محمد المنسي قنديل وأمثاله

عندما بدأت القراءة، منذ أكثر من عقدين، كنت دائمًا أقرأ وأبحث عن الكتب أو الروايات المترجمة. من بين كل الكتب والروايات التي كنت أشتريها من بائعة الجرائد، أتفقد الكتب التي هناك جميعها واحدًا تلو الآخر، أحيانًا كنت أتفحص الرواية وأقلب فيها كل عشر صفحات، لأعرف محتواها قبل أن أقرر شراءها، كنت مزاجية في القراءة بطريقة مربكة ومازلت، كانت البائعة لا تمل، كنت تقريبًا من روادها الذين يعدون على أصابع اليد لشراء الكتب، كانت لا تستهويني القراءات إلا المترجم منها، أدخل إلى مجاهل هذه العوالم كلها من كل ناحية.

مع مرور الوقت كنت أذهب فلا أجد ما أبتغيه من كتب مترجمة وأريد أن اقرأ، فكانت دائمًا الخيارات التي أمامي هي للكتاب العرب. وبدأت رحلتي مع القراءات لهم، أنقب عن الجيد منها، لم أكن قد تعرفت على كتابات محفوظ جيدًا، إلا من خلال رواية كفاح طيبة، وكانت من مقررات المنهج في المرحلة الإعدادية، قررت أن أبدأ به مع بعض الكتاب الجدد، أو الذين لم أسمع عنهم حينها، فانسجمت مع محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان، وبدأت أدخل مجاهلهم جميعًا، مع بعض المترجمات القليلة التي كنت أجدها.

ومرت فترة كنت قد توقفت عن القراءة، وعدت لأبحث عن أي كتب أقرأها، لا يهم ما هي، فقرأت لمستغماني “الأسود يليق بك“، ولأحمد مراد “الفيل الأزرق”، وكانتا كفيلتين أن تعودا بي لأتلمس خطواتي من جديد إلى عالمي، أدركت أن هناك جيلًا يحاول صناعة شيء ما.

وللحقيقة لم أكن أعرف مستغماني على الإطلاق، كنت قد قرأت لكاتبة سعودية رواية منذ فترة، كانت تصدر في ملحق منفرد مع جريدة الجمهوية، كل خميس لا أتذكر اسم الرواية جيدًا، ولكنها كانت تناقش جانب الكبت الأنثوي في الأسر السعودية، عن فتاة كانت تتخفى في زِيّ رجالي لتنطلق خارج المنزل، وتحاول أن تحقق ما تحلم به؛ لذا شعرت أن المرأة تكتب عن شيء يعبر عنها، أو قضية تخصها كامرأة، وهكذا وجدت في مستغماني، فلم يستهوني أن أقرأ مرة أخرى للنساء إلا بحرص شديد، بل أيضًا للمؤلفين الشباب.

ولأنني مزاجية جدًا في القراءة، عانيت كثيرًا لأصل إلى مبتغاي في المؤلفات الحديثة، بعد محاولات كثيرة، خدعتني وجعلتني أتعثر وظننت أن الأدب هو كل ما صدر مؤخرًا فقط، لم يكن يهمني أن أتابع الوسط بشدة، بقدر ما أجد ما أقرأه، وما أقرأه لم يكن أي شيء، اكتشفت أنني أجهل معظم الوسط، وكان هذا لا يهمني في الحقيقة.

إعلان

فجأة حطت بي الأقدار أمام محمد المنسي قنديل. كان أحد الأصدقاء قد رشح لي قراءة “قمر على سمرقند”، ترددت كثيرًا قبل أن أفعل، فغالبًا لا آخذ الترشيحات بمحمل الجدّ فأنا مؤمنة أن الأذواق مختلفة، نعم، الجيد لا يختلف عليه اثنان، ولكن ربما كنت أخشى أن تتأثر مزاجيتي في ذلك الوقت، فلا تقبل قراءتها فأنحيها جانبًا على الاطلاق!

قرأت الرواية، التي لم أجد مناص إلا أن أحبها، ارتبطت بها ذهنيًا وفكريًا، بل وأيضًا روحيًا، أبدع المنسي قنديل في كل جوانبها، التي لم يترك جانبًا يتناول الرواية إلا وأخذه بكل تفاصيله بسلاسة وحب ومعانٍ كثيرة، وجدتها من أكثر الروايات التي تصف الجغرافيا المكانية، وكأنك ترتحل معها في مدن كثيرة “طشقند، بخارى، سمرقند، حتى القاهرة والنيل”.

فتجد الكاتب يأخذك إلى المعالم الأثرية في سمرقند كمسجد “بيبي خاتون” وأسطورتها المتداولة، والمدرسة البخارية في مدينة “بخارى”، ابحثوا عن تلك البنايات في جوجل، حقيقة ستستمتعون ببنايات عتيقة، جميلة لها عبق سحري وكأنك تشتَمُّه وأنت تقرأ. ويذهب إلى جانب آخر، لينقب في السياسة وأغوارها، ولعبها الدنيئة، ليحكي عن تناحر جيوش الإسكندر الأكبر على أسطورة  “التمثال الذهبي” في سمرقند، ويتناول حقبة العصر القريب من القرن الماضي، لينتقل إلى رسم شخصيتين “علي” و”نور الله”، وذلك الرباط الذي جمع بينهما، كأنه رباط روحي منذ زمن سحيق.

وبدأت أسبح في بحر المنسي قنديل. ولكنه جذبني من تلك الملحمة، إلى عمل آخر، وليثبت أنه متميز، يأخذ القارئ عنوة وحبًا في نفس الوقت، لتنال منك الكآبة بعد قراءة روايته “انكسار الروح”، لتترك “عليًّا” في سمرقند، إلى “عليٍّ” آخر، الولد الفقير الذي كان يراوده حلم ارتياد كلية الطب، ولكن يدخل والده المعتقل، وتمتهن والدته خدمة البيوت، وتكافح لتحقق حلم ابنها.

يظل السواد يلاحق عليًّا، فلا يكاد يستقبل المرضى في المستشفي في سنة الامتياز، حتى يصاب بخبر النكسة؛ ليستقبل مصابيها مضرجين بدمائهم، أو جثثًا بلا هوية، ليدخل جيل كامل في هُوّة النكسة، وهناك ذلك المشهد الذي علق بذهني، بل وأبكاني.

“كانت والدة عليّ تستعد لزيارة والده في المعتقل، فأعدت الكثير من الطعام وطهت ما لذّ وطاب، بل ما حُرما تذوقه لمدة طويلة، حتى تعد لتلك الزيارة، كان في ذلك الوقت يقع المعتقل في الصحراء، وقد خصصوا قطارًا لتلك الزيارات، المسافة طويلة والجو حار في ذلك اليوم، وبعد وصولوهم ساروا مسافة ما، ليصلوا إلى السجن، ويخرج المأمور بعد برهة، فيخبرهم أن الزيارة منعت اليوم، ويأمرهم بالرحيل، يصاب الجميع بصمت مفجع، وفي طريق العودة كانت رائحة الطعام النتنة بدأت تنتشر في المكان؛ نظرًا للحرارة وطول مدة التخزين، فأخرجت والدته الأكل كأنها تنتف ريش حمامة بقهر، وترمي به من نافذة القطار بعصبية وانتحاب لا وصف له، وشعور بالذل والخذلان”،  كان الوصف للمشهد كافيًا لأن يجعلك تعيش بداخله، بل كانت كل الرواية رائعة بكل مقاييس الكاتب القوية.

ربما إنتاج المنسي قنديل قليل نوعًا ما، إلا إنه وبكل الطرق، لابد أن تتوقف معه كثيرًا، وبدأت أبحث عن أمثال ذلك الكاتب، فانتقلت إلى “عز الدين شكري فشير”، في رائعته “عناق عند جسر بروكلين”، الرواية التي تأخذك إلى الغربة، وجوانبها الكثيرة في عدة شخصيات، وتسردها بحرفية رائعة، وأسلوب سلس للغاية محبب للنفس وبساطة طاغية، ليصدمك بنهاية مزعجة، تعيد قراءتها عدة مرات حتى تستوعب أنك لم تخطئ القراءة.

تذهب إلى الصوفية مع “بهاء طاهر”، في “نقطة النور”، في جو روحاني، يعبر بك في أغوار نفوس بشرية كثيرة، وبعض الغموض، الذي من الممكن أن تستوعبه بعد قراءة الرواية بأيام، ولأنني آخذ فاصلًا بين قراءة وأخرى، كانت الرواية أو الكتاب يأخذ معي وقتًا، في التحليل والتفصيلات الكثيرة عدة أيام، كانت منهم نقطة النور، التي أخذت مني وقتًا كثيرًا لأنقب فيها كثيرًا.

ونأتي لتلك الشخصية التي أسرتني ليس في كتاباتها، لكن في شخصها “د.أحمد خالد توفيق“، كنت قد قرأت له “يوتوبيا” كنت أضحك وأبكي في الوقت نفسه. لكن لم تأسرني الكتابة بقدر ما أحببت ذلك الرجل عمومًا. مقالاته، روحه، مصداقيته، وبساطته. هناك سحر ما فيه. أعتقد أنه لا بد أن تُفرد له صفحات كثيرة للتحدث عنه.

أما الرواية التي أخذتني بحق كانت “حجر الكحل” لـ “محمود حسين توفيق” هذا الرجل لابد أن يأخذ مكانته في ذلك الوسط. لغته وأدبه في الحوار وتقديره للقارئ وحسن اختياره وعرضه للأمر جعلني أتعجب لما لم يأخذ حقه حتى الآن في الجوائز الأدبية. ما عرفته مؤخرًا أن هذه الرواية الآن يتم تدريسها في إحدى الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية. عمومًا نحن ككقراء نستمتع بما يكتبه.

وذهبت إلى “إبراهيم عبد المجيد”، لتعيش معه الحروب، والغارات، والأحداث الكثيرة، والخيال البارز، والجميل، لتفرد لتلك الرواية شراعًا من الحب، وتبحر في جو من الألفة بين الناس، لتفرد بساطًا سحريًا لنبذ الطائفية، وتعيش القهر، والظلم، والحرب، بطريقة أحيانًا مبكية وأخرى ساخرة. تتزود بمعلومات وشخصيات ربما لم تسمع عنها من قبل، وتدرك أن هذا الشعب، يعيش في جهل وسخرة وظلم وأكل لحقوقه الكثيرة، ومع ذلك راضٍ، ويعيش بين الحوائط في صمت، وبؤس، ونميمة، وتنقيب عن أحوال الآخرين، في تطفل مريب.

إن المنسي قنديل وأمثاله، هم من يجعلون للقراءة معنى، وللكتابة رونق ومكانة، هؤلاء الكتاب وبالتأكيد غيرهم الكثير، الذين سأكتششفهم مع الأيام، ستزدان بكتاباتهم الصفحاتُ البيضاء مع الوقت، أكثر فأكثر، ولأن القراءة فن، سأظل أبحث عن أمثال هؤلاء الكتاب وليس أشباههم.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أفنان عمر

تدقيق لغوي: ندى حمدي

اترك تعليقا