هل النحل كائنات واعية؟

هل الحشرات "كائنات زومبية" لا حياة داخلية بها؟ إن النظر بكثب إلى سلوكياتهم وحالاتهم المزاجية يوحي بخلاف ذلك

اعتاد كلب رينيه ديكارت مرافقة الفيلسوف الفرنسي في مسيرته التأملية، وكان الكلب محل اهتمامه الشديد. ومع ذلك، فإن ديكارت لم يفكر في الجزء الأكبر من الحياة الداخلية للحيوانات وكتب ديكارت رسالة في عام 1646 قائلًا “إن السبب الذي يجعل الحيوانات لا تتحدث كما نفعل هو ليس أنها تفتقر إلى الأعضاء ولكن لأنها ليس لديها أفكار”.

جادل أتباع ديكارت بأن الوعي هو خاصية إنسانية فريدة، خاصية ربما تيسرها اللغة، وتسمح لنا بالتواصل وبتنسيق ذكرياتنا وأحاسيسنا وخططنا مع مرور الوقت. من وجهة النظر هذه التي لا تزال إصداراتها مستمرة في بعض الأوساط اليوم والتي تقول إنّ الحيوانات لا تكون أكثر من مجرد آليات تلقائية بارعة مع وجود مجموعة أدوات من السلوكيات المبرمجة مسبقًا التي تستجيب لمحفزات محددة.

الحشرات مثل النحل والنمل غالبًا ما يتم أخذها كمثال على الطريقة الآلية والميكانيكية المتعلقة بطبيعة الحيوان. ولقد عرف العلماء منذ فترة طويلة أن هذه المخلوقات لا بدّ من أنها تمتلك ذخيرة سلوكية كبيرة من أجل بناء منازلهم المتقنة والدفاع عنهم ضد المتسللين وتزويد أطفالهم بالغذاء. ومع ذلك لا يزال الكثيرون يرون أنه من المعقول أن ينظروا إلى النحل والنمل أكثر من مجرد “آلات لا إرادية” أو أنها تفتقر إلى تمثيل داخلي للعالم أو القدرة على التنبؤ حتى بالمستقبل القريب. وفي غياب المحفزات الخارجية أو المحفزات الداخلية مثل الجوع، يُعتقد أن عقل الحشرة مظلم ودماغها مغلق. أي أنهم حشرات قريبة من مفهوم “الزومبي الفلسفي”: أي هم كائنات افتراضية تعتمد بشكل كلي على الروتين وردود الفعل دون وجود أي وعي.

ولكن ربما لا تكمن المشكلة في أن الحشرات تفتقر إلى الحياة الداخلية، ولكنها تكمن في أنها ليس لديها طريقة للتواصل بلغة يمكننا أن نفهمها. ومن الصعب علينا أن نفتح نافذة إلى أذهانهم. لذا ربما نخطئ في تشخيص أدمغة الحيوانات على أنها تمتلك خصائص شبيهة بالآلات لمجرد فهمنا للكيفية التي تعمل بها الماكينات، في حين أننا حتى الآن لدينا فقط نظرة متفاوتة وغير كاملة عن كيفية قيام أبسط العقول بمعالجة وتخزين واسترجاع المعلومات.

ومع ذلك، هناك الآن العديد من الإشارات على أن الظواهر الشبيهة بالوعي قد لا توجد فقط بين البشر أو حتى القردة العليا ولكن قد تمتلك الحشرات أيضًا وعيًا. ولم تنبع جميع خطوط الأدلة هذه من تجارب مصممة خصيصًا لاستكشاف الوعي. ففي الواقع، بقي البعض مدفونًا في خضم الأدب لعقود بل وحتى قرون دون أن يعترف أحد بأهميتها الخفية.

إعلان

واستنادًا إلى مثل هذه الأدلة، فإن العديد من علماء الأحياء (خاصة إيفا جابلونكا في تل أبيب وأندرو بارون في سيدني)، والفلاسفة (بيتر جودفري سميث في سيدني وكولين كلاين في كانبيرا) يشيرون الآن إلى أن الظواهر الشبيهة بالوعي لم تكن قد تطورت متأخرة في تاريخنا كما كنا نظن سابقًا. بدلًا من ذلك، يمكن أن تكون تلك الظواهر الشبيهة بالوعي قديمة من الناحية التطورية إذ أنها نشأت في العصر الكامبري قبل حوالي 500 مليون سنة.

نعتقد أن الوعي في جذوره التطورية هو التكيف الذي ساعد على حل مشكلة كيفية استخراج الكائنات الحية المتحركة معلومات ذات مغزى من أجهزة الإحساس لديها. في بيئة دائمة التغير وغير قابلة للتنبؤ، يمكن للوعي أن يحل هذه المشكلة بشكل أكثر فاعلية من الآليات اللاواعية. إنه يتضمن خصائص متعددة لكن بعضها يشمل: فهم الوقت والفضاء والقدرة على الوعي الذاتي والحكمة والعواطف والمعالجات التنازلية. وكما كتب عالم الحيوان الأمريكي دونالد جريفين في كتابه عقول الحيوانات (1992) “تتفاوت الظروف البيئية بشكل كبير لدرجة يجعل دماغ حيوان يملك مواصفات مبرمجة لسلوك مثالي في جميع الحالات، من شأن هذه المواصفات أن تتطلب سجل تعليمات مطول ومستحيل.”

خذ نحل العسل مثلًا -وهو نوع من أنواع النحل- يملك “لغة” رمزية يمكنه من خلالها التواصل بشأن الترتيبات الدقيقة لمصادر الطعام في الزهور. في هذه “اللغة الراقصة” تقوم النحلة الرائدة الناجحة والعائدة من حقل زهور غني بإجراء تسلسل متكرر للحركات في الخلية الداكنة الموجودة على قرص العسل بشكل عمودي. تسترعي هذه الحركات انتباه نحلات أخريات فيتحرك النحل الباحث عن الطعام للأمام في خط مستقيم لبضع سنتيمترات. ثم ينتقل في دائرة نصفها إلى اليسار، ثم يعود إلى نقطة البداية، ويؤدي دورًا آخر مستقيمًا على طول مسارها الأول ثم يدور إلى اليمين. تخبر مدة الدورة المستقيمة هذه النحلَ الآخر المسافةَ إلى مصدر الغذاء (حوالي ثانية واحدة من مسافة المشي راقصين ما يعادل رحلة كيلومتر نحو الهدف). مقارنة بالجاذبية، يشفر اتجاه هذا الجري الاتجاه النسبي للشمس، على سبيل المثال، إذا كان الجري نحو الخلية مستقيمًا، فهذا يخبر النحل الآخر أن يطير في اتجاه الشمس -في حين إذا كان الاتجاه نحو “الأسفل” فهذا يعني التحليق في الاتجاه المعاكس للشمس-.

حصل هذا الاكتشاف في عام 1945 على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب للنمساوي كارل فون فريش العالم في سلوك الحيوان. ومثل هذا التواصل في حد ذاته لا يشير ولا يتطلب وجود وعي. بعد مرور عقد من الزمن، قام أحد طلاب فون فريش وهو مارتن لينداور بإلقاء نظرة على خلية نحل أثناء الليل واكتشف أن بعض النحل قد أعلن عن مواقع للعديد من مناجم البحث عن الأطعمة التي اكتشفوها في اليوم السابق. قبل منتصف الليل، تحدثوا عن المواقع التي تمت زيارتها في المساء السابق، وفي الساعات التي تسبق شروق الشمس ناقشوا المواقع التي زاروها في الصباح السابق.

إذًا لقد استعاد هذا النحل ذكرياته المكانية بالكامل خارج السياق، في وقت لم يكن فيه أي إمكانية للتعلم، وبالتالي لم تكن هناك حاجة فورية للاتصال. ربما يكون لديهم “مجرد فكرة” حول هذه المواقع بشكل عفوي أثناء الليل. أو ربما يكون التواصل هو استراتيجية لتوحيد الذاكرة المكانية. ومنذ ذلك الحين وجد العلماء أن ذكريات النحل في اليوم السابق تُعزَّز عندما يتعرض لعناصر من هذه الذكريات أثناء النوم العميق. ربما لا يمتلك النحل ميزة التفكير والكلام فقط، ولكن ماذا عن الأحلام؟

إن التأثير الأساسي لاكتشاف لينداور هو أن النحل قادر على “التفكير غير المباشر” حول المواقع المكانية وربط هذه المواقع بوقت ما من اليوم في حال عدم وجود أي سبب خارجي. هذا ليس ما ينبغي أن يحدث إذا كانت ذكريات النحل مجرد محفزات بيئية مقترنة بمحفزات داخلية مثل الجوع. يبدو أن النحل لديه واحدة على الأقل من السمات الرئيسية للوعي وهي: تمثيلات الزمان والمكان.

ميزة أساسية أخرى للوعي البيولوجي هي الوعي الذاتي. إن القدرة على التعرف على الذات هي أصل القدرة على تمييز الذات عن كيان آخر وكذلك التخطيط والانتباه وتذكر ذكريات أحداث معينة واتخاذ وجهة نظر مخلوق آخر. تمتلك العديد من الحيوانات مثل القرود وفصيلة الغرابيَّات هذه القدرات.

وبدون شكل أولي من أشكال الوعي الذاتي لن يكون للحيوانات القدرة على حل المدخلات الحسية الناجمة عن العالم الخارجي عن تلك الناتجة عن الإجراءات الطوعية. إذا كانت الصورة الموجودة على شبكية العين الخاصة بك تميل فجأة بمقدار 45 درجة فأنت تعلم أن هذا أمر جيد طالما أن هذا كان نتيجة لتعمّدك إمالة رأسك. ولكن إذا لم يكن هناك تعمد لتحريك رأسك فقد تكون في وسط زلزال الآن ومن الأفضل لك أن تركض.

يُعتقد أن الحيوانات تستطيع التفريق بين هذه السيناريوهات عبر ما يُعرف باسم “النسخة الناقلة”: وهي إشارة داخلية تنقل عواقب إجراءات الحيوان نفسها بحيث يمكن التمييز بين التغيرات الحسية التي تسببها تحركاتها من التغيرات التي تسببها القوى الخارجية. وفي الظروف العادية تتوقع الحيوانات أن ما يحدث في البيئة بطريقة يمكن التنبؤ بها عندما تحرّك رأسها عمدًا. وهذا يسمح لها بتوقع ما سيحدث بعد ذلك كنتيجة لأفعالهم أو نواياهم.

كان هناك اقتراحات مبكرة من مصطلح “النسخ الناقلة” في القرن التاسع عشر على الرغم من أن هذا المصطلح قد تمت صياغته لأول مرة من قبل علماء الأحياء الألمان إريك فون هولست وهورست ميتيلشتيدت الذين بدأوا دراسة الذباب. في واحدة من تجاربهم في عام 1950، قاموا بقلب المدخلات في دماغ الذبابة من العين اليسرى واليمنى وذلك باستخدام تقنية بدائية (وقاسية): حيث تُلوى رقبة الذبابة الرقيقة بمقدار 180 درجة، ثم يُلصق رأسها بعدئذ رأسًا على عقب (وكانت النتيجة أنه عندما تحوّل الذبابة عينها إلى اليسار أو اليمين، فإنّ الإشارات الحسية تغدو عكس تلك التي توقعتها. (لم تكن تلك الإشارات الحسية مقلوبة رأسًا على عقب لأن البيئة التجريبية كانت تتكون من خطوط عمودية). وبسبب حرمانها من قدرتها على توقع ما تراه، فإن الذبابة تصرفت بطريقة عشوائية. وخلص الباحثون إلى أن النتيجة هي بوضوح نتيجة كارثية، ويبدو أن الحشرات، مع رأسها في الوضع الطبيعي، لديها مكون من المكونات الرئيسية للوعي: وهو القدرة على التنبؤ بما سيحدث في المستقبل نتيجة للذات وأيضًا الحركات المولدة ذاتيًا والتي تسمح لهم بالتحرك والتصرف بفعالية.

هناك أيضًا دليل على أن الحشرات لديها أكثر من مجرد “كتاب تعليمات” داخلي بسيط. لقد اختبر المجربون هذه الفرضية من خلال مواجهة الحشرات بمهام لم يكن من المحتمل أن يصادفها أي من أسلافهم التطوريين. فمنذ أكثر من 200 عام، اقترح عالم الطبيعة السويسري الأعمى فرانسوا هوبر (يعمل مع زوجته ماري إيمي لولين والخادمة فرانسوا بيرنز) أن نحل العسل قد أظهروا نوعًا من الحكمة في بناء قرص العسل.

فبينما كان نحل العسل منشغلًا في بناء قرص العسل (عادةً يكون قرصًا ثنائي الأبعاد)، وضع فريق هابر ألواح زجاجية في مسار البناء. (الزجاج هنا هو سطح ضعيف من أجل تركيب الشمع.) اتخذ نحل العسل إجراء تصحيحي بفترة طويلة قبل وصولهم إلى الزجاج إذ قاموا بتدوير التركيب الكامل بمقدار 90 درجة وذلك لتوصيل أقراص العسل إلى أقرب سطح خشبي. على ما يبدو أن النحل قدر المسافة من موقعه الحالي إلى المنطقة المستهدفة وحاول تجنب أي نتيجة غير مثالية.

في إحدى المرات، لاحظ فريق هابر أن أحد أقراص العسل العديدة قد كسرت سقف الخلية في فصل الشتاء. في الأشهر الباردة يكون النحل عادة في حالة هادئة؛ فيتوقف عن بناء الأقراص، وتقلل الحشرات نشاطها لضمان استمرار تخزين المواد الغذائية حتى الربيع. ومع ذلك وفي هذه المناسبة لم يصبح النحل نشطًا فقط لتحصين القرص المعزول مع عدد من الأعمدة والعوارض المتقاطعة المصنوعة من الشمع بل عززوا أيضًا مناطق التعلق من جميع الاقراص الأخرى على السقف الزجاجي – وذلك على ما يبدو لضمان عدم وقوع كارثة مرة أخرى. هذه الحكمة، إذا تأكدت تجريبيًا بالطرق الحديثة وحجم العينات، هي واحدة من السمات المميزة للوعي. ويبدو بشكل ملحوظ – وفي هذه الحالة- أنها تمتد إلى ما هو أبعد من المستقبل القريب.

في دراسة حديثة حول استخدام الأدوات بين النحل الطنان، كان مطلوبًا من الحشرات نقل كرة صغيرة إلى مكان محدد للحصول على مكافأة سكر. استخدم النحل التعلم الاجتماعي للقيام بهذه المهمة من خلال مشاهدة النحل المتمرس: لاحظوا أنهم يستطيعون تحريك واحدة من ثلاث كرات ممكنة (أبعد من المركز) إلى منطقة المكافأة المركزية للحصول على المكافأة. عندما اختبر النحل المراقب في وقت لاحق، لم يختر النحل المراقب الكرة الأبعد من المركز ولكنه اختار الأقرب. لقد فعلوا ذلك حتى عندما كانت الكرة الأقرب ملونة باللون الأسود بدلًا من الأصفر الذي تم تدريبهم عليها. الأهم من ذلك، لم يكن لدى المراقبين أي خبرة سابقة في تدوير الكرات بأنفسهم (أي لا توجد فرصة لتعلم التجربة والخطأ). أشارت هذه النتائج إلى أنه بدلًا من “الاقتداء” بأسلوب التعلم، تحسن النحل الطنان بشكل عفوي على الاستراتيجية المستخدمة من قبل مدربهم، مما يوحي بأن لديهم تقديرًا لنتيجة أعمالهم.

تخيل الأشياء؟ هل يستطيع النحل تخيل الأشياء علاوة على التخطيط؟

يمكن للنحل أن يتعلم بالتأكيد ربط الأنماط المرئية (مثل تلك المعروضة على الزهور) بمكافآت الرحيق؛ لكن هذا لا يعني بالضرورة أن لديهم صورة وردية صغيرة تطفو في رؤوسهم. تناولت دراسة أجريت عام 2017 الشبكات العصبية الاصطناعية، تجسيدًا لأدمغة النحل، فنشرت اثنين من أجهزة الكشف عن الخصائص البسيطة -وهما نوعان من الخلايا العصبية، كل منهما حساس بشكل خاص للخطوط أو الحواف التي تعمل في اتجاه معين. كانت هذه الخوارزميات قادرة على التعرف على الأنماط البصرية المعقدة، مثل دائرة منحوتة إلى أربعة أقسام، مع خطوط تعمل في زوايا مختلفة في كل ربع دائرة. لذلك، يمكن للنحلة تخزين هذه الأنماط البصرية المعقدة فقط عن طريق حفظ الإشارات من هذه العصبونات دون تخزين الصور الكاملة في ذاكرتها.

ومع ذلك، تشير التجربة الأخيرة إلى أن النحل قد يكون قادرًا بالفعل على استدعاء ميزات النمط دون وجود النمط. ففي هذه التجربة، تم تدريب النحل أولًا لتمييز نوعين من الزهور الاصطناعية التي كانت متطابقة بصريًا، ولكن كانت تحتوي على “أنماط غير مرئية” تتكون من ثقوب صغيرة معطرة تم ترتيبها إما في دائرة أو في صليب. تمكن النحل من معرفة هذه الأنماط من خلال استخدام مجسّاتهم. كانت النتيجة الأكثر إثارة أنه لو كانت هذه الأنماط قد ظهرت فجأة من قبل المجرب (بحيث تعرض الأزهار الآن دوائر مرئية أو صلبان)، فقد تعرف النحل على الفور على الصورة التي كانت في السابق مجرد رائحة عابرة في الهواء. يشير هذا إلى أن النحل قد يكون لديه بالفعل تمثيل عقلي للشكل بدلًا من التعرف على الأنماط القائمة على أجهزة الكشف عن المعالم البسيطة في نظامها البصري.

كما أظهر النحل أيضًا حالات عاطفية متفائلة ومتشائمة، إذ تعلم النحل في مثل هذه الاختبارات، أولًا أن حافزًا واحدًا (مثل اللون الأزرق) مرتبط بمكافأة سكر، في حين أنهم لم يكونوا كذلك مع لون آخر (مثل الأخضر). ثم واجهوا بعد ذلك تحفيزًا متوسطًا (في هذه الحالة كان لون الفيروزي). ومن المثير للاهتمام أنها استجابت لهذا التحفيز الغامض في “نصف كوب كامل” بطريقة متفائلة، في حال قد واجهوا مكافأة مفاجئة (قطرة صغيرة من محلول السكروز) في الطريق إلى التجربة. ولكن إذا كان عليهم أن يعانوا من خلال حافز سلبي غير متوقع، فقد استجابوا بطريقة “نصف كوب فارغ” ( أي بطريقة متشائمة).

قد لا تمتلك الحشرات عقولًا فقط، ولكنها أيضًا مزاجية. الأدوية النفسية ليست حكرًا على البشر، فالحشرات يمكن أن تكون عرضة لتأثيراتها كذلك. يتم إنتاج المخدر المتطاير، ومنشطات كبت الشهية والعقاقير المسببة للاكتئاب والمهلوسة بشكل طبيعي من قبل مختلف النباتات والفطريات. هذه ليست فقط منتجات ثانوية عرضية لآلتهم الجزيئية الحيوية، ولكن للدفاع عن نفسها في ردع الحيوانات العاشبة. ومع ذلك، فإنها لا تردع دائمًا: فقد تبين أن النحل يفضل الزهور التي يرتبط رحيقها بمستويات منخفضة من النيكوتين.

اكتشف عالم الأحياء الجزيئية جاليت شوهات أوفير في جامعة بار إيلان في إسرائيل وزملاؤه أن ذباب الفاكهة بسبب حرمانه من فرص التزاوج يسعى إلى البحث عن الكحول، وهو موجود على نطاق واسع في الطبيعة على شكل ثمار مخمرة. هذا يشير إلى أن “تعديل الإحساس” المتعمد أو حتى “تعديل المزاج” منتشر على نطاق واسع في جميع أنحاء المملكة الحيوانية – مما يشير بقوة إلى أن الحيوانات لديها خبرات داخلية. سيكون من المهم استبعاد التفسيرات البديلة، حيث يتم تعديل السلوك من خلال التأثيرات المباشرة على النقل العصبي أو الجهاز الهضمي. لكن المؤثرات العقلية للحشرات يجب أن تكون وسيلة واعدة للأبحاث المستقبلية. بعد كل شيء، لماذا يبحث كائن ما عن مواد تغير عقله عندما لا يكون هناك عقل يعتريه التغير؟

أحد الاعتراضات على فرضية وعي الحشرات هو أن أدمغتهم صغيرة جدًا. ولكن في وقت كتابة هذا التقرير، لم يتم تحديد العلامة المائية البيولوجية للوعي -ما يسمى “الترابطات العصبية للوعي” (NCC)- لدى البشر. لذلك لا يستطيع البشر تقديم الحجج على أساس أن الحشرات لا تحتوي على الترابطات العصبية للوعي من النوع البشري. ما يمكن أن نقوله هو أن النظم العصبية الحشرية ليست سوى نظم بسيطة. ففي حين أن لدى دماغ النحل حوالي مليون خلية عصبية فقط، مقارنة بحوالي 85 مليارًا في الدماغ البشرية، إلا أن بعض العصبونات الفردية لديها تعقيد متفرّع لدرجة رهيبة. يمكن أن يمتلك دماغ النحل مليارًا من نقاط الاشتباك العصبي(الروابط بين العصبونات التي يمكن تشكيلها بالتجربة). من حيث تنوع اللبنات الأساسية للجهاز العصبي، حتى ذبابة الفاكهة المتواضعة لديها أكثر من 150 نوعًا عصبيًا في نظامها البصري فقط؛ وعلى سبيل المقارنة، فإن شبكية العين البشرية لديها أقل من 100 نوع.
بالإضافة إلى تعقيدها، فإن أدمغة الحشرات لها خصائص فسيولوجية أخرى مطلوبة للوعي. ففي جهاز منعكس، من المتوقع أن يتدفق تيار المعلومات من أجهزة الإحساس إلى الآليات المسؤولة عن التحكم في المحرك. لكن في الحشرات، هناك العديد من العمليات تحدث من أعلى إلى أسفل خلال العمل، حيث ترسل الكابلات العصبية رسائل من الدماغ المركزي إلى المحيط الحسي.

تشارك مثل هذه العمليات التي تحدث من أعلى إلى أسفل في ظواهر تشبه الانتباه. يسمح الانتباه للحيوانات بالتركيز بشكل خاص على المحفزات المهمة (مثل الزهرة المألوفة إذا كنت نحلة مثلًا) وتجاهل الآخرين (مثل الزهور غير المألوفة). اختبر عالم الأعصاب برونو فان سويندرن في جامعة كوينزلاند ذلك عن طريق وضع النحل في بيئة الواقع الافتراضي التي يمكنهم التعامل معها، ثم قام بقياس نشاط الدماغ. وقد وجد فريقه أنماطًا عصبية للأنشطة تتوافق مع إيلاء الاهتمام نحو واحد أو آخر من الكائنات، كما وجدت حالات دماغية معينة سبقت اختيار النحل لمحفز أو آخر. أي نشاط ناتج عن “داخل الدماغ” – أي في حالة عدم وجود أو تمييز عن التحفيز الخارجي له أهمية خاصة في سياق الوعي.

ومن الجدير بالذكر أن فريق فان سويندين اكتشف أيضًا أن الذباب له عدة أنواع من موجات الدماغ، بما في ذلك عندما يكونون نائمين. ومثل البشر، فإن الذبذبات العصبية المختلفة التي تحدث في النوم العميق ونوم حركة العين السريعة، فإن الذباب يحدث له أنماط مختلفة في مراحل النوم المختلفة. إن دماغ الحشرات لا ينقطع أبدًا – كما هو الحال في النحل، يبدو أن الذباب أيضًا لديه حالات تشبه الحلم.

يعتقد عالم الأحياء لويس هيلد من جامعة تكساس للتكنولوجيا أنه يمكن أن يكون هناك “تماثل عميق” في هياكل متنوعة على ما يبدو عبر الأنواع التي تخدم وظائف مشتركة مثل العين. وبدلًا من رؤية هذه الحالات كأنها “تطور متقارب”، حيث تنبثق الملامح بشكل منفصل، وجد هيلد والآخرون دليلًا على بعض السقالات الجينية الكامنة المشتركة التي تنتج هذه الخصائص في أشكالها المختلفة. على سبيل المثال، لم نرث أرجلنا وعيوننا من الحشرات أو بتعديلات مختلفة من سلف مشترك. السلف المشترك للبشر والذباب كان دودة غير معروفة من العصر الكمبري. ومع ذلك يمتلك كل من البشر والذباب رأسًا وصدرًا وبطنًا ورجلين وأعضاء حسية.

التفسير الأفضل هو أننا ورثنا الوحدات الوراثية والبرامج التنموية التي تمثل هذه السمات، على الأقل جزئيًا من سلف مشترك. هذه الملاحظة تنطبق على الدماغ كذلك. إن التشابهات التشريحية والوظيفية بين “المجمع المركزي” لعقل الحشرات و”العقد القاعدية” للفقاريات هي لافتة للنظر وتشير إلى أصل مشترك. وتؤدي العيوب الموجودة في كلا النظامين إلى مشاكل في الحركة وضعف في الذاكرة، وعجز في الانتباه واضطرابات عاطفية واضطرابات في النوم. وفقًا لبارون وكلاين يمكن أن يكون المجمع المركزي منافسًا محتملًا للتوسط في تجربة ذاتية في الحشرات.

ماذا عن إمكانية الوعي في حيوانات أبسط من ذلك، في الواقع أقصد ماهو أبعد من الحيوانات؟ لم تقتصر كتابات تشارلز داروين في منتصف القرن التاسع عشر، على المشاعر المعنوية والعاطفية للمخلوقات غير البشرية، وإنما تعدت ذلك إلى تقديره للجمال وتجنيد الحساسية في الانتقاء الجنسي. وكما توقع داروين فإن فصيلة المستورقات flatworms التي لديها جهاز عصبي مركزي يجب أن يكون لديها شكل من أشكال الوعي، وقد ذهب داروين في كتابه “قوة الحركة في النباتات” (1880)، إلى مقارنة دماغ الحيوان و “الجذر العصبي” للنبات. يجب أن يجد هذا الجذر الوتدي طريقه من خلال شكل من أشكال أخذ العينات والتقييم إلى أفضل مصادر الإرساء والتغذية.

على الرغم من أن هذا الاقتراح قد تم تناوله مؤخرًا من قبل عالم الأحياء فرانتيشيك بالوسكا في جامعة بون، فإن حالة الوعي بالنبات تكون أضعف بكثير من الوعي بالآفات الحشرية. في حين قد تتحرك أجزاء من النباتات ويمكن أن تلف الجذوع أو تميل، فإن النباتات لا تتحرك أجسادهم ككل. إنهم قادرون على إنجاز معظم مهامهم دون الحاجة إلى التنقل في الفضاء والتي نعتقد أنها مهمة للمراحل الأولى من التطور للتمييز بين الذات والعالم.

هناك اعتراض آخر يجب معالجته قبل إعطاء الكثير من الحيوانات وعيًا. هذا يرجع إلى حقيقة أن الكثير من السلوك البشري يعتمد على المعالجة الباطنية والتي غالبًا ما نكون غير واعين بها. تعتمد تصرفاتنا في العالم إلى حد مثير للدهشة على المنبهات التي لم نلاحظها شعوريًا. وعلاوة على ذلك، تم التوصل إلى أن تجربة “قوة الإرادة”  تتبع أعمالنا بعد فاصل زمني، بدلًا من أن تسبقها أو تجاريها في آن واحد. وقد فسر البعض ذلك بأن الوعي ليس له أي تأثير على السلوك وأنه “ظاهرة مصاحبة” فقط. بدلًا من ذلك، ربما يجمع الدماغ المحفزات البيئية الحالية والبيانات من الذاكرة ويزنها ويحسب أفضل خيار سلوكي ويجعل الخيار بالنسبة لنا من خلال الشروع في العمل. إذا كان الوعي غير فعال من الناحية السببية، فإن الحجة القائلة بأن الحيوانات بحاجة إليه للعيش غير متوفرة. أو ربما ما نحن بحاجة إلى وعيه يوجد فيهم بشكل تلقائي كليًا.

ومع ذلك، فإن هذه الحجج لا تقلل من حالة انتشار الوعي في المملكة الحيوانية. فعلى الرغم من عجائب المعالجة غير الواعية، من الواضح أنه لا يمكن لأي إنسان أن يغذي نفسه أو يهرب من الافتراس أو يتكاثر أو ينخرط في الحياة الاجتماعية أو يجد الطريق إلى وجهة جديدة عندما لا يكون مدركًا لوجود عالم خارج جسده. على الرغم من وجود أمثلة مثيرة للإعجاب عن “الرؤية العمياء” -حيث يمكن للأشخاص الذين يعانون من قشرة بصرية تالفة أن يميزوا بشكل مرئي أفضل من “التخمين البحث”- ولهذا فإن تلك الرؤية العمياء ليس فاقدة للوعي تمامًا. بالطبع، لا يؤدي النوم والأدمغة المتضررة وظيفتهما المعتادة في الجمع والوزن والحوسبة. ولكن لا يوجد سبب للاعتقاد بأن الوعي يمكن “اقتطاعه” من الدماغ الذي يقوم بعمله المعتاد بنجاح. إنه الكائن الحي الذي لديه دماغ ووعي، عاملان عادة ما يواجهان تحديات العالم.

الوعي هو اختراع تطوري مثل الأجنحة أو الرئتين. وهو مفيد لنا، ومن المرجح أن يكون مفيدًا للكائنات الحية الأخرى ذات السمات المتشابهة جدًا مع سماتنا. إنهم يشاركوننا صعوبات الانتقال واستكشاف البيئة والتذكر والتنبؤ بالمستقبل ومواجهة التحديات غير المتوقعة. إذا تم تطبيق نفس المعايير السلوكية والمعرفية على الفقاريات الأكبر حجمًا، فإن بعض الحشرات من المحتمل أن تكون مؤهلة بصفتها لكائنات واعية ليست أقل وعيًا من القطط أو كلب ديكارت.

وهناك مقال يتعلق بقدرتنا على فهم الحيوانات بعنوان “علم نفس الحيوان: هل نحن أذكياء بما يكفي لفهم درجة ذكاء الحيوانات؟

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ندى حمدي

تدقيق علمي: عمر العجيمي

ترجمة: عبدالرحمن بلال

الصورة: pixabay

اترك تعليقا