نحـــــن ومستـــقبل الثقــــافــة
لم يخب ظني وأنا أقرأ مقالًا مترجمًا للكاتب وليام جارفيس عن كبسولات الزمن ومستقبل الثقافة؛ فقد استدعى كعادته وهو يراجع ذاكرة إصداره الحديث “كبسولات الزمن تاريخ ثقافي”، وكأنه يخبرنا بمدى جديته في اكتشافٍ حديثٍ لكبسولة زمنية ممتلئة بالخردة البالية عديمة الجدوى، دون أن يخفي اغتباطه بالكفاءة النيّرة التي تستحضرها نزعات الانتماء للزمان كوحدة خارج السيرورة.
الحديث عن بلاغة الزمن والتنبؤ بمستقبل الثقافة في ظل استمرار تدهور الخطاب القيمي التاريخي للإنسان المتحول المنكوب، سؤالٌ ابستمولوجي تداولي، يرتبط بمستويات التقدم المستقبلي وسرعته السيبرانية الهائلة، وإشكاليات الوهم الذي تعيشه البشرية في قضايا التكنولوجيا والتطور وموت المسافة وإنتاج واستهلاك الثقافات.
في كتاب “التنبؤ بالمستقبل” للألماني نيكولاس ريشر إيعازٌ استشرافي بديع لمعرفة كينونة الزمن، حتميته الضليعة في ترتيب نشوتنا الإنسانية، حتى تستطيع محاورة المستقبل بما هو آلة تليسكوب تعمل على تشكيل الحيز الزمني الناظم للمساحة، تكبيرًا وتقريبًا، حتى نتمكن من رؤية الصورة الحقيقية للأصل، وهو تفريعٌ ضمني لأهمية أن تتغير الثقافة في مستقبلها المنظور.
في ثلاثينيات القرن الماضي كتب طه حسين نظريته التاريخية الفلسفية عن مستقبل الثقافة في مصر، منبهًا إلى أن العقل المصري أقرب إلى العقل الأوروبي والعقلية اليونانية، منه إلى العقل الشرقي، مؤكدًا أن الاقتراب من العقلانية الغربية هو اتصالٌ بحضارة وثقافة البحر المتوسط، وليس اتصالًا جغرافيًا ترابيًا، وهو ما جسّد بحق طفرة التنبؤ بالمستقبل الخطير الذي ينتظر العرب بعد زهاء ثمانين سنة على صدور الكتاب، حيث لا تزال مشكلات الهوية الثقافية والتعليم والتباسات فهم ثقافة الدولة المدنية الحديثة وارتباطها بمبادئ كالحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والعدل الاجتماعي.
ومع وجود تفاوتات شاسعة بين قراءاتنا لمستقبل الثقافة واحتجابنا عن تضمين حدودٍ لها ضمن أولويات الفعل الثقافي، واندماجنا في صلب المراهنة التنموية الإنسية على جوانب سديدة فيه، فقد صار تدبير واقعه الكسيح واحدة من أصعب النظريات السياسية المطروحة الآن.
ففي حين تتجدد الثقافة عند النخب الأوروبية بتيارات ما بعد الحداثة، التي تعيد تفكيك قيم التنوير والحداثة السياسية والفلسفية في منظومات الحكم والديمقراطية، ومداومة تحفيز المثقفين والمفكرين على إجراء نقديات جوهرية شاملة للتجربة إياها، ما يرسخ حيوية التفكير المستقبلي وتراكميته، وهو ما يبدع أشكالًا جديدة من قيم التفكير والتسامح والحوار ونقد العقل الأداتي، تواظب الحالة العربية على التطبيع مع الجمود وتكريس سخافات الإقصاء والتهميش والعنصرية والإلغاء.
كيف يكون التفكير بالمستقبل الثقافي بهكذا عقليات، تجنح إلى تعمية المعرفة التثقيفية وجعلها مكبًا لنفايات الريع والإفساد وتجفيف حقول الاجتهاد والإبداع الثقافي والتربوي، وتنميط حقول الابتكار والتنمية الذاتية.
سيكون لدور الثقافة والمثقفين محورٌ ريادي إصلاحي استراتيجي وحاسم تحت وقع فوضى العلوم المعلوماتية العصرية الجديدة؛ ذلك أن مستويات الذكاء الاصطناعي بدت وكأنها تشفط مساحات التفكير الإنساني الهش، وتأكل من حدود أدواره وحتمياته المندورة للتغيير ومواكبة المستجدات وإنتاج المعرفة.
ولهذا صار من الضروري الاستدلال بحقيقة التفوق الثقافي وراهنيته في سلطة التمكين للعقل السياسي، من أن يظفر بقراءة التحيزات الواعية بمعنى التجانس الثقافي والقيم الكونية وتنظيم المعرفة العالمية أو الحضارة.
كما أن الرفع من جاهزية البحث العلمي في هذا الباراديجم النوعي سيُمكّن المديرين الثقافيين والسياسيين من تحقيق ثورة، من خلال تطوير العملية التعليمية وإعادة إطلاق مناهج جديدة لتصحيح مسارها، وهي لا محالة قوةٌ تعقد الآمال القصوى لجعل التفكير في مستقبل الثقافة عمومًا وازعًا أخلاقيًا وعرفانيًا ومقومًا أساسيًا في الماهيات الكبرى: الهوية الثقافية واللغة والتربية على قيم المواطنة.