هل تجعلنا السياسة أغبياء؟ (مترجم)

بقلم: خوسه أنتونيو مارينا

تتيح لنا الولايات المتحدة الأمريكية دراسة الاستقطاب السياسي وفهمه. لقد حاكَيْتُ عنوان مقال عزرا كلاين Ezra Klein –كيف تجعلنا السياسة أغبياء How Politics Makes Us Stupid -المستند إلى أبحاث دان كاهان Dan Kahan (جامعة ييل)، ويبيّن فيه أن كل تحزب سياسي يعمي عن دلائل معينة. يؤكد بول كروغمان Paul Krugman الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد، معلقاً على المقال، أن الأحكام المسبقة تعمي المحافظين أكثر مما تعمي التقدميين. المحافظون، بالطبع، يقولون العكس.

يضع جوناثان هايدت Haidt Jonathan عنواناً فرعياً لكتابه العظيم العقل القويم  The Righteous Mind، هو: “لماذا تفرق السياسة والدين الناس الأسوياء؟Why Good People Are Divided By Politics And Religion وهو يعتقد أن السياسة تحولت إلى لعبة مانوية، وذلك لأنّ كل حزب ينغلق على “عقليته القَبَلِيَّة”، ويشيطن الآخر، ويستخدم “الاستدلال المدفوع” الذي لا يبحث عن الحقيقة وإنّما عن تبرير الرأي الخاص.

التفضيلات السياسية لا تُخْتَارُ بحرية، وعلينا جميعاً أن نكون واعين بأننا في كثير من الأحيان نكون متأكدين من أشياء لا نعلمها؛ فلنطرد الغرور الايديولوجي.

 كان على رسّامي المعارك أن يختاروا موقع مراقبتهم  لها من أجل تصوير أمر بالغ التعقيد. بعضهم، مثل باولو اوتشيللو Paolo Uccello ، يدخلون في خضم المعركة، ويرسمون اضطراباً محتدماً. البعض الآخر، يبتعدون من أجل تصوير ميدان المعركة كاملاً وتقدم الأفواج فيه. الراصد الخارجي ينتهج هذا النهج؛ فالمعارك، المادية منها أو الجدلية، يمكن فهمها فقط بتأمّل لعبة الخصمين من الخارج.

إن الاستقطاب السياسي يحتل أغلفة الصحف في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تتواجه قوتان كبيرتان؛ ويثير اهتمامي فهم ما يفرق بينهما بمساعدة علم النفس السياسي، المنهج ذي التقليد العريق في الولايات المتحدة.

لماذا يكون بعض الأشخاص جمهوريين والبعض الآخر ديموقراطيين، أو باستخدام مصطلح أكثر عالمية: محافظين أو تقدميين، يمينيين أو يساريين؟

إعلان

كلا الموقفين يقتضيان اختيار “نظام ضمني” معقد، يمكن أن يبقى مخفياً ما لم نسع إلى كشفه. كلٌّ من “العقلية المحافظة” و”العقلية التقدمية” تدافع عن أفكار تبدو علاقتها صعبة الإدراك. ويتساءل جورج لاكوف George Lakoff -في كتابه Moral Politics: How Liberals and Conservative Think – عمّا يمكن أن يكون مشتركاً بين الأطروحات الجمهورية المختلفة: معارضة الإجهاض، والدفاع عن عقوبة الإعدام، ومناهضة حماية البيئة والتغير المناخي والحدّ من التسلح أو الحد الأدنى للرواتب. وقد اتهمهم الديموقراطيون بالدفاع عن حياة من لم يولد بعد، لكن برفض إقرار برامج مساعدة صحية لمن قد وُلِدَ فعلاً. يعتقد المحافظون أن المساعدات الاجتماعية غير أخلاقية لأنها تقوّض الانضباط ومسؤولية الفرد. يتحدثون عن الانضباط والمقاومة.، في حين أن التقدميين يتحدثون عن الاهتمام بالضعفاء، والعدالة الاجتماعية، والحاجات والمساعدات. يتهم الديموقراطيون الأمريكيون الجمهوريين بعدم التعاطف، ويتهم الجمهوريون الديموقراطيين بأنهم لا يملكون إلا التعاطف، وينقصهم حب الحرية وتقدير الجهد الشخصي والولاء والوطنية.

تتجلى الاختلافات أيضاً في التعامل مع مسألة عدم المساواة. لقد مضت سنوات عديدة منذ أن اعتبر نوربرت بوبيو Norbert Bobbio أن طريقة تصورها هي الفارق الأساسي بين اليمين واليسار. يعتقد اليمينيون أنها واقعة طبيعية لا يمكن إصلاحها؛ أما اليسار فقد اعتقد أنها منتج اجتماعي وغبن. في الولايات المتحدة الأمريكية يعتقد جزء كبير من الناخبين الجمهوريين أن الفقير مسؤول عن فقره. وتتواصل الاختلافات لتظهر في الفكرة عن الدولة (في حدها الأدنى بالنسبة للجمهوريين وفي حدها الأقصى بالنسبة للتقدميين)، وعن الحرية (السلبية الخالصة بالنسبة لهولاء والإيجابية لأولئك)، وعن “الصالح العام” أو عن “العدالة الاجتماعية” (بالنسبة للجمهوريين حيلة لتبرير تدخل الدولة)، وعن الوطنية (النزعة الوطنية الجمهورية مقابل نهج التعدّدية الديموقراطية).

تتجلّى المواجهة في ميادين شديدة الاختلاف. في التعليم، على سبيل المثال، حيث الصدام بين “المدرسة القديمة” و“المدرسة الجديدة”.

وكما فصّلتُ في كتابي El bosque pedagógico، فقد ترّسخ نموذجان تعليميان، تبادلا فيما بينهما القدح والسخرية.

-النموذج المحافظ: فردي، ميّال للخصخصة، يقدّم النوعيّة على تكافؤ الفرص، لا يثق بالدولة، ويضع حرية التعليم فوق الحق في التعليم. يصرُّ على أن قرار التعليم الأخلاقي ينبغي أن يكون للوالدين حصراً، ويثق بالتقييمات والامتحانات النهائية، ويجعل كل تطوّر معتمدًا على المجهود الشخصي، ويعتقد بأن الشكل الوحيد لتحسين التعليم يكون بتعزيز التنافس وإخضاع المدرسة لدينامية العرض والطلب الخاصة بالسوق. يدافع عن تعلّم المحتويات، والانضباط في المدرسة، وسلطة المدرِّس، والتعلُّم الفردي، ومفهوم الواجب.

– النموذج التقدّمي: جماعي/مجتمعي، مدافع حصريًّا عن المدرسة العامة، يقدّم تكافؤ الفرص على النوعيّة، والحقَ في التعليم على حريّة التعليم. يثق في الدولة ليس بوصفها ضامنًا للتعليم فقط؛ وإنّما إداريًّا رئيسًا له أيضًا، ويؤمن بأنّ تعليمًا مدنيًّا عامًّا ينبغي أن تضمنه الدولة، ولا يثق في التقييمات والامتحانات النهائيّة، ويعتقد أن ثقافة المجهود تنسى التأثير الاجتماعي الاقتصادي على النتائج، ويعتبر أن السوق عدو للمساواة في التعليم. يدافع عن تعليم المهارات، والإبداع، والديموقراطية المدرسية، وطرائق التدريس التعاونية، ومفهوم الحق.

كموجز توليفي لنموذجيهما الخاصّين، وضع كلٌّ من اليسار واليمين روايته الخاصة. ففي الحالة الأمريكية يمكن إيجاز “السردية الديموقراطية”، وفقاً لـكريستيان سميث Christian Smith  في كتابه (Moral, Believing Animals)، على النحو الآتي: “كان هناك وقت عانت فيه الغالبية العظمى من البشر في مجتمعات ومؤسسات اجتماعية ظالمة، غير صحية، قمعية، وقاهرة. هذه المجتمعات التقليديّة كانت مستحقّةً للشجب نظرًا لعدم المساواة العميق فيها، والاستغلال، والتقليدية. لكن التطلّع الإنساني النبيل للاستقلال الذاتي والمساواة والازدهار حارب بلا هوادة قوى البؤس واالقهر، وبمُضيِّ الزمن تمكّن من إقامة مجتمعات حديثة ليبرالية ديموقراطية رأسمالية متمتّعةٍ بالرفاهية،. وإذا كانت الشروط الاجتماعية في أيامنا هذه تنطوي على إمكانية تعظيم الحريّة الشخصية والسعادة للجميع، فإن هناك الكثير من العمل مما ينبغي القيام به لتفكيك قوى عدم المساواة والاستغلال والقمع المتبقية. هذا الكفاح بغيّة تحقيق مجتمعٍ صالح، يكون فيه الأشخاص متساوين وأحرارًا في السعي إلى سعادتهم المحدّدة ذاتياً، هي المهمّة الوحيدة التي تستحق وهب الحياة لها”.

في المقابل، تقول السردية الجمهورية، مأخوذةً من خطابات رونالد ريغان، ما يلي: “كان هناك زمن كانت فيه الولايات المتحدة منارة مضيئة. بعد ذلك وصل التقدميّون وشيّدوا بيروقراطيّةً فيديراليةً ضخمةً كبَّلت يد السوق الخفية. ضعضعوا قيمنا الأمريكية التقليدية وعارضوا بشدة اللهَ والإيمان. بدلاً من أن يطالبوا الناس بالعمل من أجل كسب رزقهم، انتزعوا المال من الأمريكيين المكافحين وقدموه إلى مدمني المخدرات وإلى ملكات الرفاه. بدلاً من معاقبة المجرمين، حاولوا “فهمهم”. وبدلاً من الاهتمام بضحايا الجرائم، انشغلوا بحقوق المجرمين. بدلاً من الالتزام بالقيم الأمريكية التقليدية بشأن الأسرة والإخلاص والمسؤولية الشخصية، بشّروا بالاختلاطية الجنسية والجنس قبل الزواج وبأسلوب الحياة الخاص بالشواذ، وشجعوا أجندة نسوية زعزعت الأدوار الأُسَرِيَّة التقليدية. بدلاً من إرسال القوات ضد من يقومون بأفعال الشرّ في العالم كله، خفضوا الميزانية العسكرية، ولم يكنّوا الاحترام لجنودنا، وحرقوا عَلَمَنَا، وراهنوا على التفاوض وتعددية الأطراف. عندئذٍ، قرر الأمريكيون استعادة بلدهم من أيدي أولئك الذين حاولوا زعزعته” (مأخوذ من Westen D. The Role of Emotion in Deciding the Fate of the Nation).

أعود إلى سؤال البداية: لقد أشرتُ -بالخط الغامق حتماً- إلى النموذجين؛ لماذا نختار أحدهما عوضاً عن الآخر؟ سيكون مطمئناً القول إن ذلك بسبب اقتناعنا بالحجج المؤيدة له، لكن يبدو أن الأمر لا يحدث على هذا النحو. نحن نختار أولاً وبعد ذلك نحاول تسويغ الاختيار. بشأن الأشخاص يحدث شيء مشابه؛ نستلطفهم أو لا نستلطفهم وبعد ذلك فقط نحاول البحث عن أسباب هذه المشاعر.

يوجد من الخبراء من يؤكد على أن الاختيار السياسي يمكن أن يكون متأثراً جينياً. اعتقد حاتمي Hatemi وزملاؤه، انطلاقاً من تحليل الـ DNA لاثني عشر ألف شخص، بأنهم اكتشفوا مكونًا جينيًّا في ذلك الاختيار (Hatemi, P.K. et alt: “Genome-Wide Analysis of Liberal and Conservative Political Attitudes”). ليس الأمر أنه يوجد “جين ديموقراطي” أو “جين جمهوري”. المسألة أكثر دقة: إن توزيع الناقلات العصبية في فرد ما يجعله أكثر حساسية للتهديدات وللخوف، أو أكثر ميلاً للاستمتاع بما هو جديد.

وتظهر اختبارات شتى في الولايات المتحدة أن الجمهوريين يقدِّرون الأمن والنظام بشكل أكبر في حين يستمتع الديموقراطيون أكثر بما هو جديد وبالتغيير والبحث عن العواطف. وتعزّز دراسات أجريت انطلاقًا من نماذج الشخصية هذه الرؤية.

لقد رأى Moscovici, A.Chirumbolo, Sensales  وآخرون ارتباطاً بين ما يسمى “الانفتاح على التجربة” و”المسؤولية”، وبين “موضع السيطرة” بشكل خاص. وهذه النقطة الأخيرة تبدو لي مثيرة جداً للاهتمام؛ فتجاه واقعة ما هنالك أشخاص يؤكدون على المسؤولية الشخصية “موضع السيطرة الداخلي”، وآخرون يؤكدون على المسؤولية الاجتماعية “موضع السيطرة الخارجي”، يميل الأولون لأن يكونوا من اليمين والآخرون ليكونوا من اليسار.

عند تفسير بعض القضايا الاجتماعية كالفقر والبطالة أو المرض، يحيل الأشخاص المحافظون إلى المسؤولية الشخصية، في حين أن الأشخاص اليساريين والتقدميين يميلون إلى استخدام تفسير من النوع الاجتماعي. بكلمات أخرى: يميل الأشخاص اليمينيون إلى الشعور بمسؤوليةٍ شخصيّةٍ أكبر عمّا يحدث لهم، وإلى الاعتقاد بأنهم يسيطرون على الأحداث وبأنهم أقل ضعفاً وهشاشة، وإضافة إلى ذلك، عادةً ما يعتبرون أن المجتمع يقدم مساعدات ملاءمة إلى الفئات الاجتماعية الأكثر حرماناً.

وعلى العكس من ذلك يشعر الأشخاص اليساريون، وأسلوب العزو عندهم خارجي، أنّهم أكثر تعرّضًا لمخاطر لاحقة لا يستطيعون السيطرة عليها، كالبطالة؛ ويميلون إلى الحكم على المساعدات التي يقدّمها المجتمع إلى من يعانون بعض الصعوبات بأنها غير كافية، ويعتبرون أن الظلم الاجتماعي هو أصل الاستياء عند هؤلاء الأشخاص (Heaven,P.C.: Suggestion for Reducing Unemployment: A Study of Protestant Work Ethic and Economic Locus of Control Beliefs).

يعتقد لاكوف Lakoff بوجود نموذج للأسرة تحت كل واحد من “الأنظمة الضمنية”.  “يقوم المذهب المحافظ على نموذج الوالد الصارم، في حين أن المذهب التقدّمي يدور حول نموذج الوالد اليقظ/المتنبه”.

من موقعي في المرصد الخارجي أحمل هذه الأبحاث على محمل الجد. فأنا أقبل أن التفضيلات تكون محددة على نحو غير واعٍ في كثير من الأحيان. لذا، اقترحتُ أن نتبنّى بشأنها الموقف نفسه الذي نتبناه بشأن “الأوهام البصرية”: لا نستطيع تجنبها، لكن لا يمكننا أن نعتقد بها. نرى أن الشمس تتحرك في السماء، لكننا نعلم الآن أن ذلك ليس صحيحاً. ينبغي علينا، مثلاً، أن نميط اللثام عن الكثير من الأفكار التي نحدد عن طريقها رؤيتنا السياسية. ومن المهمّ التعرف على أنظمة الدفاع الذاتي القوية التي ندافع بها عن صورتنا الخاصة؛ فالفلسفة الغربية خرجت معززة بعمل ثلاثة نقَّاد كبار (سقراط، ديكارت، كانط).

إنّ هدف المرصد الخارجي (هذه المقالة) ليس “تعليم” أحد، وإنما هو التعلّم من التجربة. يقترح ستيفن بينكر Steven Pinker -الذي يبدو لي الباحث الأكثر علمًا في مجال علم النفس حاليًا- بعد تحليله للأخطاء المعرفية التي تؤدي إلى التحزّب، حلاً هو: “مقاربة أكثر عقلانية للسياسة تتمثل في التعامل مع المجتمعات بوصفها تجارب جارية وتعلُّم أفضل الممارسات بذهن متفتح، بمعزلٍ عن ذلك الجزء من الطيف الذي تأتي منه (Enlightenment Now).

أنا متفق معه للغاية بحيث أنني عندما تجرّأت على الحلم بحزب سياسي “مثالي وغير مُحْتَمَل”، ثَبَّتُّ عدمَ التحصّن وراء الأيديولوجيات والمضيَّ في التعلُّم الدائم بوصفهما أولويةً أولى.

رابط الأصل الإسباني:
https://biografiadelahumanidad.com/el-panoptico/la-politica-nos-vuelve-estupidos/

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

ترجمة: زياد الأتاسي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا