هل حذرنا اليونانيون القدماء من الروبوت؟ (مترجم)

بقلم/ Marialena Perpiraki


مما لاشكّ فيه أن الذكاء الاصطناعي والروبوتات صارت تغزو حياتنا على نحو متسارع، وعبر السطور التالية، سنستعرض ما تنبئنا به الأساطير اليونانية القديمة عن الروبوتات الشبيهة بالبشر والأسباب التي قد تدفعنا للتوجّس منها.

قد لا نكون قادرين بعد على قيادة السيارات الطائرة، لكن بمقدورنا أن نستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي المتاحة مثل DALL-E وChatGPT في سياق مساعينا الإبداعية. فعلى سبيل المثال، قد يكون الإعلان الذي قد تراه الآن عبر الإنترنت هو من إنشاء الذكاء الاصطناعي. وليس هذا فقط، بل تجاوز الأمر هذا الحد؛ فقبل بضع سنوات، تم بيع لوحة فنية من إنشاء الذكاء الاصطناعي بمبلغ 432.000 دولار في أحد المزادات. في الوقت نفسه، يقدم الباحثون أطرا مفاهيمية لتوظيف الروبوت والذكاء الاصطناعي في وظائف مثل خدمة العملاء. هل جربت مؤخرًا الاتصال بخط ساخن، ليجيبك صوت ذو نبرة رتيبة مزعجة؟ إنه على الأرجح روبوت تم تفعيله للرد عليك، فإذا كنت ترى هذه الفكرة مزعجة، يمكنك هنا أن تلقي باللوم على على الأساطير اليونانية. ولكي نفهم العلاقة بين الأمرين، دعونا نتعمّق في الأساطير اليونانية التي شكلت الطريقة التي ننظر بها إلى الروبوت.

الأساطير اليونانية والروبوت

لم يكن للإغريق حاجة لأن يقلقوا بصدد استحواذ الروبوتات على وظائفهم- برغم أننا يمكننا تخيل الأثينيين حينها يخصصون وقتًا إضافيًا لأحاديث مآدب الشراب. ومع ذلك، كثيرًا ما تناولت أساطيرهم مسألة تحول البشر إلى خالقين، خالقين لكائنات ذكية، لكنها بلا روح. صحيح أنهم لم يستخدموا كلمة “روبوت” – وهو المصطلح الذي تمت صياغته لأول مرة في عام 1921 على يد الكاتب “كاريل تشابك- Karel Capek”- إلا أنهم قدموا توصيفًا يتضمّن استخدام بشر اصطناعيين كخدم للإنسان.
فلنأخذ “هيفايستوس – Hephaestus”، إله الحدادة والنار، مثالًا على هذا؛ حيث قيل أنه صنع “وصيفات من الذهب على هيئة خادمات بشريات”، كما وصفهن “هوميروس- Homer”* في ملحمة (18.415-19) “الإلياذة-Iliad” . تمامًا مثل الروبوتات في مسرحية ” R. U. R- روبوتات روسوم العالمية” لكاريل تشابك (عام 1921)، حيث تم صنع أولئك الوصيفات من أجل الخدمة.
ويكمن الفارق الرئيس بين الخادمات الذهبيات اللائي صنعهن هيفايستوس والروبوتات في مسرحية R. U. R في أن الخادمات الذهبيات صُنِعن بيد إله، أما الروبوتات فقد صنعوا على يد البشر وذلك لإثبات” عبثية الإله”. وليس من الصعب تخيل أن صنع البشر للروبوتات – كما نعرف من مسرحية تشابك- لم يفضِ إلى نهاية سعيدة، حيث أعلنت الروبوتات التمرد على البشر بهدف القضاء عليهم – وهو مفهوم نلمسه كثيرًا في الثقافة الشعبية.

وتعتبر مسرحية تشابك القصة الأولى التي استدعت الخوف من الروبوتات. ومع ذلك لم يكن تشابك هو أول من حذرنا من خطر الميكنة. حيث زَخر الفكر اليوناني القديم بقصص تتناول مسألة تحدي الإنسان للآلهة من خلال صنائعه المتطورة ومايستجلبه ذلك من عقوبات يتجرعها جراء ذلك. من بين هذه القصص والأساطير : “باندورا- Pandora” و”بيجماليون-Pigmalion” و”تالوس-Talos”، والتي تعد بمثابة أمثلة رائعة من شأنها أن تعطنا لمحة عن نظرة اليونانيين القدماء للاستخدام المحتمل للروبوتات في حياتنا اليومية.

إعلان

أسطورة باندورا

في أسطورة باندورا، كما نعرف مما رواه “هيسيود- Hesiod”**، قرّرت آلهة جبل الأوليمب الانتقام من البشر وراعيهم “برومثيوس- Prometheus”. وجاء ذلك العقاب على هيئة “هدية”. حيث قامت الآلهة بإرسال إمرأة اصطناعية إلى “إبيميثيوس- Epimetheus” ، شقيق بروميثيوس، لكي تكون زوجته: “باندورا”. كانت باندورا عبارة عن كائن مصنوع على هيئة بشرية تم تصميمها لمساعدة الإنسان على الازدهار. ومع ذلك، وكما نعرف جميعا من الأسطورة، ارتكبت باندورا خطأً كان كفيلا بجلب الفوضى إلى العالم: فتحت الصندوق (أو الجرّة على وجه الدقة) الذي يحوي في داخله كل الشرور. فهل أراد الإغريق بهذه القصة أن يحذرونا من مخاطر أن نصبح خالقين للكائنات الاصطناعية أو الذكاء الاصطناعي؟

في الواقع، توجد تفسيرات لا حصر لها لأسطورة باندورا، كما أنها تعد بمثابة الشخصية النمطية التي غالبًا ما يتم تناولها بالتحليل في العديد من الدراسات الجندرية والدينية. ومع ذلك، فإن قصة باندورا هي واحدة من العديد من الأساطير اليونانية القديمة التي ربما تعكس خوفنا من قدراتنا الخاصة. فوفقًا لما جاء في أعمال هيسيود، خلقت الآلهة باندورا بعدما أقدم بروميثيوس على تقديم هدية النار إلى البشر، وهي الهدية التي منحتهم الفرصة كي يصبحوا مبدعين هم أنفسهم ويجلبوا إلى الوجود كل مايمكنهم تخيله، الأمر الذي أدى، على نحو ما، إلى اكتسابهم، دون سعي منهم، لقدرات إلهية، مما أفضى بدوره في نهاية المطاف إلى إنزال العقاب المحتوم بهم.

أسطورة تالوس

ربما يكون “تالوس-Talos” *** هو الآلة ذاتية التشغيل الأشهر في الأساطير اليونانية القديمة. حيث ورد ذكر ذلك الروبوت اليوناني القديم في العديد من المصادر مثل “أرجونوتيكا-Argonautica” لـ “أبولونيوس الرودسي- Apollonius of Rhodes” و”الأعمال والأيام- Works and Days” لهيسيود.
تمامًا مثل باندورا، خُلِق تالوس على يد الإله “هيفايستوس” لحماية جزيرة كريت من الغزاة. كان هذا الروبوت يقوم بدوريات عبر ساحل الجزيرة، يلقي بصخور ضخمة على أيّ سفينة تقترب أكثر من اللازم، كما أنه، وفقًا للمصادر، كان يملك القدرة على الركض بسرعة كبيرة، مما كان يمكِّنه من الركض حول الجزيرة ثلاث مرات يوميا لضمان أمنها.

ووفقًا لواحدة من نسخ الأسطورة، هُزِم تالوس على يد الـ “أرجوناتوس-Argonauts”، الذين أبحروا إلى حيث جزيرة كريت بمساعدة “ميديا-Medea”، الساحرة وزوجة قائد السفينة “جايسون-Jason”. حيث أقنعت ميديا تالوس بإزالة المسمار الذي يثبت كاحله في موضعه، مما أدى إلى أن ينزف حتى الموت. ولم يكن ذلك الكائن الآلي يمتلك دما بشريا في عروقه، بل مادة مختلفة تُعرَف بإسم “إيخور-Ichor”. وفي نسخة أخرى من الأسطورة، قُتِل تالوس بسهم مسموم أطلقه أمير كريتي يدعى “فاليروس”.

ومثل أي شخصية أسطورية أخرى، يمكن تحليل تالوس بطرق متعددة. فمن ناحية، يمثل هذا الكائن الآلي رمزًا للقوة والحماية. ومن ناحية أخرى، فإن أوصافه تمنحنا لمحة عن الكيفية التي كان الإغريق ينظرون بها إلى الروبوت: كحماة للبشر، وأيضًا كتهديد للإنسانية؛ ككيانات خارقة، ولكنها أيضا فانية. ومع أخذ هذا كله في الاعتبار، يمكننا القول أن تالوس، ذلك العملاق البرونزي، كان هو مصدر الإلهام لمعظم الروبوتات في الثقافة الشعبية.

أسطورة بيجماليون
لم يعد غريبًا علينا أن نسمع من وقت لآخر عن بشر يتزوجون من أشياء جامدة. ففي عام 2013، انتشرت قصة تلك المرأة من استراليا التي ارتدت فستان زفافها ووقفت بجوار عريسها الأكبر منها سنا بكثير: جسر في فرنسا عمره 600 عام. ولهذا، ليس من الصعب تخيل وجود أشياء أو كائنات آلية ذكية تعيش بيننا و الآثار المترتبة على ذلك.

في عام 2020، تم نشر دراسة علمية حول تأثير الروبوتات على تصورات الناس للحب والعلاقات الرومانسية في مجلة “Journal of Behavioral Ropotics”. ومع ذلك فإن القلق بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي والروبوتات على حياتنا أقدم من ذلك بكثير، ولنا في أسطورة بيجماليون مثال على ذلك.
“بيجماليون-Pygmalion” النحات، شخصية أسطورية إغريقية، اشتهر بشكل رئيس من خلال قصيدة “أوفيد-Ovid” “التحولات-Metamorphoses”. كان هذا النحات مشهورًا بهوسه بإحدى منحوتاته الفنية، حيث كان قد قام بنحت تمثال من العاج لـ “المرأة المثالية” ثم وقع في حب هذا التمثال. وظل هوسه بها يتعاظم يوما بعد يوم إلى أن جاءت اللحظة التي قررت فيها آلهة الحب والجمال “أفروديت-Aphrodite” تحقيق أعظم أمانيه: حيث تحول التمثال العاجي إلى إمرأة حية وحقيقية.
وفي عام 1770، قدّم “جان جاك روسو- Jean Jacques Rousseau” نسخة أحدث من بيجماليون، قام فيها بمنح التمثال إسم هو “جالاتيا- Galatea”. وعلى نحو غير معتاد، انتهت هذه الأسطورة نهاية سعيدة، حيث تزوج بيجماليون من صنيعته بمباركة أفروديت، وانجبا طفلا. ومع ذلك هناك العديد من الأسئلة التي تثيرها هذه الأسطورة، منها على سبيل المثال: هل تمتلك جالاتيا إرادة حرة؟ هل باستطاعتها أن تبادل بيجماليون الحب؟ هل يمكن لعلاقة أن تزدهر دون أن تكون المشاعر متبادلة؟، والسؤال الأهم: ماذا يحدث حين ينتقل البشر من محاكين للخلق إلى خالقين بأنفسهم؟

تأثير “الوادي الغريب”

على الرغم من انجذاب بيجماليون لصنيعته جالاتيا، إلا أن الناس يميلون دائمًا للخوف من أي شيء يبدو بشريًا لكنه ليس كذلك في حقيقته. فعلى سبيل المثال، اكتسبت مقاطع فيديو حديثة تصور روبوت شديد الواقعية يدعى “صوفيا-Sophia” شهرة واسعة. فصوفيا هي أول روبوت يحصل على جنسية، وأول روبوت يصبح سفيرًا للابتكار لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ومع ذلك، وبرغم انبهار الناس بمظهر صوفيا وذكائها، فقد شعر أغلبية الناس بعدم الإرتياح إزائها، تماما مثلما يقال عن من يقتنون الثعابين غير السامة من أنهم يعيشون في حالة توتر دائم، فبرغم افتتانهم بالزواحف، إلا أنهم في أعماقهم يصابون بحالة من الشلل بفعل الخوف كلما اقتربوا منها. بالمثل، قد ينبهر الناس بالروبوتات الذكية، لكنهم في نفس الوقت يشعرون بعدم الإرتياح إزائها.

ولكن على العكس من “الأقاويل” التي تتردد عن الزواحف، فإن ظاهرة نفور الناس من الاقتراب من الروبوتات حقيقية وموثقة، حيث يُعرَف هذا التأثير بإسم تأثير “الوادي الغريب” والذي يشير إلى الشعور المزعج بعدم الإرتياح الذي تسببه الكائنات الاصطناعية شديدة الشبه بالبشر. وقد تم صياغة هذا المصطلح لأول مرة من قِبَل عالِم الروبوتات الياباني “ماساهيرو موري-Masahiro Mori” عام 1970. ويمكن توضيح “تأثير الوادي الغريب” كرسم بياني، حيث يمثل المحور x درجة التشابه مع المظهر البشري، ويمثل المحور Y درجة الشعور بالغرابة أو عدم الإرتياح التي يشعر بها الناظِر إلى الروبوت. وتقول النظرية أنه كلما كان الكائن الاصطناعي أو الروبوت أكثر شبها بالبشر، كلما صارت الاستجابة العاطفية للناس تجاهه أكثر إيجابية، إلى أن يصل الروبوت إلى نقطة يكاد فيها أن يماثل البشر لكنه لا يتطابق معهم تمامًا. هنا، تتحول الاستجابة العاطفية إلى الاتجاه العكسي، أي تصبح سلبية، ويتخذ مؤشر الرسم البياني منحى منخفض يُعرَف بإسم “الوادي الغريب”.

ولكن، هل تنظر جميع الثقافات إلى الروبوتات بالطريقة نفسها؟، بكلمات أخرى، هل يمكن أن يشعر الغربيون بنفس المستوى من عدم الإرتياح الذي يشعر به سكان جنوب شرق آسيا تجاه الروبوت؟

التقنيات الكونية “الكوزموتقنية” وتأثير الميثولوجيا اليونانية على الغرب

وفقًا للفيلسوف والباحث “يوك هو-Yuk Hui”، قد يكون للغرب نهج مختلف تجاه التطورات التقنية، ومن ثم، يكون أكثر ترددا تجاه تطوّرات بعينها. في مقاله “السؤال حول التكنولوجيا في الصين: مقال في الكوزموتقنية – In The Question Concerning Technology in China : An Essay in Cosmotechnics” يقارن “هو” بين الحداثة السريعة في الصين وتاريخها الطويل في التطور التقني ونظيرها في الغرب. و يوضح في هذا المقال أن مصطلح “كوزموتقنية-Cosmotechnics” يشير إلى تقاطع مسارات التكنولوجيا والعلم والكون بهدف فهم ومعالجة التحديات العالمية، و يتضمّن أيضا دراسة تأثير التكنولوجيا على الكون ومدى الإمكانات التي توفرها التقنيات الحديثة لمساعدتنا على فهم ومعالجة التحديات التي تواجه البشرية على النطاق العالمي. كما يتناول الكاتب الاختلافات في الطريقة التي يُنظَر بها إلى التكنولوجيا في الصين مقارنة بالغرب؛ حيث يوضح أن التكنولوجيا في الغرب تعتبر بمثابة أداة للتنمية الاقتصادية والتقدم بشكل أساس، أما في الصين فإن التركيز ينصب بشكل أكبر على الجوانب الروحية والفلسفية للتكنولوجيا. ويرى “هو” أن هذا الاختلاف إنما ينبع من المنظور الثقافي والتاريخي المميِز لكل من الجانبين. فعلى سبيل المثال، يتماشى النهج الصيني إزاء التكنولوجيا بصورة أكبر مع الفلسفة الشرقية التقليدية التي تركز على الانسجام والتوازن بين الإنسان والطبيعة.
أما على الجانب الآخر، فيرى “هو” أن المفهوم الغربي عن التكنولوجيا نابع من الفكرة اليونانية التي تركز على ضرورة السيطرة على الطبيعة من خلال تطبيق القواعد العقلية والتقنية وتمييز البشر عن الطبيعة. علاوة على ذلك، فقد تأثرت الثقافة الغربية إلى حد كبير بالأفكار والمعتقدات اليونانية القديمة، ومن هنا يمكننا فهم السبب وراء تردد الغرب – إن لم يكن خوفه- إزاء الذكاء الاصطناعي من خلال الأساطير اليونانية مثل أسطورة باندورا وغيرها.

ولهذا، يمكننا القول بكل ثقة مايلي: لقد حذرنا الإغريق من الروبوتات، وكانت أساطيرهم هي السبب الكامن وراء مخاوفنا منها.
______________________

ملاحظات من المترجمة

* هوميروس( باليونانية :Ὅμηρος ): شاعر يوناني قديم تنتمي أعماله لما يُعرَف ب” أدب الملاحم” ، تُنسَب إليه ملحمتي الإلياذة والأوديسة. اعتقد الإغريق أنه كان شخصية تاريخية، إلا أن طائفة من الباحثين يشككون في هذا الأمر ويرجحون أنه شخصية غير حقيقية.

** هيسيود (باليونانية Ἡσίοδος): شاعر إغريقي ، يرجح الباحثون أنه عاش بين 750 و650 قبل الميلاد. تنتمي أعماله إلى مايعرف ب “الشعر التعليمي”، ومن أشهر أعماله “الأعمال و الأيام” و ” أنساب الآلهة “.

***أسطورة تالوس ( باليونانية :Τάλως)‏، شخصية أسطورية عبارة عن رجل مصنوع من النحاس ويمتد عبر جسده وريدًا واحدًا يبدأ من رقبته وينزل إلى كاحليه، يتدفق عبره السائل الذي يمده بالحياة، وقد تم تثبيت مسمار على كل كاحل لمنع السائل من التسرب. صنعه إله الحدادة هيفايستوس ليحرس جزيرة كريت. وكان يتجول على طول شواطئ الجزيرة ثلاث مرات يوميًا، يهاجم سفن الأعداء بضراوة ليحمي الجزيرة.


المصدر:

https://www.thecollector.com/ancient-greek-mythology-robots-ai/

 

إعلان

اترك تعليقا