الهلع من الساحرات قتل الآلاف عبر التاريخ (مترجم)

جان دارك وآن بولين اثنتان من أشهر النساء المُتَّهمة بممارسة السحر على مرِّ التاريخ. ومثل أغلب النساء اللواتي حُوكمن بتهمة السحر، فقد كان كلٌّ من الهيستيريا الجماعية والإيمان بالخرافات وراء مصائرهن المشؤومة.

من بين جميع الأحداث الأكثر تعاسة وقبحًا في التاريخ، كان لمحاكمات السحر النصيبُ الأكبر في تعذيب وقتل آلاف البشر -معظمهم من النساء-. وقعت مجموعة من أشهر محاكمات السحر في فرنسا في القرن الخامس عشر، وفي إسكتلندا في القرن السادس عشر، وفي ماساتشوستس بأمريكا في القرن السابع عشر. وقد أُدينَت الضحايا في جميع هذه المحاكمات بممارسة السحر ظلمًا، وكثيرًا ما تعرضوا للتعذيب، ومن ثم الإعدام -فيا له من تاريخٍ مُبهر ومروّع في آنٍ واحد!

المُعالِجات والعَرَّافات القدامى

يعود مفهومُ السحر (التلاعب بالأحداث اليومية باستخدام القوى الماورائية) إلى العصور القديمة، إذ تحتوي شريعة حمورابي -التي تعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد- عقوبات على ممارسة السحر. وكانت الساحرات عمومًا إما طيبة وإما شريرة، إذ تُمارِس الساحرة ما يُسمى بالسحر الأبيض من أجل مساعدة الناس، أو السحر الأسود بهدف إيذائهم.

ممارسة السحر
تفاصيل من مسلة حمورابي التي تعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وتحتوي قائمةً بقوانين شريعة حمورابي كالانتقام العادل وعقوبات السحر

كان ممارسو السحر عادة من النساء، فقد كان الجيران يدعوهنَّ من أجل علاج الأمراض ومساعدة الأمهات في الولادة واستعادة الأشياء المفقودة. ولكن كان يقع اللوم أيضًا على مثل هؤلاء النساء في حال وقوع أحداث سيئة مثل المرض والموت، والعواصف والزلازل، والجفاف والفيضان.

كان بعضُ حاملي تلك القوى الماورائية يُعبَدون كالآلهة كما في اليونان القديمة اقتداءً بـ «هيكات – Hecate»، إلهة السحر والشعوذة عند اليونانيين، إذ كانت تملك القدرة على السيطرة على الأرض والسموات والبحار، وبـ «ميديا – Medea» الساحرة اليونانية التى ساعدت جيسون وبحارو الأرجو1 (Argonauts) في الحصول على الصوف الذهبي (المعطف الصوفي السحري للكبش الطائر).

إعلان

ولكن بينما كان بعضُ ممارسي السحر طيبين، أثار البعض الآخر الذُّعر. فقد كان يُعتَقَد أنهم يُلقون تعويذات شريرة تُفسِد النظام وتُغيِّر القوانين السماوية. ويُحذِّر الكتاب المقدس من مثل هذه الأعمال الشريرة في سفر الخروج: «لاَ تَدَعْ سَاحِرَةً تَعِيشُ» (خر 22: 18)، وفي سفر اللاويين: «وَإِذَا كَانَ فِي رَجُل أَوِ امْرَأَةٍ جَانٌّ أَوْ تَابِعَةٌ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. بِالْحِجَارَةِ يَرْجُمُونَهُ. دَمُهُ عَلَيْهِ» (لا 20: 27).

كدح أوروبا ومتاعبها

بقي الحال كما هو عليه -إن لم يكن قد ساء- بالنسبة للساحرات في العصور الوسطى. فقد تسبَّب الموتُ الأسود –الطاعون– في الدمار ونشأة الحروب الدينية في أوروبا، الأمر الذي جعل الناس يؤمنون بأن القوى الماورائية الخبيثة -المتمثِّلة في السحرة والمستذئبين- كانت تؤدي دورًا في تدمير المجتمع.

اتخذ عديدٌ من الباباوات وقتها من الساحرات كبشَ فداء. وكان البابا إنوسنتيوس الثامن في القرن الخامس عشر أشهرهم، إذ كان يستهدف محققوه النساءَ خصوصًا لأنهنَّ -وكما كانت تقول الكنيسة- سببُ الخطيئة الأولى في جنَّة عدن. فجمعت السلطات الناسَ للكشف عن المشتبهين، وأصبحت أحداثٌ عادية كالنزاعات الصغيرة والشكاوى كافية لإثارة الشكوك حول مُفتعليها. وبعدها جاء التعذيبُ لانتزاع الاعترافات. وبمجرد أن يكسر المُعذِّبون إرادةَ الضحايا، كانت تجبرهم السلطات على الاعتراف بأسماء آخرين، ومن ثم يشنقون جميعًا أو يُحرقون على الوتد.

Malleus maleficarum – مطرقة الساحرات – دليل من القرن الخامس عشر للعثور على الأشرار ومعاقبتهم

«جان دارك – Joan D’arc» فلاحة مراهقة كانت تعيش في فرنسا في العصور الوسطى وتحديدًا أثناء حرب المئة عام، سمعت أصواتًا تطلب منها محاربة الإنكليز. مرتدية زيَّ المحارِب، ساعدت جان في تحرير مدينة أورليانز، ورفع الروح المعنوية للقوات الفرنسية. لاحقًا عندما قبض عليها الإنكليز وهي ابنة التاسعة عشر، اتهموها بممارسة السحر وأحرقوها حية عام 1431م. ولكن بعد مرور قرون على وفاتها وتحديدًا عام 1920م، أعلن البابا بنديكتوس الخامس عشر قداسة جان مما يجعلها الشخص الوحيد الذي يُعترف بقُدسيته بعد أن أُدين بالزندقة.

السحر في بريطانيا

وصلت ممارسة السحر في الجزر البريطانية إلى بعض المراتب العليا. فـ«آن بولين – Anne Boleyn» زوجة الملك هنري الثامن الذي انفصل عن الكنيسة الكاثوليكية من أجلها عام 1533م، لم تحمل له الوريث الذَّكَر الذي كان يرغب فيه، لذلك أُدينت بتهمتَي الزنا والخيانة، وقُطِعَ رأسُها في برج لندن عام 1536م. وبعد إعدامها، اتُّهمت آن بأنها كانت ساحرة ذات أحد عشر إصبعًا. ولكن عند استخراج رُفاتها في القرن التاسع عشر، لم تُكتَشَف أية زيادات على الأصابع العشرة. بعد وفاة آن أصدر الملك هنري الثامن قانونَ السحر لعام 1542م، وهو أول قانون في إنكلترا يَحظر السحر الأسود.

أصبحت ممارسة السحر عام 1563م جريمةً يُعاقَب عليها بالإعدام في إسكتلندا. ولكن لم ينتهِ الأمرُ عند هذا الحد، فبعد مرور عقود على إصدار هذا القانون وتحديدًا عام 1590م، خيَّم الموتُ على الجزر البريطانية، حيث بدأ هوسُ ملكِ إسكتلندا جيمس السادس بالسحر الأسود إحدى أسوأ مصايد السحرة في أوروبا. عندما أبحرت عروسه آن (أميرة الدنمارك) من الدنمارك إلى إسكتلندا للزواج به، ضربت عاصفة سفينتها. فألقى الملك جيمس اللومَ على الساحرات، وجمع الناس في نورث بيرويك في إستكتلندا، حيث بدأ المحققون بتعذيهم لانتزاع الاعترافات منهم.

كانت القابلة المولدة2 «أجنيس سامبسون – Agnes Sampson» من بين المعتقلات التعيسات، فقد دفع المفتشون لجام توبيخ بأربع شوكات حادة في فمها، وأجبروها على الاعتراف بمحاولة قتل الملك. وانتهى الأمر بإعدامها خنقًا، مما يجعلها واحدةً من بين سبعين شخصًا قُتلوا في هذا الحدث، والذي كان مصدر إلهامٍ لساحرات ماكبث الثلاثة في مسرحية شيكسبير الإسكتلندية ماكبث.

على اليسار: سُنَّ قانون ممارسة السحر عام 1542م في عهد الملك هنري الثامن، وكانت عقوبته الإعدام

على اليمين: كان يُستخدم لجام التوبيخ لمعاقبة النساء وإذلالهنَّ وكبح جماح الساحرات منهنَّ

المستعمرون قيد المحاكمة

في شمال أمريكا أقامت المستعمرات الإنكليزية أيضًا محاكمات سحر خاصة بها، وأشهرها في قرية سالم بماساتشوستس. ففي عام 1692م، بدأت تنتابُ عديدًا من الفتيات نوباتُ غضب عنيفة، فشخَّصهن الطبيبُ المحلي بأنهنَّ مَسحورات، فجرت محاكمتهنَّ بناءً على ذلك. وتسبَّبت الهستيريا الجماعية التي تلت ذلك في أن يتَّهم الجيران المرتابين والمستائين -ومعظمهم فتيات تتراوح أعمارهنَّ بين 11 و 20 عامًا- بعضهم البعض بممارسة السحر، ما أدى إلى محاكمة ما لا يقل عن 150 شخص من دون أن يَحقَّ لهم الطعن على الحكم، ومن بينهم كانت فتاة تبلغ من العمر 4 أعوام فقط!

أُجبر كثيرٌ من الناس على دفع الغرامات وتقديم اعتذار علني، في حين سُجن آخرون شهورًا إذ تعرضوا للتعذيب. وانتهى الأمر بشنق تسعة عشر فردًا، وإعدام آخرين سَحقًا. لاحقًا ألغت محكمةُ ماساتشوستس العامة أحكامَ الإدانة، ولكن لم يُخفف هذا القرار من حدة الأمر لدى العائلات المتضرِّرة، وظلَّ الشعور بالاستياء والمرارة مستمرًا قرونًا.

ساحرة أوروبا الأخيرة

عَمِلت «آنا جولدي – Anna Göldi» خادمةً منزليةً لعائلة في جلاروس بسويسرا، فقد اتهموها بجَعل إحدى بناتهم تتقيأ أشياء معدنية. وفي عام 1782م أُعدمت بتهمة ممارسة السحر، مما يجعلها في مكانة مميزة -ولكن لا تُحسد عليها- ألا وهي كونها آخر شخص يُقتل بتهمة ممارسة السحر في أوروبا. ولكن برَّأتها السلطاتُ المحلية من جميع التهم عام 2008م. وافتتحت البلدة متحفًا مخصصًا لها ولهذه الفترة عام 2017م.

لقطة من فيلم آنا جولدي، الساحرة الأخيرة (1991)

تضاؤل المحاكمات

بدأت معظم محاكمات السحر على جانبَي المحيط الأطلسي بالتضاؤل من بعد القرن الثامن عشر، على الرغم من أن المحاكمة التي كان يُزعم أنها محاكمة السحر الثانية في قرية سالم أُقيمت بعد هذا الوقت بكثير. ففي عام 1878م اتُّهم عالم مسيحي بالتنويم المغناطيسي -لم يكن جميع السحرة من النساء-. فقد ساعد «دانيال سبوفورد – Daniel Spofford»، أحد أتباع ماري بيكر إيدي، من العلماء المسيحيين، في شفاء لوكريتيا براون البالغة من العمر خمسين عامًا، والتي أُصيب عمودها الفقري عندما كانت طفلة. في البداية، ادَّعَت براون بأن العلم المسيحي هو ما ساعد في شفائها، ولكن عندما انتكست حالتها، اتهمت سبوفورد باستخدام المَسمَرِية أو التنويم المغناطيسي للتأثير في صحتها سلبًا. وكانت محاكمة سبوفورد في يوم 14 أيار (مايو) من عام 1878م هي آخر محاكمة للسحر في مدينة سالم، أي بعد قرنين تقريبًا من بَدء هستيريا السحر الجماعية، وقد أسقط القاضى الدعوى.

استمر الإيمان بالسحر حتى في القرن العشرين. ففي خلال الحرب العالمية الثانية وتحديدًا في الأول من آب (أغسطس) عام 1940م، اجتمع مجموعة من السحرة الذين يُطلقون على أنفسهم اسم «نيو فورست كوفن – New Forest coven» عند شاطئ هايكليف بإنكلترا لإلقاء تعويذة على أدولف هتلر. وقد كتب «جيرالد جاردنر – Gerald Gardner» مؤسس ديانة الويكا الحديثة، في كتابه فن السحر اليوم Witchcraft Today) 1954) عن أن هدف المجموعة وقتها كان إلقاء تعويذة لحماية الجزر البريطانية من الاحتلال النازي. وأصبحت طقوسهم -كما رواها جاردنر- معروفة باسم “عملية مخروط القوة”.

اليوم وفي جميع أنحاء العالم، لم تتلاشى المخاوف المرتبطة بالسحر والقوى الماورائية وممارسيها تمامًا. ففي الولايات المتحدة تسبب “الذعر الشيطاني” في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي في انتشار نظريات المؤامرة واتهامات باعتداء الشعائر الشيطانية في جميع أنحاء البلاد. وفي أوائل الألفية الأولى من القرن الحادي والعشرين كانت مثل هذه المخاوف تُحرِّض على العنف والقتل في بلدان مثل بابوا غينيا الجديدة ونيجيريا. ولكن مع استمرار تقدم العلم وتَلاشي الخرافات، ربما يصبح الخوف من سحرة العصر الحديث شيئًا من الماضي فعلًا.

المصدر

هوامش: 
1 بحارو الأرجو: فرقة مكونة من 50 بطلًا ذهبوا مع جيسون في السفينة "أرجو" للبحث عن الصوف الذهبي.
2 القابلة: وهي المرأة التى تساعد الامرأة في الولادة وتتلقى الولد عند ولادته القابلة.

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

ترجمة: نهلة أحمد

اترك تعليقا