نماذج من الفلكلور في العهد القديم: الزيارة الإلهية لإبراهيم وأسطورة دانيال وأقهات

ظل الناس لقرون يؤمنون بأن الكتاب المقدس العبريّ هو الكتاب الأقدم والأكثر أصالة من بين الكتب التي بين أيدينا في الوقت الحاضر، وكيف لا وهو كلمة الإله المعصومة المنزّلة من السماء. ولكن ما إن راحت معاول الآثاريين تضرب في الأرض كاشفة عن تراث الحضارات القديمة حتى فقد الكتاب المقدس صفته تلك إلى الأبد وعاد ليأخذ مكانه بين نظائره في زمرة الأدب الإنساني.

إزالة الرمال عن أوغاريت القديمة:

في أحد أيام ربيع العام 1928م، وقرب خليج مينة البيضاء الواقع على الساحل الشمالي قرب مدينة اللاذقيّة، وبينما كان يقوم المزارع محمد المُلا بعمله المعتاد عَلق محراثه بعثرة تحت التربة، فقام بتحرير هذه العثرة من مكانها فوجدها عبارة عن بلاطة حجرية من صنع الإنسان تغطي فوهة مقبرة قديمة. هبط داخل المقبرة فوجد عددًا من القطع الأثريّة التي باعها إلى تاجر آثار، ولكنه لم يكن يدري أنه بفتحه الغطاء عن فوهة هذا المدفن قد فتح بابًا جديدًا من أبواب تاريخ الشرق الأدنى القديم.

حاول التكتم عن الأمر لكن الأخبار سرعان ما انتشرت حتى وصلت إلى الحاكم الفرنسي للمنطقة، والذي أرسل فريقًا للتنقيب بقيادة “كلود شيفر” إلى الموقع حيث بدأوا عمليّة التنقيب.
وبعد ثلاثة أيام من التنقيب في مينة البيضاء بدا واضحًا لشيفر أنه يقف على منطقة مقابر تابعة لمدينة قديمة. وبعدها عُثر على تمثال صغير للإله الكنعاني رشف، وتمثال آخر للإلهة عشتارت.

وعملًا بنصيحة “رينيه دو سواد” نَقل فريقُ التنقيب الأعمالَ قرب التل الكبير المعروف برأس الشمرا حيث الموقع المفترض لمدينة الأحياء.
وعند أعلى نقطة في التل عثر فريق التنقيب على بقايا جدار قديم ابتدأوا بالحفر عنده ليكتشفوا في النهاية بنية معمارية قديمة نالت منها الحرائق منذ زمن سحيق وعددًا من القطع الأثريّة بين الأنقاض، وعلى بعد 25 ياردة باتجاه الشرق اُكتُشفت غرفة تابعة لبناء ما تبيّن فيما بعد أنها كانت مدرسة لتعليم الكتابة، وفي هذه الغرفة تم العثور على أول رقيم فخاري منقوش على صفحته كتابة مسماريّة، وفي الأيام التالية جرى اكتشاف عدد آخر من الرُقم بين الأنقاض. المفاجأة كانت فيما تبيّن فيما بعد فحص الرُقم بدقة من أنها كُتبت بمسماريّة غير مسماريّة وادي الرافدين؛ لقد كانت مكتوبة بأبجديّة لا يتعدى عدد حروفها الـ 26 أو الـ 27 حرفًا.

عمل ثلاثة باحثين -كل على حدة- على فك رموز الرٌقم وكان على رأسهم عالم اللغات القديمة الفرنسي “شارل فيرللو”. وفي المواسم التاليّة من أعمال التنقيب اُكتشفت المزيد من الرُقم.
وبحلول العام 1930م كان لدى المنقبين معلومات لا بأس بها عن المدينة الواقعة على الساحل السوريّ وصارت اللغة الأوغاريتيّة مقروءة لنا -إلا أن اسم المدينة لم يكن قد عٌرف بعد آنذاك-.

إعلان

وفي مقال له اقترح “وليام فوكس أولبرايت” اسمًا للمدينة وهو: أوغاريت، ودعّم اقتراحه بالعديد من الإشارات في نصوص الشرق الأدنى القديم التي تذكر أوغاريت كموقع لمدينة هامة في المنطقة السوريّة–الفلسطينيّة. وقبل أن يَنشر أولبرايت مقاله الثاني لمزيد من التدعيم لاقتراحه تعرّف فيرللو على اسم “أٌجرت” الذي صرنا ننطقه الآن “أوغاريت” في أكثر من نص. نعم، إنها أتلانتس سوريا المفقودة.

صعود وسقوط أوغاريت القديمة: 

ازدهرت الحضارة الأوغاريتيّة ووصلت لأوج ازدهارها العام 1400ق.م تقريبًا، حيث كانت مركزًا تجاريًّا حضاريًّا يقع وسطًا بين الشرق والشمال والجنوب وكانت آنذاك خاضعة للنفوذ المصريّ.
وتشير الآثار الماديّة إلى أن المدينة كانت على صلات تجاريّة وحضاريّة مع مصر وبلاد ما بين الرافدين والأناضول وجزيرة كريت وقبرص والعالم الإيجي وكان سكانها مزيجًا من هؤلاء الأقوام، وقد وُجدت كتابات بلغة هذه الأقوام وبخطوط مختلفة وإن كانت اللغة الكنعانية والمكون السكاني الكنعاني هما السائدان.

بدأ أفول نجم أوغاريت تقريبًا عام 1200 ق.م؛ وذلك عندما دخل الحديد كبديل للنحاس فتأثرت أوغاريت بشدة حيث كانت ميناءً لاستيراد النحاس من قبرص وتوزيعه على مختلف بلدان الشرق الأدنى القديم.
وفي أيام  نُقمَد الثاني (حوالي العام 1360ق.م) خُرّبت أوغاريت بالنار كما يخبرنا أمير صور في رسالة بعث بها إلى إخناتون عن اضطراب الحالة في فينيقيا وذكر ضمن ما ذكر عن التهام النار لأوغاريت وخرابها.
وبعد أن أُعيد بناؤها أصيبت بزلزال ثم مد بحري عارم خرّب المدينة وأرسل ذكرها طي النسيان، وقد سُكنت مرة أخرى في العهد الأشوريّ وإن ظلت بلدة صغيرة حتى العهد الإغريقيّ.

الأدب الأوغاريتيّ:

وبرغم الأهمية الكبيرة للبقايا الماديّة لمدينة أوغاريت لكنّ ما خلفته لنا من نصوص1 يأتي في المقام الأول. وهذه النصوص ليست مهمة فقط في الدور الذي تلعبه في إعادة بناء حياة الأوغاريتيّين القديمة فحسب، بل أيضًا في الدور الذي تقوم به في تسليط الضوء على عالم العهد القديم وإعادة قرائته في سياقه الثقافيّ العام.
عُثر على العديد من الرقُم ذات الطبيعة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والإداريّة، ولكن الأكثر أهميّة وما يهمنا نحن هنا هي تلك الرُقم ذات الطبيعة الكهنوتيّة الميثولوجيّة والتي جاءتنا بشكلٍ رئيسيّ من مكتبتين لاثنين من الكهنة.

يتوفر تحت أيدينا من تلك الرُقم 5 ملاحم دينيّة، وهي كالتالي:
1- ملحمة الملك كِرت والتي تتشابه مع قصة أيوب التوراتيّة.
2- ملحمة البعل وعناة والتي تفسر لنا بطريقة شعريّة ميثولوجيّة تناوب الفصول وتعاقب دورة الحياة والموت.
3- الرفائيم أو الأخيلة والأشباح.
4- مولد السحر والغسق أو مولد الآلهة الجميلة.
5- ملحمة دانيال وأقهات وسنتناولها في علاقتها بالعهد القديم في هذا المقال.

أوغاريت والعهد القديم: أسطورة دانيال وأقهات2:  

وصلت إلينا حكاية دانيال وأقهات على أربع لوحات تحتوي على 10 أعمدة بعدد أسطر يبلغ 450 سطرًا.
تبدأ الحكاية بسرد قصة دانيال الذي كان قاضيًا عادلًا يقضي للأرملة وينصف اليتيم، ويجلس للقضاء كل يوم عند باب المدينة. لكنّه كان عقيمًا لم يُرزق بولد يرثه وإن كانت له ابنة تُدعى “فوغة” غير أنه كان يريد ولدًا ذكرًا ليُبقي اسمه حيًّا، فكان يعتكف في الهيكل ويقدم الذبائح للآلهة لترفع عنه لعنة العقم، وفي اليوم السابع من الاعتكاف ظهر له الإله بعل ووعده بأنه سيلتمس له عند إيل أبي الآلهة رفع اللعنة، وبالفعل رُفعت عنه اللعنة ورُزق بولد سماه أقهات.
وفي أحد الأيام، مرّ إله البناء والصناعة كاشر-وخاسس (كوثر-حاسيس) ببيت دانيال وهو في طريقه من ممفيس بمصر إلى الشمال فدعاه دانيال إلى تناول الطعام وأمر زوجته بأن تذبح له خروفًا.

أما قصة الزيارة الإلهيّة في قصة إبراهيم فترويها التوراة كما يلي: “وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض، وقال: «يا سيد، إن كنت قد وجدت نعمة في عينيّك فلا تتجاوز عبدك ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز، فتسندون قلوبكم ثم تجتازون، لأنكم قد مررتم على عبدكم». فقالوا: «هكذا تفعل كما تكلمت». فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة، وقال: «أسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سميذًا. اعجني واصنعي خبز ملة». ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلًا رخصًا وجيدًا وأعطاه للغلام فأسرع ليعمل، ثم أخذ زبدًا ولبنًا، والعجل الذي عمله، ووضعها قدامهم. وإذ كان هو واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا وقالوا له: «أين سارة امرأتك؟» فقال: «ها هي في الخيمة». فقال: «إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن». وكانت سارة سامعة في باب الخيمة وهو وراؤه. وكان إبراهيم وسارة شيخيّن متقدميّن في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء. فضحكت سارة في باطنها قائلة: «أبعد فنائي يكون لي تنعم، وسيدي قد شاخ؟»فقال الرب لإبراهيم: «لماذا ضحكت سارة قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن. فأنكرت سارة قائلة: «لم أضحك». لأنها خافت. فقال: «لا! بل ضحكت». ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم. وكان إبراهيم ماشيًا معهم ليشيّعهم. فقال الرب: «هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله، وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقويّة، ويتبارك به جميع أمم الأرض؟”.

تتشابه قصة الزيارة الإلهيّة في قصة إبراهيم مع قصة الزيارة الإلهيّة في قصة دانيال وأقهات في العديد من العناصر: (الرجل الصالح العقيم، والصلاة من أجل الإنجاب، والزيارة الإلهية، والوليمة). ويتضح هذا على نحو جليّ في التحليل المقارن التالي الذي أجراه فراس السواح للقصتين:

  النص الأوغاريتي النص التوراتي
دانيال يجلس عند بوابة المدينة يقضي بين الناس. إبراهيم جالس عند باب خيمته قرب حبرون.
دانيل يرفع بصره ويرى كوثر – حاسيس عن بعد. إبراهيم يرفع بصره ويرى يهوه ومعه اثنان من حاشيته.
دانيال ينادي زوجته ويعطيها التعليمات بشأن إكرام الضيف ثم يستقبل كوثر – حاسيس ويستلم منه القوس لأقهات. إبراهيم يركض من باب خيمته لاستقبال القادمين ويعرض ضيافته التي تلقي القبول. ثم يعطي تعليماته لزوجته بخصوص إكرام الضيوف.
دنتية تجهز خروفًا لإطعام الضيف سارة تعجن خبزًا والخادم يجهز عجلًا لإطعام الضيوف
بعد أن يفرغ الضيف الإلهي، يعطي دانيال القوس لأقهات ويأخذ عليه كوثر-حاسيس
وعدًا بأن يقدم بواكير صيده للمعبد
بعد أن يفرغ الضيوف الإلهيون، يعطي يهوه وعداً بولادة وريث لإبراهيم.

قد يعجبك أيضًا: هل حدث الخروج الجماعي من مصر؟

الهوامش
1. زمن تدوين هذه الوثائق يقع في القرن الرابع عشر قبل الميلاد في عهد الملك نُقمَد الثاني. ونعرف أن الملك نقمد الثاني قد راسل الملك الحثيّ شوبيلوليوما الذي مُلّك بين عامي 1375-1340 قبل الميلاد، وكذلك وُجدت آنية منقوش عليها اسم الملك تحتمس الرابع (1420-1411) وأمنحوتب الثالث (1411-1375)، ولكن هذا لا يعني أن هذه الملاحم قد أُلفت في هذا الزمن، إذ أنها أقدم زمنًا وإنمّا دُونت فحسب في القرن الرابع عشر، فهي إذًا أقدم قطعًا من العهد القديم تدوينًا وتأليفًا حيث بدأ تدوين العهد القديم في القرن السابع قبل الميلاد، ولم تظهر إثنية تُدعى إسرائيل قبل القرن الثاني عشر قبل الميلاد أي بعد انهيار أوغاريت وانهيار ثقافة البرونز الأخير بالكامل.
2. للنص الكامل للملحمة انظر كتاب: أساطير وملاحم من أوغاريت (رأس الشمرا) – أنيس فريحة.

المصادر: 
1. أساطير وملاحم من أوغاريت (رأس الشمرا) – أنيس فريحة. 
2. أوغاريت والعهد القديم – بيتر كريغ، ترجمة فراس السواح. 
3. آرام دمشق وإسرائيل – فراس السواح.

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد السعدني

تدقيق لغوي: دعاء شلبي

اترك تعليقا