مراجعة كتاب “حياة باريسية”: صامويل بيكيت، وسيمون دو بوفوار، وأنا

في العام 1971 أحرزت ديردري باير سبقًا أدبيًا جليلًا يُعدّ أحد أهم الأحداث الأدبية في عصرنا؛ فقد أقنعت صامويل بيكيت، متسلحةً بدرجة دكتوراه كانت قد نالتها قبل فترة قصيرة، وتجربة مهنية  بصفتها صحافية لدى Newsweek كانت قد هجرتها -بأن يمنحها الموافقة على تدوين سيرته، الأمر الذي يعد جائزة لم ينلها العديد من الذكور المتمرسين في دراسة بيكيت والبالغين من العمر ضعف سنَّيها. استخدمت باير الطريقة الأكثر مباشرة وصرامة، الأمر الذي يعد جنونيًا بالنسبة إلى أولئك المتمرسين. ببساطة، أرسلت -وعلى حين غرة- إلى الكاتب الشهير من منزلها في كونيكتيكت مدرجة اقتراحها، فأرسل يطلب إليها أن تزور باريس بغية لقائه.

كان اللقاء بمثابة نقطة انطلاق لهذه المذكرات اللامعة والثرثارة عن رحلة كاتبة السيرة حول موضوعين عظيمين، فبعد قضاء سبع سنوات في العمل على حياة بيكيت، قضت باير ما يروم العقد وهي تحوم حول جارته سيمون دي بوفوار. استقبل بيكيت باير في بهو فندق الدانوب في شارع Jacobe قائلًا بنبرةٍ فضولية ممتعة: “أنت إذًا من سيميط اللثام عن المتحذلق الذي أنا عليه”. وافق بداية على ألّا “يساعد ولا يعيق” باير في قيامها بعملها، لكن خلال السنوات اللاحقة، جلس معها مرّات عديدة، مساعدًا إياها في الغوص في أرشيفه المكتوب وقدمها إلى حفنة من أصدقائه ومعاونيه.

ما تبع ذلك، لم يكن سوى حالة كلاسيكية من تلك الرقصة الغريبة بين صاحب السيرة وكاتبها حول الاستحواذ على الحياة. أصرَّ بيكيت على بعض التحفظات، عندما سحبت باير في لقائهما الثاني مفكرة، وكانت حينها تبلغ السادسة والثلاثين من العمر، قفز بيكيت عن طاولة المقهى غاضبًا -لم يستطع مؤلف “شريط كراب الأخير” أن يسمح بوجود أي دليل دامغ على ما يدلي به من كلام-. “لا أقلام ولا أوراق، سنتبادل أطراف الحديث كصديقين ليس أكثر، لا تفكري حتى بشريط تسجيل”.

واجهت باير هذا العائق بحفظ الأسئلة التي تود طرحها عن ظهر قلب من خلال بطاقات التلقين قبل كل لقاء لها مع بيكيت، وحالما ينتهي لقاؤهما كانت تهرع إلى غرفتها لتستخدم البطاقات كمحفز لذاكرتها، وتدون كل ما تحسن تذكره من كلام قيل أثناء اللقاء. كانت النتيجة مذكرات غاية في الحميمية صدمت عند نشرها عام ١٩٧٨ مؤسسة بيكيت الأكاديمية، أو البكتيين -كما تسميهم باير- ودفعت أعضاءها إلى تقويض أساليب باير. أحد الأسئلة التي طالما تناقلتها ألسنة منافسيها من دارسي بيكيت، طرح عليها أخيرًا خلال مقابلة أجراها مراسل محلي: “كم من العلاقات الجنسية اضطررت إلى إقامتها مع بيكيت حتى تحصلي هذا السبق؟”.

الإجابة كانت: ولا واحدة. اصطحبت باير زوجها وطفليها معها في العديد من رحلاتها الصيفية إلى باريس، وبالرغم من أن بيكيت لم يقلل يومًا من احترامها، فقد افترض العديد من ناشريه السابقين ومحرّريه وأصدقائه مقابلًا لمساعدتها في مساعيها الأدبية. لمّحت باير إلى أن الرجال الفرنسيين كانوا عادة مباشرين فيما يخص هذه الافتراضات؛ فكانت الأحاديث تستهل بعبارة “هل سنذهب إلى السرير؟” وينتهي الأمر عندما تعبر باير عن رفضها. آخرون، مثل باتريك ماجي -الممثل المفضل لدى بيكيت- كانوا مترددين في التعاون ما لم تتم دعوتهم لتمضية الليلة.

إعلان

في ظلّ حياكة كل هذه الدسائس، حافظت باير على دهاء المراسل من ناحية، وصرامة الأكاديمي في الاقتراب من الحقيقة من ناحيةٍ أخرى. كامرأة شابة، جلّ ما أرادته هو أن تصبحَ صحافية. في منتصف عشرينياتها، وبينما كانت تحاول الموازنة بين عملها وتربية طفليها، حددت مهنتها الثانية. فكرت بداية في عنونة هذا الكتاب تحت “كاتبة سيرة بالصدفة”.

العنوان النهائي كان مناسبًا أكثر. تستحضر باير من خلال مذكراتها وملاحظاتها التفصيلية عن تلك الفترة، أجواء المدينة التي عاش فيها صاحبا السيرتين اللتين دونتهما. لا ننسى أبدًا حماسها وذعرها وإحباطها أثناء التنقل بين الصالون والمقهى بحثًا عن حكاياتهما بشكلٍ قد يكون أحيانًا هزليًّا. رغم أن بيكيت ودي بوفوار كانا يعيشان في الشارع نفسه، فقد مقتا بعضهما، تعود جذور هذه الكراهية إلى رفض دي بوفوار إحدى القصص الأولى لبيكيت في مجلة Les temps modernes الأدبية التي كانت تديرها مع جان بول سارتر، أما باير فكانت دومًا ما تتهرب من “الرجل الإيرلندي” حينما تقابل “المرأة الفرنسية”.

لم يكن تودد باير إلى دو بوفوار ودائرة معارفها أقل تعقيدًا من معاركها مع “البيكتيين”، لم تدع بشكل لطيف لزيارة مؤلفة “الجنس الآخر” في المرة الأولى، كما أدركت لاحقًا أن الموعد قد ضُرب في يوم ميلاد صاحبة السيرة الثالثة والسبعين. باير استثنائية في استحضار الإحراج والقلق الناتجَين عن اللقاء المنتظر. بعد التفكير المضني في آداب السلوك، وصلت باير في السادسة مساءً إلى باب شقة دو بوفوار ممسكة بباقة ورد شبه ذابلة، متوقعة وجود حفلة. فتحت دو بوفوار الباب في ثوب حمام رديء، أرادت أن تبدأ بالعمل فورًا.

إن سرد ديردري باير لتفاصيل جلساتهما يعد دراسة حالة في استراتيجيات التنافس على التحفظ والإفصاح. بعدما سارت المقابلات على ما يرام، اختتمها الطرفان بكأسٍ من الويسكي المخففة بالماء بحكمة رفيقة دو بوفوار وابنتها المتبناة سيلفي. في مناسبات أخرى، أسئلة بير لاقت غضبًا مفاجئًا، ففي إحدى المرات دفعتها دو بوفوار للخروج من الباب الأمامي.

استمرت بير -كحالِ جميع كتّاب السيرة- بالعودة إلى نهاية حياة دو بوفوار. هناك مقطع وصفي رائع لموكب جنازة الكاتبة عبر شوارع باريس. حتمًا، وبصراحة، سرعان ما يفسح حزنُ كاتبة السيرة الشخصي المجالَ أمام شعور الكاتبة حيث أدركت أن الفصل الأخير أصبح زائدًا: “الآن، علي أن أعيد كتابة هذا الكتاب اللعين.”

مصدر الترجمة

إعلان

مصدر المصدر
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

ترجمة: أفراح مروّة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا