مسلسل ريڤو: حنينٌ يركض زحفًا للوراء وحكاية بسيطة
هنا ستثبت نظرتك تمامًا على شيء.. ربما قطعة ملابس أو ربما صوتًا في أغنية أو ضربة وترٍ في بحر من العزف وربما كورال يهدر في الخلفية كجدول ماء عذب، أو جميعهم مجتمعين! حينها تنتابك قشعريرة خفية، قائلًا: لو أن في استطاعتنا العودة للوراء قليلًا.
دُفْقة من المشاعر
يُقال دومًا إذا أردت أن تكتب جيدًا عن أمر ما، تجاوزه أولًا، امنح نفسك بعض الوقت، حينها يمكن أن ترى الصورة أوضح. الآن، أتخلى عمدًا عن كل ذلك، في هذه الساعة من فجر هذا اليوم، وحيث شاهدت منذ يومين كل حلقات مسلسل ريڤو، كلها في جلسة واحدة إلا الأخيرة، خشيت إن شاهدتها أن تنفد من يدي هذه المتعة وهذه الحالة المركبة والشجية، والعذبة وأن يتفلت من يدي هذا الحنين المباغت رغم كل شيء، مثل سريان الدماء في العروق، ورغم حذري المسبق من كونه عملًا سيجتره لا محالة، حتى غلبني الفضول فاستكمله، ولو أن النهاية بدت مخيبة نوعًا، إلا أنها تركتني مشحونًا تمامًا بكل المشاعر التي عرفها البشر، والتي ربما لم يعرفاها، التي أختبرها لأول مرة، والتي اعتدت ضرباتها في كل لحظات الفقد.
هُنا تتذكر كل الأحبة، كل السنوات التي نسيناها في لحظات تطلعنا نحو الشباب أننا نفوت أجمل ما في العمر وأحن ما فيه، لم نعرف وقتها -أو ربما كُنا نعرف- تبعات هذا الجنوح المستعر والمتلهف نحو البلوغ والشباب طامحين أن نفارق طفولتنا الهشة، متشبثين بعالم الكبار، لأننا نراهم أنضج وأجمل ونرى أنفسنا فيهم، حيث لا يفصلنا عن أول أمنياتنا سوى، بضع سنوات فحسبُ، علينا عبورها، ليتخفف كل منا من حمله الطفولي، وليصبح ما رآه من الكبار، الأحباء، المثيرين للإعجاب دومًا. أو كهذا يقول لسان حال المشاهد!
في محاولة أولى لمخرج الإعلانات يحيى إسماعيل، والمحاولة الأنضج والأبرز في تاريخ السيناريست محمد ناير. تقدم منصة IT WATCH عملها الثاني المختلف، مسلسل ريڤو المكون من عشرة حلقات، يحكي قصة صعود فرقة موسيقية بطريقة عفوية، سمي “ريڤو”. فيما تدور الأحداث بشكل تشويقي حول صناعة فيلم عن فرقة التسعينيات الموسيقية. اسم العمل هنا لا يخلو من طابع دلالي يرتبط شعوريًا بالجميع. كما اعتمد المخرج في تقديمه لثيمة الماضي التسعيناتي على مزيج وتوليفة معتبرة من الموسيقى والبوسترات والصور التي اشتهرت وقتها.
حنينٌ يُطل برأسه عبر شاشة
قد يراودك بصفتك مشاهد محتمل، لم تكن في التسعينيات سوى طفل رأى في نفسه نجمه المفضل، وبطل مسلسل السهرة الوحيد مع بداية عصر التلفزة، وقبل أن يباغتنا هذا التدفق المحموم للصور في عصرنا الحالي، فيض من مشاعر قد لا تستطيع تنحيتها أو حتى تحييدها. هو الحنين الذي يجترنا حتمًا للوراء، لمجرد أن استعادته أمست مستحيلة، وهي الثيمة الدرامية التي تربح دومًا حيث تكون حكاية في إطار من الماضي، تستدعيه؛ فتداعب بلطف تلك الروح المسكينة التي عذبها الواقع بقسوته ومباشرته، الواقع الذي قد يستحيل يومًا إلى ماضٍ ينازع واقع مغاير، مستقبلي، بحنين ما! هُنا، نوستالجيا تناوش الكل، بجمالها الفتان رغم أن فضائها لم يكن كذلك كليةً، إلا أن استدعاءه من منظور الواقع المختلف بطبيعة الحال، يضفي عليه بريقًا يلفت الأفئدة رغمًا عنها. وهو ما يتجلى بمنتهى البساطة، حيث الأبطال داخل العمل يستشعرون ذات الحنين لشبابهم الآفل وحكايتهم التي لم تنتهي بعدُ.
واعتمادًا على بعض حيل العقل في النسيان، حيث تخفُت كل الذكريات السيئة وتبقى المقابلة لها، أي الجميلة فحسبُ، حيلة يطلقها العقل للتعايش والاستمرار، وتجاوز الألم. تراوغ الحبكة مرة باستدعاء قصة (كايروكي) نفسها، وربما قصة الشخصية الأقل من حيث الأداء التمثيلي (أمير عيد) أو تستدعي من طرف خفي، بشيء من التناص الحياتي أو الدرامي قصة والدته التي أصابها الزهايمر، هو ما يعطي القصة طابع ضيق في الرؤية وفي إطار أشخاص واقعيين بامتياز، لكنه يدفع إلى شيء من تصديقها في جانب آخر، بل وإحياء ذكرى أناس حقيقيين بتخليد ذكراهم على الدوام. على كل حال، التلصص لا يُفيد!
هُنا، تحضر الرغبة في تجاوز الواقع، أو مثل أحد كلمات الأغنية الماستر بالمسلسل “أنا نجم”، بالتعارك مع الماضي، ولعله عراك لا يستند على كره حقيقي ومباشر للواقع قيد الجريان ومحاولة الهروب، ربما العكس، وبمسحة صوفية، ربما الكره الشديد في بعض الأحيان يعني الإعجاب الشديد! وهي اللحظة التي لا تملك فيها النفس سوى التماهي مع فكرة الحنين، لا الأحداث بذاتها، لا الشخوص، لحساب المشاعر التي تغلف كل شيء بطابع جمالي خام وببراءة تامة. ما يعني عدم التجاوز من البداية، محاولة تدرك فيها النفس عجزها وبؤسها مُقدمًا، فتدرك أن العيش في الماضي محكوم باستحالة منطقية، تمامًا مثل إنكاره كليةً.
أبطال الحكاية/ أبطال الواقع
بدا في مسلسل ريڤو أن الانتقال بين الماضي والحاضر جليًا في طريقة تناول المشاهد بالإضاءة، والملابس وقصات الشعر حتى، فيما تحضر الأغنيات فهي الركيزة الأساسية للعمل، بدلالة قوية على صدق حالة الحنين، التي ربما تلبست أبطال العمل وشخوصهم الحقيقية، وهو ما يظهر من حديثهم بأكثر من مكان، أن كل منهم رأى نفسه في الدور الذي وكل إليه، وكل منهم رأى من حياته خارج العمل شيئًا يقوله الدور المطلوب منه تأديته.
كما تفاوتت قدرات فريق العمل التمثيلية، بين الجيد والأقل أداءً. بحضور مفارق، وبخفة وشطارة استطاعت الأردنية (ركين سعد) أن تمنح دورها بُعدًا أقوى وحضورًا لافتًا ومهمًا لشخصية “مريم” ابنة “حسن” والفتاة المغمورة والمهمومة في البحث عن حلمها -حلم صاغه الأب- وهو ما يريد كتابته في قصة الفرقة والفيلم، وهو محور الأيام متجليًا بعد وفاته، وبلمعة عين تتقد ذكاءً، تقول أشياء كثيرة دون أن تنبس ببنت شفة! فيما اكتسب (حسام حسني) مطرب التسعينيات الشهير والأقرب إلى قلوب الذين عاصروا فترة تألقه، حضورًا لافتًا ومحببًا. لا يمكن أن تغفل (محسن محي الدين) “حسن” بالمسلسل، والذي حتمًا تخيالك حكاية غيابه لسنوات طويلة عن التمثيل، بغض النظر عن تلك الفترة أو مبرراتها في نظره، لكن الأهم أنه عاد. ولعل هذا العمل بداية فارقة مرة أخرى، مع ممثل من طراز فريد، وموهبة طالما كانت علامة على جودة العمل إجمالًا.
وحتى شخصية “أباظة” التي قدمها حسن أبو الروس، بدت مثيرة للأسئلة، حول تعنت أستاذ معهد الموسيقى تجاهه، وتحوله لشخصية بدت عدائية، ثم مستسلمة تمامًا، وتريد العيش في الظل. أما “مروان/ سليمان”، الحقيقة، التي تراودك دومًا عن نفسك والأحلام بخصوص الحضور والغياب. لعلك قد ترى فيه ضعفك، خوفك، صحيح أن إسقاط تركيبة شخصية من عمل درامي علينا، هو أسوأ ما قد نفعله، لكنك ستحب “مروان”، وتحب ضعفه، وتشفق عليه كونه وحيدًا، مهمشًا، لدرجة أن يسأله الجميع “مين ده؟!” وكأنه مجرد شيء. وقد تحب كذلك “سليمان” طيشه وجنونه، وذلك المشهد حيث محاولة التقرب الخجولة للغاية من “رنا رحمي”. هل أشبه سليمان؟ هل نشبهه جميعًا؟ لا أعرف، ربما اكتشفنا للتو ممثلًا عظيمًا (صدقي صخر)، ببريق صافٍ، ودون ضجيج، لكنه يقول أمرًا ما، يفعل أمرًا ما، رؤية تحتاج أن تنبش الظاهر من الحكاية لتكتشف أبعاد شخصيتها ومكامن عبقريتها، وربما لحظات تشكلها ليس من مجرد دور مكتوب على ورق، لكنه يبعثه حيًا يُرزق حين يمسه.
هكذا، رأيت فيهم أصدقائي من الطفولة، ورأيت “شادي” حين سقط عن دائرتهم مثلما سقط “حامد” صديقي الذي رحل عن دنيانا منذ أيام.
حضور مرتبك لمربعنا الذي غاب عنه أحد أضلاعه في برهة عنيدة من الحياة والزمن، تعب عابر أفضى إلى غياب محقق، غياب عصي على الفهم أو حتى التداول فيما بيننا كأحد الأحداث التي وقعت بالفعل، حالة تامة من الإنكار ومقاومة الخسارة، لم تتوقف عن الضغط ومن ثم التداعي الحر، ومع ذلك لم تكتسب أي انتباه جراء حضور مراسم العزاء والدفن. الحادث هنا مفارق ومتجاوز للتصديق من البداية، هكذا لم يكن من قرار صحي سوى، أن تركت “مريم” يد أبيها ليرحل، تتركه يودع الدنيا، لينتظرها في دار أوسع، أرحب، ومع ولده الذي أحب، مع “شادي”، في إشارة لبداية العلاج، أول المداواة، هي القبول والتصديق بشجاعة. هذا بغض النظر عن النبرة الوصائية التي ظهرت من آن لآخر، في علاقة الطبيبة النفسية بأخيها، وكيانات المعالجة التي أصبحت شبه موضة ما بعد حداثية، ولا حتى الإشارة لتحرش المنتج بالممثلة الصديقة، وصوت الأب في الخلفية يهدي ابنته بكلمات ورؤى سابقة، ولو بدا أن هذه القناعة جزء من ترصيع العمل بالحكم، وتقديمه بتصور يداعب طفولة أجيال الثمنينيات والتسعينيات، لكنه أيضًا لم يخسر مشاركة هموم جيل ما بعد الألفية، أو هو صوت الراوي في الأساس، وهو لا يخلو من معقولية أحيانًا، أو هكذا بدا الأمر للوهلة الأولى.
لحظة التكشف/ التصالح
لعلك عزيزي القارئ أحببت ضعفهم البشري، تلك التركيبات التي لا يمكن بحال وصفها بحد واحد، خير أو شر مطلقين، تنويعة متمازجة في خليط بشري، يبكي ويضحك في آن واحد. من “بنات رحمي” إلى “أدهم” المنافس الشرس، ليس في صناعة الموسيقى، لكن في الحب، الذي أدرك حظه من الألم مُقدمًا لكنه حاول باستماتة فلم يكن حظه سوى أن كان الطرف الذي أحب فقط، طرف وحيد لا يمنح علاقة بريقها ولا يمنحها فرصة للحياة، ولا يمنحه مساحة للتجاوز والرضى بالأمر الواقع، لفرط حبه، أو لفرط سذاجته! أو في مشهد يجمع بين المعذب “مروان/ سليمان” وبين التي أحبها فتزوجت صديقه، أي “رنا رحمي”، لتعرف تمامًا أن الذي صافحته الأخيرة للتو تعذبه –الآن- مرارة الوحدة وغياب الأصدقاء، وربما حبه الضائع، فإذا انتهى إلى الزهد لأنه بذل من الجهد (تكوين صداقات/ محاولة الانتحار) الكثير والمُحصلة صفر كبيرة، حتى تباغته الموسيقى، فتثير لوعة الفقد من جديد، وإلى الأبد! سياق يدفعك إلى التصالح مع هذا الكم من لحظات الضعف البشري، شجاعة القول في وقت يصمت فيه الجميع، أو الخوف المبطن من انقطاع مداد عمل أو مال، سقطات بشرية تمامًا ولا تبرئة للخائنين، وإنما هونًا ما، يحب الجميع، ويكره.
أما لحظة تجلي الحقيقة، فهي تلك التي يدرك فيها الجميع، أن ليس ثمة خلاص نهائي من الماضي، من موت “شادي” الذي بدا في الحديث حوله وكأن أصدقائه هم القتلة، واتضح أن الأمر ليس كذلك، موت عادي تمامًا، لا يبرر حالة التحول الكاملة التي أصابت الأصدقاء وشعورهم العارم بالذنب، بل نزوعهم الحقيقي ناحية التكفير غير القابل للتحقق أصلًا، فينتهي كل منهم وحيدًا، حتى يجتمعا مرة أخرى بهدف إحياء الذكرى، وتقديم شيئًا يُعرف العالم بـ “شادي” الصديق والفنان، وابن الموت. تلك هي لحظة الانكشاف، وهي الحقيقة.
هل نخاف؟!
هل نخاف من انفلات الزمن، من عامله الذي لا يمكن بحال أن يعود القهقرى، أم أننا نطمح لأخذ هدنة من استعار الأيام ها هُنا، أو فرصة لنقرأ معًا ذلك الماضي مرةً أخرى، ذلك الماضي القيمي المثالي، الذي لا يليق تجاهله، ولا امتلاكه، بعين تريد الرؤية، تتسع على الحقيقة بمقدار الإقدام على الموت بشجاعة من يعيش أبدًا!
إلى هنا، ربما لم نطمح لأكثر من مشاهدة لا تقف عند حدود العمل المباشرة، ولا بطبيعة الحال أن تُسقط عليه تأويلات قد تكون خارجة عنه من البداية، ربما لأننا وقعنا جميعًا أسرى لهذا الشعور المباغت والجميل بالحنين الذي يضرب في الأعماق، دون أن نستطيع تمامًا توصيفه بكلمات واضحة ودون أن نملك من أمر مشاعرنا شيئًا.