مقاربات شيطانية

بين “فاوستوس” مارلو وجوته و “ونوس” عبدالرحيم كمال كانت السنة الأولى لدراستى الأدب الإنجليزي، و أولى الأزمات النفسية الحادة التي وقعت فى براثنها من جراء التأثر بهاملت وماكبيث شكسبير التي تملكت كل ذرات عقلى ومحاولة استلهام روح فاوستوس لكريستوفر مارلو

مع قراءة الثلاثة نصوص ؛ تشتد الأزمة لتصل إلى أولى المراحل المرضية ؛ لا أدري كيف خرجت من تلك الأزمة، بل وكيف اقحمت نفسى فى جحيمها، هل كانت مجرد قوة النصوص ، شدة التأثر بالدراسة للأدب الإنجليزي، وتلك الغلالة الأسطورية التى أحاطت بشكسبير وغريمه مارلو ؛ وعلى ضفاف الهدوء والركون إلى شاطئ منتصف العمر بعد تسرب تلك الانفعالات الأولى من شبابي الأول المراهق ، لتعاد ذكريات كنت أوشكت على نسيانها مع ونوس  للأديب عبد الرحيم كمال ومع أولى الكلمات الحواريه أقع فى أسر العمل بكليتي ..لتعود الذكريات..

من هو فاوستوس ؟

فاوستوس ( فاوست ) ، شخصية حقيقية ولد فى  القرن 15 لتصفه الرسائل التاريخية بالهرطقة والسحر والتهجم على الكتاب المقدس ، وقدراته السحريه التى طافت شهرتها أقطار أوروبا ، وأسفرت عن حملات مطاردة شرسه مبتغاها القبض عليه حيا أو ميتا بأمر البابا ؛ ليطوف فاوستوس -هاربا- شوارع أوروبا المخيفة بصحبة كلبه الأسود حتى يموت شريدا مطاردا عام 1513 ، تاركا من الجلبه والشهرة والعار ما يكفى لصناعة أسطورة اسمها (فاوستوس بالاتينية او فاوست بالإنجليزية)

يتلقف الأديب والمسرحي الشاب كريستوفر مارلو خريج اكسفورد الذى لم يمهله القدر في الحياة طويلا؛ وغريم شكسبير بسيط التعليم والنشأة،
ويكتب مسرحيته الخالدة دكتور فاوستوس أو فاوست عام 1588 لتطبع وتشخص على مسارح إنجلترا عام 1604

مسرحية فاوستوس لـ كريستوفر مارلو

تبدأ بمشهد جون فاوستوس الأستاذ المتضلع للمعارف والعلوم ، لينتهي به المقام بالحصول على أستاذية مقعد العلوم اللاهوتية بجامعة وتنبرج ؛ يتملكه الملل و السأم والضجر من حياته الأكاديمية ، وإعادة دروس المنطق والرياضيات و اللاهوت والعلوم الطبية الموروثة على مسامع تلامذته ، لا يخرج فاوستوس من حالته تلك سوى مطالعة كتب السحر ، واجتراح الخوارق وقهر قوانين الطبيعة

إعلان

يغوص فاوستوس بكليته في ذلك أملا في الحصول على القوة والقدرة والثراء والشهرة ؛ ليظهر شخصان من الغيب ممثل السماء المحذر من ذلك ، و ممثل العالم السفلي مفستوفيليس الذراع اليمني للوسيفر ( إبليس) ، يتبارى الملاك والشيطان فى إقناع فاوستوس هذا يمنيه بالآخرة والنعيم المقيم ، وهذا يمنيه بعاجلته وبريق الثروة والقوة والسلطه والشهوة ؛ لينحاز فاوستوس لعاجلته ولشيطانه ؛ حينئذ تهتز خشبة المسرح وتتركز الأضواء على فاوستوس ، وتسود سحابات الدخان كنذير مأساة لن تنفك عن التكرار والتجسد ليقرأ مفستوفيليس العقد

( سأكون عبدا لك ، أقول سمعا وطاعة لكل رغباتك ، أكون طوع بنانك مقابل توقيعك عقدا بمقتضاه تبيع روحك للشيطان ، لتنال ما تطمح إليه من ثروة وسلطة. )

فاوستوس و مواكب الخطايا

ليوقع فاوستوس بدمه العقد نظير أربعة و عشرين عاما ، يظنها طويلة ليتمتع فيها بما يشتهى بمرافقة عشيقات أمثال هيلين طرواده ، ولتطوف سمعته كل أنحاء أوروبا بخوارقه وقدراته وثروته حتى يصل للبلاط الإمبراطوري  الألماني ، ولتوشك السنوات الأربع والعشرون على الانتهاء ؛ لتدور أفكار التوبة فى عقل فاوستوس ، ليلهيه الشيطان بمواكب الخطايا السبع الغرور..الجشع..الغضب..الحسد..الشره..التراخى..الفسوق.

ومن مواكب الخطيئة إلى رحلات وعشيقات وشهوات مفيستوفليس لتحين اللحظه الأخيرة، ليتذكر فاوستوس هذا الوشم الذى طبع على ذراعه بالاتينية فور توقيعه العقد ( هو مو ..فلي ) ( أنج بنفسك يا إنسان ) وأنى يفيد التذكر ؟ ليحاور فاوستوس نفسه بالمنولوج الذى تميز به مسرح كريستوفر مارلو ( ليتنى كنت قطرة فى لجة متلاطمة لتغيب فى أعماقه البعيدة ) ؛ لكن هيهات لتدق الساعة معلنة انتصاف الليل ولتفتح أبواب الجحيم وتبتلع العوالم السفلية فاوستوس ليستقر فى قاع جهنم.

فاوستوس بين نص مارلوا و نص جوته

ومع توحد ألمانيا فى بدايات القرن الثامن عشر ، تسيطر فكرة إيجاد أدب ألماني يوحد الأمه الألمانية الناشئة، ويجسد طموحاتها السياسية والإجتماعية للتتنازع الفكرتان في الفضاء الألماني فكرة تقليد الكلاسيكية الأدبية الفرنسية، وأخرى تنحاز للكلاسيكية الأدبية الإنجليزية، وخاصة الشكسبيرية ، ويمثلها ليسنج أستاذ الأديب و الفيلسوف الألماني جيته (جوته )

يكتب ليسنج عن فاوستوس مستلهما رائعة مارلو ، وبعد عشرين عاما يكتب جوته فى ذات الموضوع فاوستوس ، لتحل روح التفاؤل محل سوداوية مارلو وينتصر فاوستوس فى النهاية بهذا الوعد الإلهى المستهل به النص الجوتى ( إن انتصار الشياطين ما هو إلا وهم ) ؛ ليتفوق نص مارلوا الإنجليزي فى التكنيك المسرحي ، والآدواتي و الإبداعي ولينحاز نص جوته لقيم الإنسانية

يستغرق جوته فى الجانب الفلسفي ، ليهدر بذلك الإحترافية المسرحية والدراميه التي تملكها الأديب كريستوفر مارلو ، ليعبر عن تلك الروح التشاؤمية التي تسود الأمم فى قمة تحضرها بعكس جوته الفيلسوف أصلا ، المجسد لروح التفاؤل السائدة في بداية نشأة الإمبراطورية الألمانية ؛ وليجمع الأديب عبد الرحيم كمال بين الفكرتين بدون ذبح الدراما على مذبح الفلسفة كما فعل جوته ، وبدون إهدار قيم التفاؤل و الانتصار للإنسانية كما فعل مارلو ، وليتوج هذا الصراع المستمر والدائم بين الإنسان و إبليس بين قيم الروح و المسرة والخير والمحبة ، وقيم الجسد والقوة والشهوة والحسد..
بعد سيطرة ونوس../ لوسيفر ../مفيستوفيليس ينتصر ..ياقوت/ فاوستوس ../فاوست ..

ونوس ليست نسخة من فاوستوس

تتحول مواكب مفيستوفيليس / لملاهي ونوس ، ويتحول الصراع من مونولوج نفسى ؛ فاوستوس الباحث عن المجد الدنيوي ثم الراغب فى التوبه بعد ضياع الفرصه ، والاندحار عند مارلو ، الانتصار عند جوته ، إلى صراع جماعي رائق رائع بين ياقوت وأسرته من جهة، وونوس وأعوانه من جهة، لنقع فى حبائل الإثارة والمتعة ومن ثم التطهر، فى كل أحداث ونوس، والتشويق من جراء المسكوت عنه المتدرج فى الظهور ؛ وبين البوح من أول لحظه عند كلاسكيات مارلو/ وجوته

ونوس ليست نسخة من فاوستوس مارلو / جوته ؛ بل  عمل موازي مختلف تماما فى قيمه وتكنيكه و أداءه وأدواته، استغرق عبدالرحيم كمال ( مع حفظ الألقاب ) فى قيم التصوف ؛ وأن المحبة منجية، محبة ياقوت، ورجاءه في الله الذي لم يوقعه في شرك التوقيع لونوس، والتصارع على أسرة ياقوت؛ ومحبة ياقوت لأسرته؛ ليبدو انتصار ونوس كاسحا في البداية في إثارة رغبات فاروق والتصدر /وعزيز  والثروة /ونرمين والمعرفة الخارقة/ ودنيا والشهوة / ونبيل وخليط من كل تلك الرغبات، بل و انشراح الأم والوقوع فى حبائل عشق ونوس

عبدالرحيم كمال و يحيى الفخراني

وزع عبدالرحيم كمال شخصية فاوستوس على كل تلك الشخصيات وخص كل واحدة برغبه، حتى لا يقع في إشكالية الرمز الفلسفي الذي وقع فيها جوته بكليته، وإلى حد أقل مارلو على حساب الإحترافية الدرامية، ونوس بكل قوته وسيطرتة وقدراته الخارقة وياقوت المريض ،الضعيف، المفلس ، الهارب من عهد قطعة ، المتطلع إلى التوبة ورحمة ربه ، ليقع حتى قصبي الدرويش فى حبائل ونوس هو الآخر ويطرد ياقوت من حاضنته

هنا يظهر عامل العقل الإنسانى تلك النفخة الإلهية والنفحة الربانية، وليتضافر عامل( الحيلة )رمز (المعرفه)  الآدمية التى ميزت آدم الطينى عن إبليس الناري، ولينجح ياقوت فى النهاية برد أسرته إلى صوابها ، و تنفذ إرادته بعدم توقيعة لونوس ‘لتتدخل الرحمة الإلهية بموت ياقوت على أعتاب منزل أسرته ، وتخفت الأضواء بمنولوج ونوس ..( أنا أفضل منه ، هو من الطين، وأنا من النار ، أنا الأول، أنا المتعلم، أنا الذكى، أنا الزاهد ،أنا إللي عرفتك الأول ، أخطأت خطأ واحدا وهو خطاء لماذا كل هذا التدليل لهذا الكائن الخائب الذى لا يتعلم من أخطائه  ) .

أخيراً

تلك الدراما المجدولة بإتقان لا يقدر عليه سوى كاتب مجيد ، لا، ليس مجرد كاتب سيناريو مبدع ، ولكنه أديب يمتلك كل أدوات الكتابة الروائية التي ظهرت في أعمال أدبية صرفة كروايته العلامة “بوابة الحانة”( إصدار 2016 دار دون ..)

هذا المشروع الدرامي الضخم الذي بدأ ب”شيخ العرب همام”، و تمدد بعمله الدرامي” محمد علي باشا” المجهض بسطوة البترودولار الوهابي ، ثم بتحوله نحو تمصير الدراما العالمية في ” دهشة” عن “الملك لير” ثم خلق دراما موازية تحمل فلسفته الخاصة ، الموازية لرائعة “فاوست” وهي كما ألمحنا نتاج إنساني مشترك ، أدلى فيه كاتبنا الرائع بدلوه باقتدار ، هذا المشروع قائم على محورين” عبدالرحيم كمال” ككاتب و “يحيى الفخراني” كممثل، السؤال المقلق هو كيفية حتمية استمرار تلك الثنائية المتناغمة في زمن انهزمت فيه كل الحتميات؟!، على أية حال لا داعي للتحدث عما لم يحدث، وفي انتظار عمل عبد الرحيم كمال ويحيى الفخراني القادم ، و كلي رجاء في إكمال هذا المشروع ، والاستمتاع بعمل درامي جديد .

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك

فيلم أبديه ويوم .. أوديسه يونانية عن الموت و الزمن

فيلم Arrival دلالة اللغه لمفهوم الزمن

فيلم V for Vendetta : عندما يتحول العمل الفنى إلى أيقونة ثورية خالدة

 

إعلان

اترك تعليقا