشيل، كانت والدته معلمةً مُحنّكة، وكان والدهُ مفتّشًا بيطريًا يعمل في مسلخ، وعائلتهُ كانَت من المحافظين، من الطبقة الوسطى، وكانوا مهووسين بشكلٍ مقلقٍ بالنظافة، وكُتِبَ عنهم وعن تلك الحياة لاحقًا في روايةٍ تحكي كل شيءٍ بشكلٍ صادم (Mes Parents (1986 في هذه الأثناء، كان غويبرت مُغرمًا بقصص إدغار آلان بو، ويستمني على بعض اللقطات من فيلم Satyricon لفيليني “شاهدت الفيلم على منصة يوتيوب”، كتب غويبرت ذات مرّة: “في الخامسة عشرة، قبل أن أكتب أي شيء، فهمت الثروة والشهرة والموت”.
كان هيرفاي غويبرت رائدًا في أدب السيرة الذاتية ومؤلّفًا لإحدى روايات الإيدز العظيمة حقًا، بعنوان إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي، والتي وثّق فيها انهيار جسده بسحرٍ سرديٍّ منفصلٍ عن التَشكّي الأدبيّ المعروف، كتب: “عضلاتيّ تسيرُ إلى الذوبان”
أخيرًا ، أصبحت ذراعي ورجلي نحيلة مرة أخرى كما كانت هي عندما كنتُ طفلاً
يتّسم نقده للتصوير الفوتوغرافي، الذي تأثّر كثيرًا برولان بارت، بالانتعاش والفضول والمَعرفة خصوصًا كتابه المُترجم إلى العربية غرفة التظهير، أمّا بالنسبة لأولئك الذين يتمتّعون بتكوينٍ قوي؛ هنالك قصصه المضحكة والمخيفة والسريالية، والتي تتميّز ببعض الأذواق المكتسبة للغاية (نصلّي ألا تكتسبها أبدًا هكذا نصحت نيويورك تايمز القارئ لغويبرت) بما في ذلك تخيُّلات التقطيع والجَزّ الموجودة في مُخيّله الواسع، فأيًّا كان موضوعهُ؛ كان هو يمتلك أسلوبًا فضيًا منعزلًا مظروفًا رائعًا للمادّة الساخنة اللاذعة للثقافة المُتحفّظة.
ما مدى حرية الكاتب؟ كيف يجب أن نستخدم حريتنا؟
هذا هو السؤال النابض في أعمال هيرفاي غويبرت التصويرية والأدبية. في كتابه الأول؛ رواية السيرة الذاتية بروباجندا الموت مشهدٌ متعرّجٌ مليءٌ بالرعب والتبجّح يُختتم بذكرى الطفولة، فهناك والدة غيبير التي كانت غاضبةً منه بسبب تجعّدٍ في حذائه تأخذ توبّخه في الأماكن العامة ثُم تهدّد بإرساله إلى المدرسة مرتديًا الكعب العالي الخاصّ بأخته، يقول لنا غويبرت وهو يمسك بيد أمه، ويشعر بأنه صغيرٌ جدًا، “شعرت بالخجل الفظيع”.
إنها كلمةٌ لم تظهر مرةً أخرى في عمله تقريبًا، بدلاً من ذلك، مضى يندفع نحو كل ما يراه مخيفًا، ومُشَرِّحًا ومثيرًا لإثارة رعبه واشمئزازه، إنه متطرّفٌ عصابيٌّ إن أمكن؛ كما صُنِّف أن يكون هناك شيءٌ مبهرجٌ في هجومه المنهجيّ على العديد من المحرّمات، لكن استفساره لم يكن ساذجًا أبدًا ولا مملًا .
هناك غرابةٌ في جمله، في لفائفها وفجواتها، تضفي على النثر نضارةً وسهولة، بدا أن هيرفاي غويبرت يكتب بجهدٍ يُحسد عليه. ويشير المترجم زوكرمان إلى أن مسوداته تحتوي على القليل من التصحيحات أو أدلةً على التردد. لقد بدا ببساطةٍ وكأنهُ يتدفّق على الصفحة بصورةٍ غوليةٍ عظيمة.