مراجعة تأمُّلِيَّة لرواية الديوان الإسبرطي

المحروسة* تلك المدينة الراسخة في أحد قطع إفريقيا الذهبية، لطالما استقبل ترابها أقدام العابريين عنوة، آثارهم باقية رغم الدمار ومعالم الحضارة، بريق عيونها التي تلمع من القمم ولو في الحلم ينبئ بنقيضين على الدوام، فردوس آدم و جهنم لوسيفير ، سجن الماركيز دي ساد** وعالم ابراهيم لينكولن*** . لا يوجد وسط على هذه الأرض إما التحليق عاليا وإما هبوطاً
هل يصح وصفها بمحروسة العثمانيّين أو محروسة الفرنسيّين؟ أو لعلنا يجب أن نصيح قائلين : ” المحروسة وحدها “!
لا يستقيم هذا اللفظ لأن المحروسة تخبئ بثنايا جلبابها الواسع من شوارع وسهول وأماكن مقدسة تاريخا من أشهى أصناف الشعوب تحتمي في كل قطر منها، مهما تم معاملة المحروسة بلين أو نثر ملح الجروح فيها يبقى ذلك في صالح هذه المدينة شاهداً على مجدها.
– ديبون : ذلك الشاب المتحمس لكل شيء من شأنه أن يكون جديدا وطازجا وأهم من ذلك، ناشرا لكلمة الرب، لكن يبدو أنه قد خذل وهو يداعب المحروسة في أحد سنواتها؟ لم يجد غير الترهل فيها رغم جمالها الأخاذ، فهل يجب أن نقول محروسة الفرنسييّن هنا؟
لا يجد ديبون غير طريق العودة لبلده لكن كلمة الله لا رجعة فيها، ولا الفضول الممزوج بالنبل يبدو كذلك، ستحدث مهمة عكسية يكون بطلها لإعادة التجسد بمظهر المسيح الحداثي الذي يمسك الورقة والقلم بدل رغيف الخبز والسمك عائدا إلى ذراعيها للموعظة، حتى يحقق بذلك خلاص هذه الأرض.
تتقاطع حبال العودة مع أشرعة سفينة المحروسة سواء مع سكانها الأحق بها، إلى الدخلاء والقراصنة، وحتى العاشقين لسحرها رغم فرق الدم والنّسب، يودون لو كانوا سكانها الأصليّين لربما سيعاملونها أحسن، من أعراب وقبائل ويهود ومور وصحراويون إلى أتراك و مختلطي النسب هكذا كانت. لكن الآن اِقْتُلِع الرجل العثماني من شجرته التي سقاها طويلا بالرغم من بتره الكثير من أغصانها وجني الثمار، لقد حل محله أخيرا الرجل الأوروبيّ ذو النزعة الرومانسيّة والواقعيّة لكن الحربيّة، فهل سيعامل الشجرة مثل العثماني؟ .
ورجعةً إلى مسيح المحروسة الأبيض ديبون، بدايةُ الحكاية، فكم بدا سفير سلام ونبل، وكم كان طيب القلب والسريرة ، طفوليّ الفكر والحس، الأمر الذي خلق له معرفة بالجميع حتى أكثر الناس سوءًا ، مثال على ذلك رفيقه كافيار ، تكاسلت الكلمات عن وصفه، حتى نهضت على أبشع معانيها بعد غفوة طويلة، محاولةً بجهد أن تفسّره.

كافيار : صديق ديبون ذو الملامح القاسية والقلب القاسي كذلك؛ لكنه يبقى صديق، ذلك المستبد بفكره على كل ما هو عربي وإسلامي، حتى كلمة المسيح يرفضها بقلة أدب .
جنون عظمة أمته تمكن منه ليرى الجميع تحته، لكن هل نسي أنه مجرد خادم لنابوليون**** ولفكرة و حلم هذا الأخير حين كان مقاتلا في جيشه ومنتفخا بتطلعات غزو العالم، هوس أراد اختلاسه من سيده وتقمص دور قائد مجنون آخر في مدينة حرب جديدة .
قالها مرار أنَّ المال هو إله الناس. طموحاته في احتلال المحروسة تنبع من سلسلة خذلانه المتناسخة كل مرة داخل روحه، و العبوديّة التي تجرعها من الأتراك جعلته لا يفرق بينهم وبين العرب والمور في شيء مع فكره النابوليوني الخالص .
كان الإحتلال بالنسبة إليه محض إنتقام شخصي وهاجس سيده المنفي، لا تصديرا للقيم الأوروبية ولا تكريسا لكلمة الرب ولا حتى طمعا في المال، وسواء صدقت قصة تجسّسه المسرحي مع غيره على المحروسة قبل احتلالها، فلا شك أنَّها أمور يقترحها التاريخ علينا غصبا، تعددت أسماء كافيار فقط ، حتى لو تم تنفيذ هذا في عالم المثل عند كل من رغب في المحروسة .

رواية الديوان الإسبرطي لعبد الوهاب عيساوي ، الصفحة 41 .

– ابن ميّار : حسنا، يبدو مثل الشعوب العاشقة لمحتلِّها ومستعبدها خاصة إذا وافق عقلها الديني، رغم كل الحب الذي يكنه لبلاده وطيبة قلبه فإنه يحتقر كذلك أبناء شعبه الرافضين لوجود بني عثمان، رجال و نساء بشخصيات مثل شخصية ابن ميّار ستظل قضية بلدهم في الروح غير أنهم ضعفاء … ضعفاء جدا للثورة وضعفاء لتسلق جبال الحرية والإرادة الحرّة ، فيكتفون بالمحتَّل حتى يعيشوا على الأقل من دون أن يُقتلوا.
لكن هذه المرة يبدو أن ابن ميّار سيُقبِل على مهمة لم تعتدها روحه المجبولة بالخنوع لتحرير محروسة الفرنسيّين، ولو كان سبب ذلك نكبة دينيّة في المقام الأول ومحض رفض لنوعية جلاده وليس الجلد في حد ذاته، فهو لطالما أراد استرجاع الأندلس والآن ها هو يريد استرداد محروسة العثمانيّين حين وقعت في قبضة هؤلاء أتباع المسيح وحين لم ترجع الأندلس.

– السّلّاوي : لا يرضى بالقليل ولا بالكثير بل ما تستحقه بلاده و شعبها، الحريّة والكرامة. هو لا يؤمن بالصبر ولا التحلي بالسلميّة في انتزاع الحقوق، لكن ماذا يمكنه أن يفعل غير تقديم المسرحيات الساخرة التي بوسعها أن تهز بعض الجنود الأتراك من ثورة الغضب، ثم الركض بعدها فرارا من سوطهم والتشرّد في السجون وها هي القصة تعاد مع زوار جدد.
على الأقل السّلّاوي حاول، لكن لا تزال المحروسة محتلة من كل زائر يشتهيها، فهل خذل الله الجزائر في كل مرة تطئها الأقدام الدخيلة أم أن مشيئة الله هكذا عند كل الشعوب المضطهدة؟ .
لا يمكن للسّلّاوي أن يقبل هذه المشيئة ولو كانت صادرة من إلهه، فلقد حان ميعاد زمنه الخاص للإلتحاق بمن يفكر مثله ويرغب في الحرية مثله ويهاجم مثله، بالثوار الذين غابوا طويلا ثم نهضوا من سباتهم عند قيام محروسة الفرنسيين.
إنه يعذب كل من يعرفه سواء أعدائه مهما تعددت مشاربهم و كذلك أهله ومحبيه؟ إنه رجل الدقيقة الضائعة لا يستطيع أن يبرح مكانا حتى يهرع لمكان آخر، و يبدو أنَّ دوجة المسكينة ليست بالقدر الكافي الذي يمنحها القوة في تحمل هذا العدّاء و سرعته القصوى، ماراتون يوميّ في كل مكان ووقت.

– دوجة : كيف تحملت هذه الفتاة كل مآسيها مع مآسي المحروسة كذلك؟ مواراة التراب على كل أفراد عائلتها والتشرد في الطرقات ثم اغتصابها وتجرُّعها كل يوم هواء المبغى مع تغير جلود رواده!

إعلان

هل هو انتقام إلهي على أمر تجهله أم أنها مشيئته مجددا ؟
لم يكن أي أحد في حاجة لسماع حكايتها من البداية بل إن َّّوقتهم يكفي فقط لإطلاق الأحكام الأخلاقيّة عليها ورجمها بالكلمات ثم تجاهل معاناتها.
في الحقيقة، هناك مسيح آخر لكن من المور يدافع عنها ويبدو أنه أسمر ويؤمن بمحمد كذلك، يعترض طريق الفَرِّيسيِّين***** محتكري محبة المحروسة، المُدَّعِين أنهم أكثر حبا للمدينة والإله من فتاة مبغى باعت جسدها؟ لكن لمن؟ لهم هم نفسهم. يدافع المسيح الأسمر عن هذه المرأة؟ من منكم يا أوغاد بلا خطيئة؟ رجال ونساء المحروسة عبيدها ومستبديها! .

هل كان الرجال يعتقدون أنهم أكثر حبا وإخلاصا من النساء فقط لأنهن يعشن في مبغى جنسيّ ، مجبرات مقهورات، يقدمن أجسادهن كما يقدِّم الرجال لهن أجسادهم وفوق هذا مالهم ؟ ألا يكفي هذا لمعرفة الحقيقة حول من يحب المحروسة حقا؟ أم أن الفَرِّيسيِّون دوما يربحون بالغش، يصلبون الرب ويشتتون تلاميذه .

– الأتراك ؟ هؤلاء الذين لا يقتلون على يد العدوّ بل بين بعضهم البعض طمعا في الخلافة، هم عطوفون وقت يريدون ذلك لكنهم باردين كالجليد في معظم الأوقات، عاشقي الضرائب والمساجد أيضا، أصحاب المزاجية العثمانيّة
ساكن المحروسة فيها يبدو من الأقليات دوماً، صاحب الدرجة الثانية، لكن على الأقل ينبغي عليه أن يكون شاكرا دوما فاليهود أسوأ حالا منه، يجب عليه خدمة أسياده وتقبيل يد الباشا وشكره كل يوم في صلاة خاصة به أثناء كل فرصة يراه فيها ، فكما يقولون كل من سبق الباشا كان أسوأ. لهذا على الموري دوما أن يشكر الأسد الذي لم يقتله بعد، هكذا الشكر في المحروسة.

رواية الديوان الإسبرطي لعبد الوهاب عيساوي ، الصفحة 111

– الفرنسيون ؟ بورمون قائد الحملة على الجزائر يقول أن هدفه ما هو إلا نقل بضائع الحريات و التنوير إليها، كافيار المنتقم الذي يتوق إلى صفقة منح سلاسل العبودية للمحروسة مقابل الدماء، القنصل دوفال خبث الخبيث وشهوة المناصب و المال، ديبون رجل المسيح البريء والطيب، الجنود عبيد المادة والأهداف المجهولة المتعددة. كل هذا يعطي منهجا تفكيكيا لدواع الإحتلال بدءا من قرار الملك الأعلى إلى رجال الحملة والجيوش ثم جنود الشطرنج. كل يغني في ليلاه سواء استقامت نواياه أم انعرجت به إلى الشيطان.

– القبيلة ؟ قوة القبائل والأعراب مع الصحراويّين لا يمكن أن تنسي المحروسة صلابتها ومجدها العتيد، رغم كل الخضوع وانحناء الظهور الذي أجبروا عليه. فمثل هؤلاء الناس يعيشون لوحدهم من دون أنوف تحشر، مستقلّين عن أي صداع وشقيقة، مبعثرين، لكن وقت الآلام تراهم يجتمعون لخلق ترياق أبدي.

– الدين ؟ لعبة السياسة والخلافة دوما، تدين العوام ذلك الدين الذي لم يحتكره كبار الصوفية وقطفوه لهم مثل فاكهة الصيف والشتاء تتساقط على قفف عقولهم، كرامات الأولياء و التبرك بالصالحين، على الأقل قد حلوا محل الإله، كان أهل المحروسة يثقون بهم أكثر منه .

– المرأة ؟ تراها في كل المحروسة، تلك القويّة والمضطهدة في نفس الوقت سواء كانت الثروة تغطيها من رجليها أو الفقر ينهشها، هي في مركز واحد دوما تابعة للرجل أرادت أو لم ترد، تشتاقه وتنتظره وتقف معه، قضيته مهما كانت هي قضيتها كذلك ولو سرقها من أصابعها وادعاه لنفسه .
تستمر سلسلة التبعية طلوعا إلى الحاكم لكن تظل هذه المرأة دوما معطاءة وساذجة جدا وراضخة أحيانا. هي متديّنة أكثر من إمام المسجد نفسه وصوفية أكثر من كل متصوف.
بغايا المبغى وبائعات الهوى و الحزن كذلك، أولئك الملعونات من الرجال والمحبوبات من الرجال أيضا، كن شجاعات بل أكثر شجاعة حين حملن السلاح ونسين كل الأوجاع التي تلقفوها بجسد جريح من رجال هذا الوطن الذي تخدش كرامته الآن.
تبدو المرأة دوما جميلة وطاهرة رغم كل التراجيديا التي كتبت لها قهرا، في لحظات الضعف تكون أقوى من الرجل أما في لحظات القوة فينسحب الرجل خوفا وصدمة.

رواية الديوان الإسبرطي لعبد الوهاب عيساوي ، الصفحة 147

– المال ؟ يبدو أن الجميع يعبد إله المال هذا، فكل شخص يلهث وراء مصالحه سواء استقامت مع مصالح غيره أو ناقضت نواهي الله، فأهم غاية منشودة دوما هي الوصول إلى عالمه، عالم المثل الأفلاطوني لكن لا عقل فيه ولا حقيقة وذات بل المال فقط.

قيادات في الدول تتقاتل بين بعضها ثم تتحالف بينها لأجل المصلحة وكأنَّ شيئا لم يكن، شعوب تختلس القبلات على جسد كل ما من شأنه أن يناهض ” الدين والسلطة ” ولكنهم في النهاية يجلونهما مذعورين.
لا يجدون في انتهاك أجساد النساء خطيئة ولا في خيانة الدولة شرا يذكر ولا حتى في ظلم الناس وجرّهم إلى الموت علامات نهاية الأزمنة.

– الخير ؟ ورغم ذلك هناك من يملك المشاعر الطيبة التي لا تنضب من زمزم المحروسة مع تسارع الوقت، لالة سعدية، زهرة اليهودية، دوجة ووالديها المعذّبين ، ابن ميّار والسّلّاوي و العديد من المور صغار وشيوخا، حتى اليهود لا يختلفون عنهم في شيء رغم صراعاتهم الداخلية دوما، و كذلك المحتلين الجدد. هناك دوما من هو مثال للنبل رغم تغلغل جذور الضلال شاء من شاء وأبى من أبى فهكذا هو الإنسان، ثنائيّ من الروح النقيّة أو الدنسة نجدها في كل موطن ومذهب .

أجناس من البشر و دوافع من القلوب وأهواء يشوبها الشر والخير والعلاقة مع الآخر ، تتخللها أحيانا مسارات هوائية من التدين والحداثة والهمجية، نبل أو سفالة ، اضطهاد أو تحقيق للعدالة، حب وكراهيّة ، أنوثة وذكورة. كل هاته التشكيلة من التناقضات الضرورية والتلقيح الطبيعي الذي جرى لها من المتشابهات الملاصقة، تظهر قصة الإنسان مع التاريخ في إسبرطة لكن أي اسبرطة؟ إنها المحروسة … فقط.

شرح المصطلحات :

*المحروسة : لقب تاريخي تسمت به عاصمة الجزائر.
**الماركيز دي ساد : ( 1740 – 1814 م ) كاتب وسياسي فرنسي تميزت كتاباته بالقسوة و العنف وإليه ينسب مصطلح السادية
***ابراهام لينكولن : ( 1809 – 1865 م ) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1861 م حتى سنة اغتياله 1865 ، عرف بلقب ” محرر العبيد ” بسبب إنجازه التاريخي الذي ألغى الفروقات الإجتماعية والعرقية ومنح للعبيد حقهم في الحرية والكرامة .
****نابوليون : نابوليون بونابرت ( 1769 – 1821 م ) سياسي وقائد ومبراطور فرنسي، كانت لديه طموحات في غزو العالم، يصفه البعض بمريض جنون العظمة .
*****الفَرِّيسيِّين : ومعنى اسمهم ” الإنفصاليون ” وهم الكهنة المختصون بتفسير التوراة وحمل التقليد اليهودي، وقد كانوا من الطبقة الكهنوتية الحاكمة، مركزهم أورشليم، انتقدهم المسيح بسبب انحرافهم عن كلمة الرب، ومن جملة هذه الانحرافات رياءهم وإيهامهم الناس بكونهم أكثر الفئات حرصا على الديانة اليهودية وحبا فيها وفي الشعب اليهودي مع أنَّ أساليبهم وسلوكاتهم توحي بالعكس. كما كانوا متورطين في صلب المسيح .

نرشح لك: سيكولوجيّة الأَلْوَان في رِوايات سعود السنعوسي. وكيف تَحَوَّل الأزرقُ من الأمَان إلى الوَحْشة؟

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق علمي: دينا سعد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا