جان جراي: القصة المأساوية لملكة الأيام التسعة (مترجم)
من هي اللايدي جاين جراي؟ سليلة عائلة “تيودور” التي حكمت لمدة تسعة أيام فقط، بعد أن تم وضعها على العرش الإنجليزي من قبل والد زوجها، قبل أن تطيح بها ابنة خالها ويتم الحكم عليها بالإعدام. لنتعرَّف على قصة كيف أصبحت حفيدة “شقيقة” الملك هنري الثامن بيدق في يد من حولها، وفقدت رأسها بسبب ذلك.
في 13 نوفمبر 1553، أصبحت اللايدي جاين جراي -البالغة من العمر 17 عامًا- أصغر امرأة ملكية تُدان بالخيانة في التاريخ البريطاني، كانت محاكمتها -التي نُظمت في ساحة جيلدهول في قلب مدينة لندن- بمثابة إذلال علني، وبالنسبة لجاين كانت لها نتيجة كارثية.
لكن كيف انتهى الأمر إلى ذلك؟ قبل أربعة أشهر فقط، قام بعض أقوى الرجال في إنجلترا بنقل جاين، حفيدة أخت الملك هنري الثامن، إلى برج لندن حيث أعلنوها ملكة إنجلترا، ولكن الآن ها هي تواجه القضاة، بعد عهدها الذي دام تسعة أيام وانتهى بالفعل، وحياتها معلقة بخيط رفيع.
تعود بدايات سقوط جاين جراي، إلى وقت سابق من عام 1553، من خلال واحدة من آخر أعمال ‘إدوارد السادس’ كملك إنجلترا، كان إدوارد بروتستانتيًا خالصا، وعندما خلف والده هنري الثامن كملك عام 1547، أخذ على عاتقه فرض إصلاحات دينية على شعبه.
لكن الدفاع عن البروتستانتية في حياته لم يكن كافياً لإدوارد، بل أراد أن يستمر أيضا بعد وفاته، والسبيل لذلك هو منع شقيقته الكبرى ‘ماري’ من خلافته على العرش، باعتبارها كاثوليكية مخلصة، فكان الحل بالنسبة إليه إقرار مرسوم ملكي أطلق عليه “وصيتي لخلافة العرش’، الذي استثنى شقيقتيه ماري وإليزابيث، بحجة أنهم نتاج علاقة غير شرعية خارج الزواج -والده فعل نفس الشيء من قبل. والآن أصبحت جاين جراي البروتستانتية ولية العهد، بعد أن كانت الثالثة في ترتيب الخلافة.
ما جعل وصية الملك إدوارد مثيرة للجدل أكثر، كونها نتاج مؤامرة مستشار الملك، جون دودلي -دوق نورثمبرلان- والذي كان طموحًا لأبعد الحدود، وطامعًا بالسلطة، الأمر الذي سينتهي فور تولي ماري العرش، فقط لأنها تكرهه لخلافات شخصية وسياسية.
روابط الولاء
مثلت وصية الملك الفرصة المثالية للدوق لفرض سيطرته، وقد قام في مايو 1553 باستغلال سذاجة والد جاين جراي، لتزويجها من ابنه الرابع ‘جيلفورد’، في محاولة لربط العائلتين في تحالف بالزواج، لمواجهة التحديات القادمة وبالأخص تولي جاين العرش، والذي احتاجت مساعدة الدوق من أجله.
وبعد وفاة الملك إدوارد في يوليو 1553، سارت خطة الدوق بسلاسة في البداية، لكن رغم انتقال جاين جراي إلى برج لندن ليتم تتويجها رسميا، بعد وفاة الملك ب 4 أيام، بدأت الخطة تسلك منحنى آخر، قابل العامة في لندن خلافة جاين بالرفض والاستنكار، بسبب تعاطفهم الكبير وحبهم لماري، حتى إن سفراء إمبراطور ألمانيا سجلوا “لا يوجد أي مظاهر احتفال في لندن”.
والأسوء من ذلك، أن الدوق أخطأ في تقدير شعبية ماري في جميع أنحاء البلاد، ومع مرور كل يوم، ازداد الصخب حول أحقية الابنة الكبرى لهنري الثامن للتاج، وسرعان ما جمعت تأييدًا لا يمكن مواجهته. ثم في 19 يوليو، بعد تسعة أيام فقط من إعلانها ملكة، تمت الإطاحة بجاين لصالح ماري.
مع انتهاء فترة حكمها القصيرة، بقيت جاين جراي وزوجها في برج لندن، سجناء في نفس المبنى الذي كان قصرهم لفترة وجيزة، عندها عمت الفرحة في البلاد لبداية عهد ماري الأولى، لم يشغل الكثيرون أنفسهم بمصير جاين، كان الجميع يعتبرون مصيرها نتيجة حتمية، بعد كل شيء فقد قبلت التاج، وإن لم تكن راغبة، ما يمثل خيانة عظمى، وبالتأكيد سوف يتم إعدامها.
لكن ماري كانت حريصة على بدء حكمها بالرأفة والرحمة، وبحلول منتصف شهر أغسطس، كانت قد أعلنتها صريحة للحاشية بأنها “لا يمكن إقناعها بالموافقة على إعدام جاين”، ليس فقط بسبب أن جاين ابنة عمتها، بل كانت ماري أيضًا مدركة تمامًا صغر سن جاين وحقيقة أنه تم التلاعب بها، وضمنت جاين البقاء، لكن دوق نورثمبرلاند قابل مصيرًا مختلفًا، وفي 22 أغسطس تم قطع رأسه.
بأمر الملكة
مرت الأشهر التالية بهدوء لجاين في محبسها، لكنها لم تغب عن الأذهان، ومع اقتراب فصل الخريف، وتحت ضغط هائل من مؤيدي معاقبة أولئك الذين شاركوا في محاولة الانقلاب، وافقت ماري على تقديم جاين وزوجها للمحاكمة، كمجرد إجراء شكلي لتهدئة حاشيتها، فبصفتها ملكة، كان يحق لماري العفو عن جاين بعد المحاكمة.
في صباح يوم 13 نوفمبر، تم نقل جاين جراي وزوجها سيرًا على الأقدام من البرج إلى ساحة المحاكمة، أثناء مرورهم في الشوارع، مع الفأس أمامهم وفقًا للإجراءات المعتادة، اجتمع الناس للمشاهدة، لكن جاين انغمست في كتاب الصلاة الذي كان مفتوحًا بين يديها.
عند وصولهم إلى ساحة المحاكمة، تم اصطحاب السجينين إلى القاعة الكبرى، حيث جرت محاكمتهم في غرفة مليئة بالمتابعين، وتم تعيين مجموعة كاملة من أنصار ماري للإشراف على الإجراءات، برئاسة دوق نورفولك، كانت الملكة قد أمرت أولئك الذين تولوا الحكم أن يعملوا بجد وأن يضمنوا أن تسود العدالة.
تمت قراءة التهم الموجهة إلى جاين، وتم عرض الأدلة على المحكمة: قبلت جاين تاج إنجلترا زورا وغدرًا ونصبت نفسها “الملكة جاين”، وبالتالي اغتصبت حقوق ماري من مكانتها الملكية ولقبها وسلطتها على مملكة إنجلترا ، وبذلك تكون قد ارتكبت خيانة عظمى.
كانت كل الأنظار على جاين جراي لسماع كيف ستدافع عن نفسها أمام الاتهامات، ثم جاء ردها سريعا: “مذنبة”، ووضعت نفسها تحت رحمة الملكة، وعلى هذا النحو، كان حكم المحكمة نتيجة مفروغ منها: أُدينت جاين وزوجها بتهمة الخيانة وحكم عليهما بالموت، بالنسبة لجاين، كان الحكم أنه، يجب حرقها أو قطع رأسها، أيا ما يرضي الملكة.
بعد الإدانة، أُعيد الزوجان إلى محبسهما في انتظار قرار ماري بشأن مصيرهما، على الرغم من فداحة التهم التي تم تمريرها، ظلت ماري وفية لرغبتها الأولية في إظهار الرحمة، وأصبح الأمر واقعًا بأن جاين لن تموت، ثم بدأت جاين في العيش بشكل طبيعي، وكان واضحا أن الإعدام لن يُنفذ بحقها.
مع اقتراب عيد الميلاد، خففت ماري من ظروف حبس جاين وسمحت لها بالنزول في الأراضي المجاورة لمحبسها، وبدأ الأمل في التحقق أن ماري لن تكتفي بالحفاظ على حياة جاين، بل ستقوم بالإفراج عنها نهائيا، لكن مكائد الرجال الطموحين وضعت جاين في خطر رهيب مرة أخرى.
ويلات الزواج
بحلول أوائل عام 1554، أعلنت ماري رغبتها في الزواج من فيليب، ملك إسبانيا المستقبلي، مما أدى لمعارضة شديدة من رعاياها، في المقام الأول لأنهم كانوا يخشون أن يحاول فيليب توريط إنجلترا في الحروب الإسبانية (في إيطاليا)، ولأن الأمير الإسباني كان كاثوليكيًا، ومع ذلك لم تتأثر ماري بذلك، واستمرت خطط الزفاف بلا هوادة.
لكن ماري على ما يبدو أساءت من تقدير حجم المعارضة، وبدأ بالفعل التخطيط لتمردات على الملكة، بدون علم ماري وبشكل مأساوي جاين أيضا، في قلب ريف كينت، قرر نبيل يُدعى السير توماس وايت والعديد من أصدقائه التمرد، لا بهدف الاحتجاج على الزواج الإسباني فقط، ولكن أيضًا للإطاحة بماري واستبدالها بأختها غير الشقيقة إليزابيث، والأسوء من ذلك، انضم أقرب الناس لجاين للتمرد؛ والدها.
لا يوجد سبب واضح قرر بموجبه والد جاين الانضمام للتمرد، لكن المؤكد أنه وضع حياتها في خطير جسيم بفعلته هذه.
تم القضاء على التمرد قبل أن يبدأ، حيث كان المتمردون مهملين وغير مؤهلين، وفي يناير 1554 تم اكتشاف مخططهم، وسرعان ما كان والد جاين يفر نحو وسط إنجلترا، لتجنب القبض عليه وحشد الدعم للانتفاضة، لكنه فشل فشلًا ذريعًا وفي 2 فبراير، تم القبض عليه في وتم إرساله إلى برج لندن للسجن، وانضم إليه قائد التمرد توماس وايت بعدها، لأن ببساطة دعم سكان لندن المتفاني للملكة ماري قد حطم محاولاته للسيطرة على العاصمة، وفي 7 فبراير، تم القبض عليه أيضًا.
لم تكن جاين تعرف شيئًا عن التمرد، لكن الآن ربما كانت تدرك بمأساة أن حياتها تعتمد على نتائجه، فقد حسم فشله التمرد مصيرها، على الرغم من أن ماري كانت حتى بعد كل ما حدث، “تفكر في العفو عنها”، لكن إصرار مستشاريها لم يترك أمامها خيار سوى إصدار الأمر بإعدام جاين، قد يكون القرار قد تم اتخاذه في وقت متأخر من 7 فبراير، وبالتالي تم بالفعل تسوية الإجراءات الشكلية، واستعدت جاين لنهايتها بشجاعة، وبدأت في كتابة وداعها الأخير لعائلتها.
ربما قررت ماري ضرورة التخلص من جاين، لكنها كانت لا تزال قلقة بشأن الشؤون الروحية لابنة عمهتا، لذلك في 8 فبراير، كلفت الملكة القسيس الدكتور جون فيكنهام، بتحويل جاين إلى الكاثوليكية، ومن المؤكد أنه حاول بكل قوته، حتى أنه تمكن من تأخير إعدام جاين لمدة ثلاثة أيام لإكمال مهمته.
أشار العديد من المؤرخين المعاصرين لاحقًا إلى لقاء القسيس مع جاين، وأشهرهم جون فوكس، المختص بتاريخ القديسين وشهداء الكنيسة، أشار إلى اللقاء بأنه بعد فشل القس في كسر عزيمة جاين، وإدراكه أنه لن يصل إلى أي نتيجة، غادر قائلًا لها بأسف: “أنا متأكد أننا لن نلتقي أبدًا”.
فردت عليه جاين: “هذا صحيح أننا لن نلتقي أبدًا، ما لم يشفي الله قلبك؛ فأنا واثقة أنه ما لم تتب إلى الله، فأنت في إثم عظيم”.
جثة هامدة
في صباح يوم 12 فبراير، قامت جاين جراي بالصعود على سقالة تم إعدادها خصيصًا داخل حدود برج لندن، قبل ذلك بفترة وجيزة، كانت قد شاهدت جثة زوجها وقد أعيدت إلى البرج على عربة بعد إعدامه، ثم واجهت جاين الموت بشجاعة من دون انزعاج من هذا المشهد الرهيب، وألقت خطابًا قصيرًا حثت فيه الحاضرين على الصلاة من أجلها، وبعد أن كانت معصوبة العينين ركعت على ركبتيها.
ثم هجرها الهدوء للحظة، حيث ضلت الطريق إلى موضعها الأخير، وصرخت في ذعر “ماذا أفعل؟ أين هي؟”، حتى استعادت رباطة جأشها وتم توجيه يديها إلى عامود السقالة، وبعد لحظات سقطت الفأس وقطعت رأسها بضربة واحدة.
جعلها الإعدام شهيدة في نظر البروتستانت في إنجلترا وعبر أوروبا أيضًا، لكن نهايتها مرت تقريبًا دون أن يلاحظها أحد، ولم يبدأ العالم في تذكر جاين إلا في القرون اللاحقة، كواحدة من أكثر ضحايا التاريخ مأساوية، فقد كانت جاين ضحية الظروف وقرابتها للعائلة الملكية.
ماري بالتأكيد لم تكن ترغب في إعدام جاين، وفعلت كل ما في وسعها لمنع ذلك ولكن منذ لحظة خلع “الملكة ذات الأيام التسعة” في يوليو 1553، ألقى الموت بظلاله الطويلة عليها، وجعلت تصرفات والدها الأمر واقعًا قاسيًا، بالنسبة لجاين، كان الدم الملكي الذي تقاسمته مع ابنة خالها، بمثابة ميراث قاتل، وأُجبرت على دفع أعلى ثمن من أجل ذلك.
-يتم الإشارة مجازا للملك هنري الثامن على أنه خال جاين جراي، فيما أنه خال والدتها.