الطرح النيتشوي- النزعة الفلسفية لنظرية التطور
قد يطرح العنوان سؤالًا لدى القارئ عن العلاقة بين فيلسوف المطرقة الذي عاش في القرن التاسع عشر وبين نظرية التطور التي تعتبر نظريةً علميةً معتمدة اليوم تشرح حقائق علمية عن تطور الكائنات الحية منذ ظهورها على وجه الأرض.
في الحقيقة، إن هناك علاقة قوية بين نظرية التطور- كما قدمها العالم الكبير “تشارلز داروين” في كتابه الشهير “أصل الأنواع“- وبين فلسفة “نيتشه“، هذه الفلسفة التي لا تزال تلقى رواجًا ودعمًا في الأوساط الفكرية والثقافية، ولها من الأنصار أعداد لا يستهان بها تدافع عن فلسفة إرادة القوة وحملت من بعد نيتشه مطرقته الثقيلة؛ حفاظًا على إرثه وأفكاره التي تركها في مؤلفات شهيرة أثارت جدلًا كبيرًا، كـ”هكذا تكلم زرادشت” الذي يطلق عليه العديد “إنجيل نيتشه“، و”أفول الأصنام“، و”ما وراء الخير والشر“، وغيرها من المؤلفات التي خلفها نيتشه.
لكن لَم نتبين بعد ما العلاقة بين الطرح النيتشوي ونظرية التطور؟
من المعروف في الأوساط العلمية ولدى الدارسين لنظرية التطور أنها نظريةٌ تشرح وتبين تطور الكائنات الحية من كائنات وحيدة الخلية إلى كائنات متعددة الخلايا عبر مئات الملايين من السنين وفق عمليات دقيقة غير عشوائية كالانتخاب الطبيعي، ودون الخوض في تفاصيل هذه العملية وكيفية عملها؛ لكون الأمر يحتاج إلى مقالات عديدة، ويمكن الاطلاع على تفاصيلها من المصادر العلمية الموثوقة.
تبين عملية الانتخاب الطبيعي مفهومًا أساسيًّا في النظرية، وهو أن “البقاء للأصلح“، وليس البقاء للأقوى كما يحاول معارضو التطور الدارويني تشويهها، فالنظرية ككلّ تفسر كيف أن جميع الكائنات الحية منذ ظهورها في حالة تطور مستمر وستظل كذلك نتيجةً للظروف البيئية والقوانين الطبيعية كالانتخاب الطبيعي. ونستنتج من هذا أن الإنسان نفسه بعدما مر هو كذلك بمراحل تطورية عبر مئات الملايين من السنين لا يزال معرّضًا ومحكومًا بهذه العملية التطورية البيولوجية؛ أي أنه لا يزال سيتطور وسيرتقي أكثر في السلم التطوري، لكن طبعًا تحتاج هذه المسألة لمئات الملايين من السنين لبلوغ نوعٍ جديد من النوع البشري.
فلسفة السوبرمان
مما لا شك فيه أن المطلع على فلسفة نيتشه والدارس لأطروحة السوبرمان النيتشوية وفلسفة الإنسان الأرقى سيكون قد لاحظ التشابه الكبير بين ما تقدمه نظرية التطور وما يقدمه الطرح النيتشوي.
إذ يعتبر نيتشه أن الإنسان في وضعه الحالي كائنٌ يوصف بالضعف والجبن والتخلف والجهل؛ فبعد أن حمل نيتشه مطرقته وحطم بها أغلال القيم والأخلاق السائدة والدين وأعلن موت الإله، أصبح ينادي بظهور نوعٍ جديد من البشر يطلق عليه “الإنسان الأرقى“، واشتهرت هذه الفكرة بفلسفة “السوبرمان“.
ذلك الإنسان الذي يتطور ويرتقي إلى نوعٍ جديدٍ يمتاز بالقوة والشجاعة والذكاء، ومستقلٍّ أخلاقيًّا عن القيم والمبادئ السائدة، نوعٍ جديد لا حاجة له للإله؛ يمتاز بـ”أخلاق السادة” كما يقول نيتشه، هذا الإنسان الأرقى الذي لا يحمل سوى القيمِ التي تعلي من شأن الإنسان والحياة، قيمٍ ترفض العدمية وتحاربها وتجعل من الإنسان مخلوقًا سعيدًا قويًّا وخلاقًا.
وهنا عند دراسة السيرة الذاتية لنيتشه، نلتمس دراسته وتأثره بنظرية التطور كما قدمها داروين في أصل الأنواع، وعليها أسس نيتشه “فلسفة السوبرمان“؛ فإذا كان التطور الدارويني يثبت التطور البيولوجي للإنسان عبر التاريخ، فإن فلسفة الإنسان الأرقى تدعو تبعًا لهذا التطور إلى ظهور نوع جديد من البشر؛ فالتطور عند نيتشه لا يجب أن يقتصر على الجانب البيولوجي العضوي فقط، بل يجب أن يتجاوزه إلى الجانب الفلسفي الفكري.
لكن يكمن الفرق والخلل حول كيفية حصول هذه العملية التطورية، فلئن كانت نظرية التطور تقوم على مبدأ البقاء للأصلح، فإن نيتشه يدعو لظهور الإنسان الأرقى تحت راية “البقاء للأقوى“؛ فيعتبر هذا الفيلسوف أن السبيل لظهور الإنسان الأرقى هو أن يتعلم البشر القوة والصلابة والقسوة، وأن يبغضوا الرحمة والشفقة والمساواة والتسامح وغيرها من القيم الأخلاقية التي يعتبرها فيلسوف المطرقة “أخلاق الضعفاء“، الأخلاق التي تكرسها المسيحية على حد تعبيره.
أي أنه رغم دراسة نيتشه للتطور والبقاء للأصلح، إلا أنه يعتبر أن السبيل الوحيد لتحقيقه هو القوة أو التميز بالقوة والقسوة.
فبين البقاء للأصلح والبقاء للأقوى، هل أساء نيتشه فهم العملية التطورية البيولوجية؟ أم أنه تعمد إساءة فهمها ليقدم لنا “فلسفة السوبرمان” والتبشير بظهور الإنسان الأرقى؟
أم أنه انتقى ما تقدمه النظرية من أفكار حول تطور الإنسان إلى نوع جديد في المستقبل، وأسس عليه فلسفته الخاصة، مغيرًا في بعض مفاهيمها لتتمشى مع الطرح الفلسفي الذي يقدمه؟
والجدير بالذكر أن فلسفة القوة، ورفض القيم والمبادئ السائدة، وإعلان”موت الإله“، وتقسيم نيتشه للأخلاق إلى “أخلاق السادة” و”أخلاق الضعفاء”، وتبشيره بالإنسان الأرقى الذي يتميز بأخلاق السادة، جعل العديد يعتبرون فلسفة نيتشه فلسفةً عنصريةً تدعو للعنف والتسلط وتحديد قيمة الإنسان في القوة واعتبارها الفضيلة الأسمى، وأنها كفلسفةٍ تقدم كلَّ ما هو نقيضٌ للإنسانية برفضها لقيمٍ ومبادئٍ كالمساواة والرحمة والتسامح، هذه القيم التي يعتبرها نيتشه مكمن ضعف الإنسان!