علي جمعة.. مَدْخَلٌ إلى فهم التراث الإسلامي
يرى د. علي جمعة في كتابه (الطريق إلى التراث الإسلامي) أنَّ هناك فجوةً ملحوظةً بين كثير من الباحثين وبين التراث العربي والإسلامي؛ فجوةً لا تُمَكِّنُهم من فهم دلالات المقروء، ولا الاستفادة منه، ولا يمكن لباحث كهذا؛ لا يملك الأدوات المناسبة لفهمه أن يقوم على نقدِه أو تطبيقه دون الإلمام به.
من أجل ذلك يبحث كثيرون عن تلك الحلقة الواصلة بين الموروث وبين العلوم التي أنتجها العصرُ الحديث.
التراث الإسلاميّ: ما هو؟
يُعَرِّف علي جمعة التراث الإسلاميَّ اصطلاحيًّا بأنَّهُ: “المُنْتَجُ البشريُّ المنقول؛ الشفويّ والكتابيّ للأمة الإسلامية قبل مائة عامٍ من الزمان“[1].
يُخْرِجُ هذا التعريفُ القرآنَ والسنةَ عن وصف التراث؛ لأنهما ليسَا بشريَّيْنِ، ويجعل التراث الإسلاميَّ شاملًا لكلِّ ما أنتجه العقل ذو الثقافة الإسلامية من علم وفكر وفنٍّ في جميع التَّخَصُّصَات، ويُخْرِجُ أيضًا التراثَ الأثريَّ (الآثار) للأمة الإسلامية؛ لأنه ليس شفويًّا أو مكتوبًا، ولقد حدَّدَ علي جمعة التراث بمائة عامٍ مضتْ جريًا على قانون الآثار المعمول به في بعضِ الدول.
وللتراث الإسلامي خصائص عديدة منها: تنوعه بين الفكر والنص والعرفان، وامتداده على مساحة واسعة من الزمن قُرابة أربعة عشر قرنًا، واختلافه درجةً من ناحية التوثيق، وبشريته القابلة للأخذ والرد، وعالميته؛ إذ فيه العربي والفارسي والتركي والهندي وغير ذلك، كما أن له لغة ومنطقًا يميزانه، بجانب أنه يمثل تجربة فريدة لتطبيق النص على الواقع بكل معانيه.
حضارة نَصِّيَّة
كان المسلمون يُوَلِّدُونَ العلومَ لخدمة النَّصِّ[2].
يرى علي جمعة أنَّ التراثَ الإسلاميَّ تراث نَصِّيّ في أساسه، ويدور مع النصِّ حيثُ دار؛ فــ “محور الحضارة الإسلامية الذي بُنِيَتْ عليه هو النصّ (الكتاب والسنة)؛ أي أنَّ العلومَ كلَّها خادمةٌ له”[3].
إنَّ النِّتَاجَ الفكريَّ لدى المسلمين عبر التاريخ له مَحَلٌّ يعمل الفكرُ فيه؛ هذا المَحَلُّ هو القرآن والسنة كمصدرٍ أساسٍ للمعرفة الإسلامية، وإعمالُ الفكرِ في هذا المَحَلِّ أدَّى إلى ثَمَرَةٍ هي ما أنتجه العقلُ الإسلاميّ من معارف في تَفَاعُلهِ مع النَّصِّ.
يضربُ علي جمعة مثالًا بعقل الأصوليّ؛ كيف يفكر؟ إنَّه أوَّلًا يتساءلُ عن الحُجَّةِ؛ فيرى أنها القرآن والسنة، وبعد ذلك يحتاج إلى توثيقهما؛ فيؤسِّسُ علومًا لذلك، ثم إنه بعد ذلك يريد أن يفهم ما توثَّقَ منه، فيضع ضوابط للاستدلال؛ فيُفَرِّق مثلًا بين ما هو قطعي وما هو ظني، ومن ثَمَّ يُوَاجِهُ مُشْكِلةَ تناهِي النصوص وعدم تناهِي الوقائع؛ فيُؤَسِّسُ لمبدأ القياس؛ مُلْحِقًا الجديدَ بالقديم، وهكذا تسير عمليَّةُ تفكيرِه على هذا المنوال.
إنَّ الإبداعَ في السياق العربي والإسلامي كان ينطلق من خدمة النصِّ في شتى العلوم والمعارف والفنون؛ فالنصُّ كان “مُحَرِّكًا للآداب والعلوم ومُنْشِئًا لها”[4].
كان ابنُ مقلة مثلًا فنَّانًا مسلمًا وعالمًا بالرياضيات، وقد قام بقراءة النصِّ القرآني قراءة تفاعليَّة؛ فانفعل بنَظْمِهِ وأسلوبه ومعناه، ورأى أنَّ مثل هذا النصِّ ينبغي أن يُكْتَب بخَطٍّ يلائمه؛ فاعتمد على معارفه الرياضية والفنية ليبتكر خطًّا يُكْتَبُ به القرآن يليق بما استشعره من نسبةٍ إلهية فيه.
العقيدة نموذجًا إسلاميًّا للمعرفة
نقطةُ الانطلاق
ينطلق التراث الإسلامي -في رأي علي جمعة- من نموذج معرفي يُحَرِّكُه يُعَبَّرُ عنه بالعقيدة؛ فالمسلم حينما يتوجَّه بالدراسةِ نَحْوَ العالَم بما فيه؛ فإنه يؤمن بأوَّلِيَّات مبدئيَّة ينطلق منها مثل معرفته ماهيَّتَه، وسبب وجوده، وما ينبغي عليه فعلُه تُجاه هذا الكون.
ولعلَّ تلك الرؤية تخالف تمامًا ما عليه الغربيُّون اليوم، بل إنهم يسمون مثلَ هذا الإيمان مصادرات لا يمكن القولُ بها إلا بعد امتحانها، ودراستها، والتحقق منها عبر أساليب البحث العلميّ أو الفلسفيّ، لكنَّ المسلم لا مشكلةَ عنده أن يبتدئ بهذا النموذج المعرفي في عمليَّة فهمه للعالَم حوله، أما الغربيُّ فإنه لا يبتدئ منها، بل ربما ينتهي إليها ما إنْ يراها مُسْتَحِقَّةً للبحث والدراسة.
معالم النموذج المعرفي في الإسلام
يوجز علي جمعة معَالِمَ النموذج الإسلاميِّ للمعرفة (العقيدة) في أنَّ “الإسلام عقيدة ينبثق عنها نظام”[5] فكريّ يشتمل على:
- نسبة خلق هذا الكون لله.
- إرساله الرسل، وإنزاله الكتب هداية للبشر وإرشادًا.
- خَلْقِ الخَلْقِ من أجل أمرين؛ هما:
- عبادته.
- عمارة الأرض.
- جَعْلِ الإنسان من جسد وروح بما بينهما من صلة وارتباط.
- أنَّ الإنسان مفطور على الخير، وليس الشر إلا طارئًا عليه.
- تحديد مصادر المعرفة في:
- الوحي، وهو قسمان:
- القرآن: كتاب الله المنقول إلينا بالتواتر بين دَفَّتَي المصحف.
- السنة: ما صح روايةً عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
- الوجود، وهو قسمان:
- الواقع: ما يُدْرِكُه الإنسانُ بحواسِّه دون حاجة إلى شيء آخر، وجاء خطاب الوحي طبقًا لهذا الواقع المُدْرَكِ بالحواس.
- نفس الأمر: وهو ما لا يُمْكِنُ إدراكُه بالحواس البشرية كالحياة المجهريَّة، سواء كانت ميكروسكوبية أو تلسكوبية.
- الوحي، وهو قسمان:
يرى علي جمعة أنَّ الفلسفة الغربية قد انهارت أمام ما يسميه نفس الأمر على حساب الواقع المُدْرَكِ بالحواسِّ، و”الحقّ أن الواقع حقيقة ثابتة وأن الطريق إلى معرفة نفس الأمر هو المتغير”[6]، ويرى كذلك أنَّ الفرق الإسلامية التي أعْلَتْ من شأنِ الواقع المحسوس على حساب نفس الأمر قد جانبتِ الصوابَ أيضًا؛ فقد أوقعهم فهمُهم في مشكلاتٍ معرفيَّة قادحةٍ كإنكارهم دوران الأرض اعتمادًا على الواقع وظاهر النصِّ.
المقابلة بين النموذجين: الغربي والإسلامي
إنَّ النموذجَ المعرفيَّ الذي ينطلق منه المسلم في فهمه للعالم يخالف النموذج المعرفي الغربي في فلسفاته وتطبيقاته؛ ففي الوقتِ الذي يرى فيه سارتر أنَّ “العذاب هو الآخر”، يرى فيه الإسلام أنَّ الآخر ليس محَلَّ عذاب ولكنه مَحَلُّ دعوة، وأنَّ الأمة منقسمة إلى قسمين: أمة الدعوة (غير المسلمين)، وأمة الإجابة (المسلمون)، وفي الوقت الذي يقدِّمُ فيه النموذجُ الغربيُّ فكرةَ المصلحة أساسًا لضبط الاجتماع البشري، يقدم الإسلامُ فكرة التَّكليف الإلهيّ أساسًا مُهَيْمِنًا لحركة المجتمع في التاريخ.
يُؤدِّي النموذج الغربي -في نظر علي جمعة- إلى تشييء الإنسان؛ لأنه لا يفهم العالم إلا على أنه أشياء يمكن اختبارها وتطبيق الأساليب الإمبريقية التجريبية عليها، خاصة بعدما أعلن نيتشه موتَ الإله، وأعلن فوكو من بعده موت الإنسان؛ فلم يَعُدْ باقيًا إلا الشيء، الشيء فحسب! أما الإسلام؛ فإنه لا يُشَيِّؤُ العالَم، ولكن، ينظر إليه على أنه مخلوق لله، مُسَخَّر للإنسان، ذلك المخلوق الفريد الذي كَرَّمَه الله، ووهَبه عقلًا وشعورًا يمتاز بهما عن باقي الخليقة.
ولا يمكن أنْ تقوم الحضارة الإسلامية مرة أخرى -من منظور علي جمعة- إلا عن طريق ما يسميه عملية إعادة الصياغة، والتي تعني “عملية كشفٍ عن النموذج المعرفي الإسلامي، لا إعادة إنشائه”[7]،و”استقراء ما فيه من معانٍ يمكن إعادة صياغتها بمضامين وأشكالٍ مهمة”[8].
لا يحاول علي جمعة تعميق الخلاف بين النموذَجَين الغربي والإسلامي، ولكنه يحاول التَّمييز بينهما، وتوضيح أوجهَ الخلاف بينهما، لا في التطبيقات فحسب، ولكن في الأصل الذي ينطلقان منه، ويرى أن إعادة صياغة النموذج الإسلامي ستؤدِّي إلى “فهم أعمق متبادل”[9]، إلى”مقارنة عادلة يبن التراثين: الذاتي والمقابل”[10]؛ “فعندما أصوغ النموذج المعرفي الخاص بي، وأتفهم أبعاد النموذج المعرفي للآخر، يمكنني ساعتها البدء في الحوار والأخذ والرد”[11].
يضرب علي جمعة مثالًا يوضِّح أوجهَ التمايُزَ بين النموذجَين بعلم الاجتماع الحديث الذي يرى أن الحقوق منقسمة إلى حق عام (حقوق المجتمع)، وحق خاصّ (حقوق الفرد)، ورغم أنَّ الحقوق تنقسم إلى نفس القسمين من المنظور الإسلامي إلا أنَّ الحق العام يتعلَّق بالله لا بالمجتمع، والحق الخاص يتعلق بالأفراد بوصفهم عبادًا لله.
هذا التقسيم له تفريعات تطبيقية عديدة منها أن المذنب طبقًا للنموذج الغربي لا ينبغي أن يُمَسَّ بدنيًّا مطلقًا، بل يُعاقَبُ بالعقوبة غير الجسدية التي يُقِرُّها القانون، أما من المنظور الإسلامي فلا ضَيْرَ في إيقاع العقوبة الجسديَّة على المذنب بالقطع أو الضرب أو غير ذلك حسبَ جريمته.
ولأنَّ ممارسة الجنس شأن شخصي؛ فإنه لا يصحّ التدخُّل فيه من المنظور المعرفيّ لدى الغربيّين، ولكنه من منظور الإسلام المعرفي حق من حقوق الله التي لا ينبغي أن تُنْتَهَكَ، فالله قد قَنَّن للمجتمع المسلم الأُطُرَ التي من خلالها يمكن للمرء ممارسة الجنس في نطاقه المشروع، فتكون ممارسته خارج هذه الأُطُر انتهاكًا لحرمات الله.
حول عناصر العقلية التراثية
يرى علي جمعة “أنَّ فهمَ الموروث الحضاري الإسلامي يحتاج إلى إدراكِ عناصر تكوين العقلية التراثية”[12]، ويحاول وضع يديه على أهم هذه العناصرِ التي كوَّنَتِ العقلية المسلمة في كافة العلومِ والمجالات، ومن أهم هذه العناصر:
1- الرؤية الكلية:
أول هذه العناصر التي يطرحها علي جمعة هو الرؤية الكلية؛ بمعنى أنَّ العقل المسلم لم يكن يتعامل مع المعارفِ من طريق التَّخَصُّص فحسب كما هو الحالُ الآن في العصر الحديث. إنه لم يكن يعترف بشيء اسمه التَّخَصُّص من الأساس؛ فنرى الطبيب والرياضي والمهندس والفقيه وغير هؤلاء يمتلكون رؤىً كليَّة عن الوجود والعالَم يفكرون فيها، ويكتبون عنها، ويحاولون تطويرَها.
لم يكن العقلُ المسلم إذن يحصر نفسه في مسائل جزئية لا يخرج عنها إلا إليها باسم التَّخصُّص؛ لذلك رأينا في تاريخنا مثلًا ذلك الطبيب الفيلسوف الذي يمتلك رؤية فلسفية ومعلوماتيَّة عن الله والوجود والعالَم.
2- ضرورة إدراك المطلق:
أما العنصر الثاني المُكَوِّن للعقليَّة التراثية فهو أن العقل التراثيَّ كان يرى إدراك المطلق ضرورة معرفيَّة لا يمكن إنكارها. كان العقل التراثيُّ إذن مُصَدِّقًا بوجود الله، قادرًا على إدراك المُطْلَق في خفائه؛ لأنَّ الكونَ يدل عليه، وهو أصل الخليقة؛ أوجدها من عدم دون أثرٍ فيه، وهو لا يتناهى، ولا يَحُدُّه حد، ولا يحويه مكان ولا زمان؛ لأنه الإله المطلق.
يرى علي جمعة أنَّ هذا الإنسان الذي كان قادرًا على إدراك المطلق كان يفهم معانيَ مثل “العدل المطلق، والصدق المطلق، والحق المطلق على خلاف النموذج الغربي الذي يزعم أنَّ الأشياء كلها نسبية”[13].
ثم إنه يضرب مثالًا مُوَضِّحًا لأثر الإيمان بالمطلق على هذا النحو في إنتاج المعارف بالموسيقى؛ فالعقل التراثي الذي أبدع علم الموسيقى في التراث الإسلامي نظر إلى الموجودات ورأى أنها إما أن تكون ساكنة وإما أن تكون متحركة، ورأى أنَّ الموسيقى مثل اللغة من جهة التعبير وفيها مُتَحَرِّك وساكن؛ فبناها على جزأين أساسين: الحركةوالسكون؛ (تِنْ، تِنْ…).
وكانت الموسيقى ذات دلالة نسقية؛ إذ كانت “تصعد إلى ما يُسَمَّى بالجواب (أعلى درجات الصوت)، ثم تهبط إلى ما يُسَمَّى بالقرار (أدنى حالة للصوت)”[14]، هذا “الاتِّساقُ يعني المطلق، ويعني أنَّ الذي أنتج هذا كان مؤمنًا بالمطلق”[15].
3- مصادر المعرفة: الوحي، والوجود، والعقل:
والآن،يتساءل علي جمعة: كيف يتلقى العقلُ التراثي معارفه، ومن أين يستقيها ويطلبها؟
يرى علي جمعة أن مصادرَ المعرفة تتمثَّلُ في الوحي، والوجود (الواقع – نفس الأمر)، والعقل؛ فالمعارف التي استخرجها العقل المسلمُ إما أن تكون نابعةً من النصِّ مباشرة، وإما أن تكون نابعةً من الوجود كالعادة والعُرْف والحسِّ، أو من التفكير العقلي الخالص.
عندما يقولُ العقل التراثي مثلًا: “إنَّ الصلاة واجبة”؛ فإنه قد قال بهذا الوجوب اعتمادًا على الوحي، أما عندما يقول: “إنَّ النار مُحْرِقَة”؛ فإنه يكون قد استقى هذه المعرفة من الوجود، وعندما يقول: “إنَّ واحد زائد واحد يساوي اثنين”؛ فإنه يكون قد استقى ذلك من العقل.
أنواع التعامل مع التراث:
يرى علي جمعة أن هناك أنواعًا عدَّة للتعامل مع التراث، من أهمها:
1- النشر والتحقيق:
بدأ التعامل مع النص عن طريق النشر والتحقيق مع ظهور المطابع في العالم العربي والإسلامي، و”تحول الكتاب المخطوط ذو النسخ النادرة، والمختلفة الصفحات والخطوط إلى كتاب مطبوع كثير النسخ نسبيًّا”[16]، “وفي بعض الأحيان كان نصيبُ الكتاب هو النشر فقط، وفي بعضها كان النشر والتحقيق (مقارنة النسخ، عمل فهارس، الشرح، الترجمة، دراسة حول الكتاب).
وكان مشروع الاستشراق في نشر التراث الإسلامي وتحقيقه مشروعًا متكاملًا ومتنوعًا في رأي محمد عمارة، رغم أنه قد تعامل مع تراثنا في الغالب لأغراض استعمارية دون أدنى قدسية أو احترام، ثم ظهرت بعد ذلك المشاريع القومية، مثل مشروع رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وأحمد زكي، وطه حسين وغيرهم من أجل نشر التراث وتحقيقه.
وانقسم التحقيق فيما بعد إلى قسمين:
- التحقيق العلمي: وفيه يُشْرَح الكتابُ، وتوضع عليه الحواشي، والمناقشات، والتعليقات، والهوامش، ومناهج المؤلفين، وغير ذلك.
- التحقيق التِّجَاري: يُقْتَصَرُ فيه على خدمة النصِّ عن طريق نقله إلى القارئ كما أراده المؤلف مع إلحاقه ببعض الفهارس المُسَاعِدة في عملية القراءة.
2- التيسير:
قامتْ مدرسة التيسير لتقريب التراث بصورة مُيَسَّرَةً إلى الناس،ويتدخَّلُ التيسيرُ في النَّصوص التراثيّة بطرق مختلفة منها تهذيبها بحذف الأخبار والأسانيد وغريب اللغة كما فعل عبد السلام هارون مع سيرة ابن هشام، وقد يُحْذَفُ منها ما لا يُرَادُ شيوعُه من معلوماتٍ قد تكون خاطئة أو فاحشة أو لا يُرَادُ شيوعها كما فعلت دارُ الكتب المصرية مع بعض الكتب.
3- الخدمة:
أما ما يتعلق بخدمة التراث؛ فيعني إخراج هذا التراث وتقديمه بشكل يليق به، وقد تنوعت أساليب الخدمة وأنواعها من فهرسة، ومكانز (قائمة كلمات متشابهة؛ تُعَدُّ مداخل للبحث عن موضوعٍ ما، وما يَتَّصِلُ به)، وقوائم بيلوجرافية (تحصر كل ما كُتِبَ في موضوع ما)، وموسوعات اصطلاحيَّة، وغير ذلك.
4- الإحياء:
أما الإحياء فـ “عملية تتجاوز النشر والتحقيق والتيسير والخدمة؛ تنظر إلى مناهج السلف وتستخلصها في كل علم وناحية، وتقوم بصياغتها بطريقة تُمَكِّنُ من البناء عليها، وتكرارها، وإكمالها إنِ احتاجت إلى إكمال، وإنشاء ما يُكَمِّلها، أو يساعدها،أو يماثلها مما نحتاج إليه”[17].
إشكالية التعامل مع التراث
توجه كثيرون صوب التراث وتعددت أساليب تعاملهم معه، ويحصر علي جمعة تيارات التعامل مع التراث في خمسة اتجاهات أساسية هي: التعامل غير المنهجي، والتعامل الناقص، والتعامل القاصر، والتعامل الماضوي، والتعامل الظالم؛ فما المقصود بكل اتجاه؟
1- التعامل غير المنهجي:
تناول بعض المثقفين التراث الإسلامي وتعاملوا معه تعاملًا يصفه علي جمعة بغير المنهجي، وهو تعامل يقوم على الرفض المطلق لهذا التراث مثل تعامل بعض الماركسيِّين له، والقبول المطلق، ويمثله كثير من المسلمين الملتزمين الذي يقبلون التراث بكل ما فيه ويهيمون به، وأخيرًا يأتي تيارُ الانتقاء العشوائي الذي ينتقي من النصِّ ما يناسبه دون معيار واضح لذلك.
2- التعامل الناقص:
أما التعامل الناقص فيعني تناوُل هذا التراث تناولًا جُزْئيًّا دون جميعه؛ فيُقْتَصَر على دراسته من ناحية الفكر فقط، أو النص فقط، أو العرفان فقط، وليس التراثُ واحدًا من هذه الجوانب فحسب، ولكنه في الحقيقية يشتمل على جميعها.
ومن بعض ظواهر هذا التعامل الاعتماد على مصدر دون مصدر في تصوير مسألة ما أو عصرٍ من العصور كأن أعتمد على كتاب “الأغاني” في تصوير العصر العباسي بأنه عصر لَهْوٍ وفجور، أو أن أعتمد على كتاب”حلية الألياء”في تصويره على أنه عصر تقوى وورع.
3- التعامل القاصر:
وهو التعامل الذي لا يتوجَّه نحو التراث إلا لنشره وتحقيقه وتقريبه وخدمته وتيسيره فحسب. يرى علي جمعة أنَّ هذا التوجه قاصر؛ لأنَّ التعامل مع التراث لا بد أن يكون تفاعليًّا نحاول إحياءه عن طريق الكشف عن مناهجه، وإيجاد نقاط التواصل بين الماضي والحاضر، الأصالة والمعاصرة.
يضرب علي جمعة مثالًا يُحْتَذَى به بالشافعي وهو يتعامل مع تراث وقته وزمنه؛ إذ قام بابتداع رابط مُحْكَمٍ بين تراث أهل الرأي وأهل الحديث عن طريق وضْعِه لأصول الفقه، وفعل الأشعري مثل ذلك بوضعه علم الكلام؛ رابطًا بين الوارد الفلسفي والعقيدة الإسلامية، وكذلك فعل الغزالي في الفقه والتصوف.
4- التعامل الماضوي:
وهو التعامل الذي يتوقف عند ما أبدعه السلفُ دون استيعاب مناهجه، ولا يحاول توليد مناهج جديدة اعتمادًا عليها، بل يحاول تفعيل التراث بظرفه التاريخي في ظرفٍ تاريخي آخر مغاير له.
يقول علي جمعة: “إن التفكير الماضوي يختزل القضية ويجعل التراث بظرفه التاريخي ونسبيته حاكمًا على عصر غير عصره وأناس غير أناسه؛ مما يترتب عليه كثير من المشكلات”[18].
5- التعامل الظالم:
لعل هذا التعامل ينبثق عن الاتجاه السابق؛ فهو يحاول نزع التراث عن سياقه التاريخي ومحاكمته بمقاييس العصر الحديث، وهذا تعامل ظالم؛ لأنه لا يحاول فهم هذا التراث في إطاره الزمني الذي وُجِدَ فيه،ولكنه يفهم”التراث بعيدًا عن مصطلحاته”[19] تمامًا.
كيف نفهم التراث إذن؟
يرى علي جمعة أنَّ فهم التراث ينبغي أن يكون عن طريق التعامل المنهجي معه بشكل تكاملي عن طريق إحيائه، واستخراج مناهجه مع محاولة تطويرها وتفعيلها حتى تكون مُنْتِجَةً، ويتم هذا التعامل دون نزعه عن زمنه وظرفه التاريخي، ودون الحكم عليه بمقاييس معاصرة، وإن أردنا تقييمه أو الحكم عليه؛ فعندنا مصادر المعرفة (الوحي، والوجود، والعقل) التي يمكن الاعتماد عليه.
إشكالية التباس المفاهيم: مفهوم العلم نموذجًا
يرى علي جمعة أنَّ هناك العديد من الصعوبات التي قد تواجه الباحث في التراث الإسلامي، منها ما يتعلق بالباحث نفسه كعدم كفايته العلمية للبحث، ومنها مشكلة المفاهيم والتباسها بسبب المسافة بين هذا التراث وما عليه العصر الحديث من استخدام لهذه المفاهيم والمصطلحات.
يعالج علي جمعة قضية التباس المفاهيم عن طريق مفهوم العلم Science؛ فالغربيون ومن وافقهم لا يُطْلِقونَ لفظةَ العِلْمِ إلا على العلم التجريبي الذي لا يثبت إلا بالمشاهدة، أما العلم وفقًا للمنظور الإسلامي؛ فهو”الإدراك الجازم المُطَابق للواقع الناشئ عن دليل“[20]، وهو “صفة ينكشف بها المطلوب انكشافًا تامًّا”[21].
إذن، كان العلمُ بالمنظور الإسلاميّ أعمَّ وأشمل من العلم بالمنظور الغربي؛ فيُطْلَقُ العلمُ في التراث الإسلامي ويُرَادُ به”الفرعُ من المعرفة الذي له موضوع ومسائل”[22]، سواء كان عقليًّا أو تجريبيًّا أو معرفيًّا، أما العلم من منظوره الغربي فإنه يضيق حتى لا يشمل إلا العلم الطبيعي.
من أدوات التعامل مع النص
1- فهم الرؤية التراثية للعالَم الخارجي
من الأدوات التي يبنغي أن يمتلكها الباحث في التراث الإسلامي فهم العناصر التي كان يرى بها التراثِيُّ العالَم، إنَّ الإلمام بهذه العناصر سيؤدي إلى نوع من الفهم العام للدائرة التي كان يدور فيها التراثيون وهم ينظرون إلى العالم الخارجي.
يشرح علي جمعة تلك الرؤية التراثية التي عُنِيَ بها علم الكلام الذي نظر إلى الوجود كله على أنه إما أن يكون:
- مُتَحيِّزًا: مائلًا إلى جانبٍ دون آخر، أو له حدودًا، أو يشغل حَيِّزًا من الفراغ، وهذا المُتَحَيِّزُ ينقسم بدوره إلى:
- بسيط (جوهر): وهو الخلية الواحدة المنفردة، وهو أقل حالات المُتَحَيِّز.
- مركب (جسم): وهو المُرَكَّب من عِدَّةِ خلايا.
- غير مُتَحَيِّز (العَرَض): وهو ما يقوم في غيره، ولا يقوم بذاته كالصفات والأحوال، وهو تسعة أنواع: الكم، والكيف، والنسبة، والمكان، والزمان، والوضع، المِلْك، والفعل، وأثر الفعل.
وقد أخرج التراثيون الله من هذا التقسيم؛ لأنه غير ذلك وفوقه؛ فهو ليس بجوهر ولا عرض. هكذا يمكن للباحث أن يفهم التصور الكلي الذي سيطر على أذهان التراثيين وهم ينظرون إلى الله والعالم والوجود.
2- اللغة العربية ودورها في فهم التراث
إن دراسة اللغة العربية دراسة عميقة مهمة جدًّا للباحث التراثي؛ لأنها هي المُعَبِّرَة عن العقل المسلم”، ولأنها تحمل في طيَّاتِها أصول هذا العقل التراثي، ومُنْتَجَاتِه، وأساليبه في التعامل مع الواقع أو الوجود، وهي وعاء الفكر الإسلامي؛ لذا يجب أن تكون أصلًا في محاولة إعادة ابتناء المنظور الإسلامي في العلوم الحديثة”[23].
يضع علي جمعة خطوطًا عريضة لفلسفة اللغة العربية؛ فيرى أنها وُضِعَتْ لبيان الواقع لا نفس الأمر، وإذا أُرِيدَ منها بيان نفس الأمر؛ فإن أصحابها قد يلجؤون إلى الرمز والإلغاز، وأنها لغة مفيدة بالوضع الذي يعني جعل اللفظ بإزاء المعنى.
ويختلف مفكرو المسلمين في نشأة اللغة؛ فيرى بعضهم أنها وضع إلهي خالص، ويرى آخرون أنها وضع بشري، ويتوسط فريق ثالث؛ فيرى أن أصولها إلهي أما اشتقاقاتها وتفريعاتها فبشري.
وقد يأتي الشرع؛ فينقل لفظًا من معناه اللغوي إلى معنىً آخر شرعيّ، كما ينقل أهل الاختصاصات المختلفة اللفظ من معناه اللغوي إلى معنى آخر يسمونه اصطلاحيًّا بين أهل الاختصاص بشرط أن يكون شائعًا بينهم، ومقبولًا داخل هذا العلم.
نرشح لك: ما الذي يطويه التراث الإسلامي من الخيال العلمي والخيال التأملي؟
[1] الطريق إلى التراث الإسلامي – مقدمات معرفية ومداخل منهجية، د. علي جمعة، دار نهضة مصر، الطبعة السادسة 2012، ص 19. [2] المصدر السابق، ص 33. [3] المصدر السابق بتصرف بسيط بالحذف، ص 20. [4] المصدر السابق، ص 22. [5] المصدر السابق، ص 26. [6] المصدر السابق، ص 29. [7] المصدر السابق، ص 31. [8] المصدر السابق، ص 33. [9] المصدر السابق، ص 31. [10] المصدر السابق، ص 31. [11] المصدر السابق، ص 31. [12] المصدر السابق، ص 45. [13] المصدر السابق، ص 38. [14] المصدر السابق، ص 38. [15] المصدر السابق، ص 38. [16] المصدر السابق، ص 46. [17] المصدر السابق، ص 50. [18] المصدر السابق، ص 52. [19] المصدر السابق، ص 53. [20] المصدر السابق، ص 57. [21] المصدر السابق، ص 59. [22] المصدر السابق، ص 60. [23] المصدر السابق بتصرف بسيط بالحذف، ص 98.