مناقشة حول الحرب في غزة وحرية التعبير ومستقبل حل الدولتين (مترجم)
في هذا الحوار، يناقش كل من “برونو ماسيس- Bruno Macaes”، من مجلة “نيو ستيتسمان -New Statesman”، والكاتب والصحفي الإسرائيلي “جدعون ليفي- Gideon LEVY” ما ينبغي فعله لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وإحلال السلام في المنطقة.
على مدار حياته المهنية، شهد جدعون ليفي، البالغ من العمر الآن واحد وسبعين عامًا، كثيرًا من محاولات تحقيق السلام، منذ أن كان مساعدًا ومتحدثًا باسم “شيمون بيريز- Shimon Peres”، ثم زعيمًا لحزب “العمل” الإسرائيلي، ثم مراسلًا وكاتبًا لصحيفة “هآرتس- Haaretz” الإسرائيلية الرائدة. ولكن، كما سيبين عبر السطور التالية، لم يكن من الممكن لأي من تلك المحاولات أن تنجح؛ لأن أحدًا لم يكن ملتزمًا حقيقةً بحل الدولتين.
🔹برونو ماسيس: إذا ما نظرنا إلى إسرائيل، سواء على مستوى الحكومة أو المجتمع، ما الشعور السائد الآن؟ هل الرغبة في الانتقام، أم الغضب، أم شيء آخر؟
– جدعون ليفي: في محيط أصدقائي وأقاربي، فعلت أحداث السابع من أكتوبر أمرين، من ناحية، كانت تلك الأحداث بمنزلة صدمة وإذلال للإسرائيليين لدرجة أنهم شعروا أن عليهم فعل أي شيء ممكن ردًا عليها. لقد كانت تلك الأحداث مدمرة لهم بلا شك، لكن ما يحدث في غزة الآن لهو أكثر تدميرًا. لقد كانت إسرائيل في حالة صدمة، لكنني أعتقد أنه استُغلت أحداث السابع من أكتوبر كذريعة لإضفاء شرعية على أشكال الأفكار المظلمة والمحرَّمة كافة، وهو ما استغله التيار اليميني في إسرائيل، هذا هو ما نواجهه الآن.
🔹ماسيس: هل ترى أنه اتُخِذَ منعطف خاطئ ما في الماضي، وأنه كان من الممكن حل الصراع لو اتُخِذَت خيارات أخرى؟ لقد قرأتُ بعضًا من أعمال المفكر “يشعياهو ليبوفيتش- Yeshayahu Leibowitz”، وهو يرى دائمًا أن الأسابيع التي تلت حرب الأيام الستة عام 1967 كانت بمنزلة الفترة الحاسمة؛ إذ كان من الممكن اتخاذ خيار مختلف يتمثَّل في الانسحاب الأحادي من الأراضي المحتلة. إذا عدت أنت للماضي، إلى حيث اللحظة الحاسمة، فما هذه اللحظة من وجهة نظرك؟
– ليفي: على مدار سنوات كثيرة كنت أتفق مع ليبوفيتش في رأيه، لكن هذا لم يعد قائمًا الآن. لقد كانت “النكبة” -وهي الكلمة العربية التي يستخدمها الفلسطينيون للإشارة إلى نزوحهم عام 1948 ، والتي بلغت ذروتها بتأسيس دولة إسرائيل- هي اللحظة الحاسمة الحقيقية، حين جاء مجموعة من الناس إلى أرض مأهولة بالسكان واستولوا عليها. لقد كان عام 1948 هو جوهر كل شيء.
المشكلة هي أنه منذ عام 1948، لم تغير إسرائيل سياستها وسلوكها تجاه الفلسطينيين أبدًا. فما حدث في 1948 هو ما يحدث الآن يوميًا. غزة جزء من عام 1948، ولهذا فإن أي حل لا يتضمن شكل المساءلة عما جرى في 1948، وكذلك شكل التعويض -ليس فقط ماليًا- لن يكون حلًا عادلًا. هكذا يرى الفلسطينيون الأمر، ولا يمكنهم الاكتراث بهذه الصلة بين اليهود وأرض إسرائيل المستندة إلى أساطير الكتاب المقدس. الحقيقة أنه، وعلى مدار مئات السنين، لم يأت اليهود إلى هنا؛ ومن ثم إذا لم نلمس جوهر الجرح، فلن نداويه أبدًا. وهذا هو جوهر الجرح.
🔹ماسيس: هل كانت هناك يومًا ما أي حكومة ورئيس وزراء لإسرائيل يؤمنون حقًا بحل الدولتين؟ من الجلي تمامًا أن كثيرًا منهم لم يؤمن بذلك، ولكن هل مرت لحظة ما كان هناك جهد حقيقي، وليس مجرد جهد دعائي أو أفعال تستهدف الجمهور الأجنبي، في إسرائيل تجاه هذا الحل؟
– ليفي: أبدًا. حتى هؤلاء الذين حاولوا “إحلال السلام”، مثل رؤساء الوزراء السابقين “إسحاق رابين – Yitzhak Rabin” و “شيمون بيريز- Shimon Peres” و ” إيهود باراك-Ehud Barak” و “إيهود أولمرت – Ehud Olmert”. أنا لا أستهين بمحاولاتهم، وأنا نفسي وقعت في فخ “الاعتقاد بعملية السلام تحت مظلة اتفاقيات أوسلو” مثل كثيرين آخرين. لقد كنت أعتقد فعلًا أن هذه يمكن أن تكون البداية للتغيير، لكنها لم تكن كذلك. لقد كانت خدعة.
ولكن دعونا نضع اتفاقيات أوسلو جانبًا. لم يكن أي منهم يؤمن بحل الدولتين، أي إقامة دولتين متساويتين. وحتى الحديث عن إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ووضع القوات الإسرائيلية عند نهر الأردن كان كفيلًا بوضع علامة استفهام على عملية السلام. أي نوع من الدولة ستكون “فلسطين”؟ وما المقصود ب”دولة منزوعة السلاح”؟ كان من الممكن أن أفهم الأمر لو أن كلتا الدولتين -إسرائيل وفلسطين- ستصبحان منزوعتي السلاح، لكن أن يكون أحد الجانبين منزوع السلاح غير قادر على حماية نفسه، بينما الجانب الآخر لديه كل أسلحة العالم؟ أي حل هذا؟ وهكذا لم يتحقق حل الدولتين قط. والآن، مع وجود سبعمائة ألف مستوطن، مات هذا الحل تمامًا، ولم يعد يمكن حقًا إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة، لم يعد من سبيل لذلك.
🔹ماسيس: ما المستقبل في رأيك؟ لو أنك في موقع المسؤولية، ماذا كنت ستحاول فعله؟ هل تعتقد أن حل الدولة الواحدة أكثر منطقية من حل الدولتين مع المساواة بين اليهود الإسرائيليين والعرب، وأن يصبح جميع الفلسطينيين مواطنين متساوين؟ هذا أيضًا يبدو غير مرجح.
– ليفي: غير مرجح للغاية، لكنه على الأقل يمثل حلًا لجميع المشكلات، بما في ذلك “حق العودة” للفلسطينيين. إنه حل بعيد، لكنه على الأقل يحمل رؤية. بينما في “حل الدولتين” لا توجد رؤية على الإطلاق؛ لأن في إطار هذا الحل لن تكون فلسطين دولة حقيقية قابلة للوجود. ولهذا أعتقد أن الاستمرار في الحديث عن حل الدولتين مثلما يفعل تسعون بالمائة من العالم -من السلطة الفلسطينية إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية إلى البعض داخل الحكومة الإسرائيلية- وهو الحل غير القابل للتحقق، إنما هو مجرد تلاعب من قِبَل الاحتلال؛ فإسرائيل لم تفعل أي شيء للدفع قدمًا بهذه الفكرة، ولهذا حينما تتحدث عن حل الدولة الواحدة يصبح بإمكانك أن تجد رؤية. كذلك لا ينبغي علينا الحكم على حل الدولة الواحدة في ضوء الظروف الراهنة. صحيح أنه وفقًا للواقع الحالي، من المستحيل على اليهود والفلسطينيين أن يحيوا سويًا، لكن الفكرة تكمن في تغيير هذا الواقع، وإلا فإن البديل عن حل الدولة الواحدة هو استمرار دولة الفصل العنصري. لا يوجد حل ثالث، وعلينا أن نقرر، أو نستسلم للأمر الواقع.
🔹ماسيس: ما رؤيتك بخصوص حل الدولة الواحدة؟ هل هي دولة فيدرالية؟ هل هي دولة محايدة وعلمانية وليست يهودية؟ ما توصيفك لشكل هذه الدولة؟
– ليفي: إذا كنا نتحدث عن الرؤية، فيجب أن تكون رؤية شاملة، أن يكون جميع الأشخاص في هذه الدولة على قدم المساواة، في التصويت الانتخابي وكل شيء، كما هو الحال في أي دولة ديمقراطية. لو أنك بدأت إنشاء الدولة كدولة فيدرالية مكونة من اتحادات، فإنك تخلق توترًا مرة أخرى. فعلى سبيل المثال، هل سيكون للاتحاد الفلسطيني جيش؟ لا، وبهذا فإنهم لن يكونوا على قدم المساواة مع الاتحاد اليهودي. ماذا تفعل إذًا؟ أعلم أن الأمر معقد للغاية، لكنني على الأقل أرى شيئًا ما يلوح في الأفق [من خلال حل الدولة الواحدة]. لقد شهد التاريخ، كما نعلم جميعًا، في مرات كثيرة، تحقق ما لم يكن يمكن تصور تحققه أبدًا.
🔹ماسيس: ولكن، لنكن واضحين، إن حل الدولة الواحدة لا يمكن أن يكون دولة يهودية.
– ليفي: ليست يهودية وليست صهيونية. من الواضح أن هذه هي نهاية الدولة اليهودية. لا يمكن لأحد الحصول على كل شيء، لا يمكنك إقامة دولة يهودية بنصف تعداد سكانها فقط. لا يمكنك إقامة دولة يهودية بينما نصف سكانك ليسوا من اليهود، بل فلسطينيين. إننا نحيا في دولة واحدة منذ خمسة وخمسين عامًا الآن. الأمر كله يتعلق بنظام الحكم، وهو ليس ديموقراطيًا. إنها ليست دولة ديموقراطية، بل هي دولة فصل عنصري، ولهذا فإن كل ما تحتاج إليه هو تغيير هذا النظام.
أما هؤلاء الذين أرادوا دولة يهودية صهيونية، فقد فات أوان ذلك. إذا كنتم تريدون دولة يهودية، فقد كان عليكم أن تنسحبوا من الأراضي المحتلة منذ زمن طويل، لكنكم لم تفعلوا.
أنا لا أكترث بالدولة اليهودية، أريد أن أحيا في دولة ديموقراطية.
🔹ماسيس: سؤال أخير في هذا الصدد؛ كيف يمكننا الانتقال من الوضع الذي نحن فيه الآن -حيث الأصوات في غزة غير مسموعة في إسرائيل، وحقوق الناس في غزة لا تؤخذ بعين الاعتبار، حيث لا يوجد إلا قليل جدًا من الناس من يهتمون حقًا بالمعاناة الدائرة هناك- إلى دولة ذات حقوق متساوية؟ هل يجب أن تمر إسرائيل بنوع من الهزيمة حتى يتحقق ذلك؟ هل يتعين سحب الدعم الدولي لها؟ يبدو أن الأمر يتطلب نوعًا من الصدمة للانتقال من النقطة أ إلى النقطة ب.
– ليفي: دعني أصحح لك أولًا، الأمر ليس أن الإسرائيليين لا يكترثون لما يحدث في غزة، بل هم لايعرفون شيئًا عن غزة. هم لا يعرفون أي شيء. حين تقوم بتشغيل التلفاز على الأخبار، التي صارت تذاع على مدار الساعة طوال سبعة أيام في الأسبوع، تجدها جميعًا تتحدث عن الحرب، لكنك لن تر مقطعًا واحدًا من غزة. لا شيء البتة. وهذا ليس مفروضًا على الإعلام من أي شخص، بل هو اختيارهم المحض؛ لأنهم يعرفون جيدًا أن المشاهدين والقرَّاء لايرغبون في رؤية ما يجري. إنه أمر لا يصدق، لقد كنا نضحك دومًا من تغطية روسيا للحرب مع أوكرانيا. لكن الأمر أسوأ بكثير هنا، فالرقابة في روسيا تأتي من الحكومة، أما هنا فالأمر تجاري وطوعي تمامًا.
مما لا شك فيه أننا لا بد وأن نصل إلى نقطة يدرك فيها الإسرائيليون أن الوضع الحالي بات مستحيلًا، وأنهم سيضطرون إلى دفع ثمن باهظ للغاية من أجل الإبقاء على الوضع الراهن، وهذا الأمر سيجعلهم في حاجة إلى التغيير. قد يتمكَّن الإسرائيليون من التعايش مع هذا الوضع في الوقت الحالي، فالوضع ليس جحيميًا بالنسبة إلى معظم الإسرائيليين والحياة جيدة*. لا أقصد الاستخفاف بالوضع الحالي، فالظروف ليست عادية حتى في تل أبيب، لكن الأمر لم يصل لمرحلة أن يقول الإسرائيليون “لا نستطيع تحمل المزيد”.
لذا، يجب أولًا أن يصل الأمر إلى النقطة التي يصبح فيها الوضع الراهن “غير محتمل”. وفوق كل هذا، لن يتغير شيء بدون المجتمع الدولي. ليس بالكلمات والإدانات، بل بتحركات حقيقية وأفعال. ربما يأتي يوم يقول فيه العالم “كفى”، وأن يترجم هذا في صورة أفعال، وليس في صورة قرار آخر من قرارات الأمم المتحدة- تلك التي تجيد إسرائيل تجاهلها.
🔹ماسيس: دعني أسألك عن البيئة الدولية، فقد تحدثتَ عن التغيرات التي طرأت على إسرائيل على مدار الخمس عشرة سنة الماضية. يبدو أن هناك تقاربًا حدث بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبعض وجهات النظر الإسرائيلية المتطرفة، وخاصة الولايات المتحدة. أنت تذكر أنه خلال حرب لبنان عام 1982، اتصل الرئيس الأمريكي “رونالد ريجان- Ronald Reagan” برئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحم بيجن-Menachem Begin” وأبلغه بضرورة إيقاف الحرب، واصفًا ما تفعله إسرائيل بال”هولوكوست” أي محرقة. أما الآن، فلا مكالمات هاتفية مماثلة. وفي أوروبا، حيث كانت القضية الفلسطينية تحظى بشعبية حين كنتُ أصغر سنًا، أصبح الآن من الصعب التحدث عنها. لقد صار الأمر خطيرًا بحق في بعض الدول، ففي ألمانيا إذا خرجت في احتجاج رافعًا العلم الفلسطيني قد تأتي الشرطة إلى منزلك. فما انطباعك إذًا؟ هل تشعر السلطات الإسرائيلية والحكومة بدعم غير مشروط حاليًا؟
– ليفي: الجيل القادم هو الأمل الوحيد، فقد ضاع الجيل الحالي. لقد صارت مشكلة حرية التعبير مشكلة داخلية تعاني منها أوروبا، إذ لم يعد بإمكانك التعبير عن نفسك، وهو ما يعد انتصارًا كبيرًا للدعاية الإسرائيلية. لقد نجحوا حقًا في وصف أي انتقاد لإسرائيل بأنه “معاداة للسامية”، وهو ما أفضى إلى شلل أوروبا. لقد جاء رئيسا وزراء إسبانيا وبلجيكا إلى إسرائيل في بداية الحرب، وبالطبع اصطحبهما المسؤولون هنا لتفَقُّد المنازل المحترقة منذ السابع من أكتوبر، ثم ذهبا بعدها لإلقاء نظرة على غزة من بعيد، وقالا: “هذا أيضًا أمر فظيع”، فما كان إلا أن صُنِّفَا على أنهما “معاديان للسامية”، فقط لأنهما جرؤا على قول أن ما يحدث في غزة أمر فظيع هو الآخر.
أما الجيل الأصغر سنًا، فإنك ترى حِراكهم، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا الجيل الشاب سيصبح بمنزلة المؤسسة الحاكمة في غضون عشرة أو خمسة عشر عامًا. ووفقا لاستطلاعات الرأي، فإن هذا الجيل يحمل المشاعر والمواقف الأكثر تطرفًا تجاه إسرائيل، بما في ذلك أنهم يفضلون حماس على إسرائيل- ليس الفلسطينيين، بل حماس نفسها.
وبناء عليه، أينما نظرنا سنجد عقبات هائلة، ومع ذلك لا يمكن العيش مع شعور أن كل شيء ضاع، وإلا فلينته كل شيء إذًا. أرى أن شيئًا ما سيحدث أخيرًا ويغير هذا الوضع. فكما ترى، كل بضع سنوات، يضج الغرب مللًا من هذا الصراع، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه مرة تلو أخرى، في دائرة لن نتمكن من الهروب منها. ولكن في النهاية سوف نصل إلى نقطة لن يكون أمامنا خيار فيها سوى السعي إلى حل حقيقي، لكننا بعيدون عن ذلك في الوقت الراهن.
* تم نشر هذا الحوار في يناير من العام الجاري، أي قبل تصاعد المزيد من الأحداث.