مراجعة كتاب خريطة الغياب: الكتابة كفعل مقاومة
في كتاب “خريطة الغياب” يعيد ثمانية وأربعون كاتبًا فلسطينيًا وواحدًا لبنانيًا (إلياس خوري) التفكير في النكبة عبر الشعر والنثر، معظم الأسماء معروفة؛ قرابة ثلثهم رحل، ولكن هناك أيضًا أصوات صاعدة، على الرغم من معالجتهم لموضوع فلسطين من زوايا مختلفة، هناك موضوعات معينة بارزة مثل الصراع والضياع والحزن العميق المستمر الناجم عن النفي الجماعي للفلسطينيين في 1947-1948 وعواقبه، وصولًا إلى عزم الفلسطينيين على البقاء متصلين بأرضهم وثقافتهم.
إن المحتوى المتنوع بين القصائد والقصص القصيرة والروايات والمذكرات تم ترتيبه زمنيًا من الثلاثينيات حتى اليوم، في هذا الكتاب يُقسِّم الكاتب عاطف الشاعر في تقديمه هذه السنوات التسعين تقريبًا إلى ثلاث مراحل: التجربة الفورية للنكبة، ثم تشكل الحركة الوطنية الفلسطينية والمقاومة المنظمة، وجسر غسان كنفاني بين هاتين المرحلتين، لقد كانت القومية العربية في صميم رؤية الجيلين الأولين، على الرغم من أن الكثيرين في الجيل الثاني على وجه الخصوص بدأوا في انتقاد النظام الأبوي والديكتاتورية مثلما “بدأ الجيل الثالث من الكتّاب، الذين أنتجوا أعمالهم بعد اتفاقيات أوسلو عام 1993، مستعدين لتحدي النخبوية وكذلك قضايا الهوية الوطنية” (الصفحة 17).
في حين أن الشعر المبكر، مثل شعر إبراهيم طوقان، يرسم القضية الفلسطينية كقضية وطنية بعبارات محمّلة بالمعاني، بدأ الشعراء اللاحقون في استخدام تقنيات أكثر دقة، مستحضرين تفاصيل الحياة اليومية أو أحداثًا تنبش في الذاكرة الفلسطينية أو التبعات المستمرة للمنفى والتشريد، من الأمثلة البارزة شعر ليزا سهير مجاج التي كتبت: “بعد خمسين عامًا أحاول أن أحكي قصة كل ما خسرناه وما زلنا نخسره، نسعى، محمّلين باليأس، للحصول على زاوية معينة للتعبير السلس عن قصة واحدة” (الصفحة 182 و184).
محمود درويش هو بالطبع خير من يحوّل “التفاصيل الصغيرة” في الطبيعة أو العلاقات البشرية إلى رموز قوية للذاكرة أو الهوية الفلسطينية، وأحيانًا ذات دلالات عالمية، عنوان هذا الكتاب يقتبس جزئيًا أحد استعاراته: “هنا سقط القطار عن الخريطة عند منتصف الطريق الساحليِّ، وشبَّت النيرانُ في قلب الخريطة، ثم أطفأها الشتاء وقد تأخر” (صفحة 48).
في صفحة من كتاب “صيادون في شارع ضيق”، يروي جبرا إبراهيم جبرا بشكل مؤثر كيف أنه لم يفقد منزله في القدس فحسب بل علاقة حبه عام 1948، موسعًا النطاق الإنساني للمقاومة الفلسطينية من خلال تسميتها بتحدينا غير الكافي للكراهية (صفحة 27)، يبدو هذا التحدي شديد الصلة اليوم بشكل خاص بالإرهاب المفرط المنبثق عن النظام الإسرائيلي اليميني المتطرف، على الرغم من أنه يجب ملاحظة كيف أصبح الفلسطينيون الآن مجهزين بشكل أفضل لمواجهة ذلك.
لقد استخدم الفلسطينيون في كثير من الأحيان السخرية للتعبير عن معاناتهم غير المنطقية، وأشهرها في كتاب “المتشائل” لإميل حبيبي الذي يسخر من وضع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة خصوصًا في وجود كثير من المفارقات الهائلة، أحدها كان منزل عائلة إدوارد سعيد في القدس الذي تحول “للسفارة المسيحية الدولية” [بعد طردهم من بلادهم] وهي كيان يميني مرتبط بالصهيونية، وآخرها العواقب الإقليمية المتصاعدة للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ثمة عملية عسكرة واسعة استولت على كل المجتمعات في المنطقة، دون استثناء تقريبًا، حتى كادت تصل وتهدد “الوجود الإسرائيلي” نفسه (صفحة 39).
يتجلى الإحساس الحاد بالظلم لدى قصة سميرة عزام في قصتها القصيرة “الساعة والإنسان”، المذكورة أيضًا ضمن مختارات الكتاب، كانت هذه القصة النص الفلسطيني الوحيد الذي سُمح بتدريسه في المدارس الفلسطينية من قبل مكاتب الرقابة الإسرائيلية، لكن سرعان ما كانت معانيه الضمنية أكثر وضوحًا لدى أدانيا شبلي، وهي كاتبة فلسطينية ولدت في 1974، التي قالت إنها ساهمت في تشكيل وعيها فيما يتعلق بقضية فلسطين أكثر من أي نص آخر قرأته في حياتها.
هل كان هناك يوم واحد ينتقل فيه الفلسطينيون للعمل بسلام؟ هل كان هناك يوم واحد من الحياة الطبيعية في فلسطين؟ لقد حفر النص في ذاتي شعورًا عميقًا بالحنين لكل ما كان عاديًا ومبتذلًا، إلى حد أنني لم أعد أستطيع تقبل الحياة المهمشة التي بدأت بعد تهجيرنا عام 1948، والتي تحول بعدها وجودنا إلى “مشكلة” (صفحة 192).
تتناول النصوص أسئلة جوهرية طوال الوقت حول الظلم والذاكرة والمقاومة والحنين إلى السلام والحياة الطبيعية، وخاصةً العودة إلى الوطن، ويتناول البعض هذه الأسئلة بشكل مباشر للغاية مثل دارين تاتور التي سُجنت بسبب قصائدها، ومثل عبد الكريم الكرمي أيضًا من الجيل الأول في قصيدته “سنعود”، بينما يصر توفيق زياد على “باقون”.
أما عن واقع الكتابة في الوقت الحالي، تقول أميرة وهي واحدة من الأصوات الصاعدة التي تم تقديمها في هذا الكتاب: “لم يكن من المفترض أن نعيش ولكننا… لم يكن من المفترض أن نعود ولكن نحن…” -بشكل ملحوظ، هذا هو السطر الأخير في كتاب يتطلع نحو المستقبل” (صفحة 230).
إن كل اختيار في هذا الكتاب يستحق التعليق عليه، وهو أمر مستحيل للأسف في مراجعة قصيرة، إن كتاب “خريطة الغياب” له مزايا بالغة الكلاسيكية بسبب توثيقه لأحداث هامة ولجمال وكثافة الكتابة، بحسب كلمات المؤلف عاطف الشاعر: “لا يوجد صوت فلسطيني في أي مكان أقوى من أدب الفلسطينيين” (صفحة 19).
مصدر الترجمة