محمد التابعي … أميرُ الصحافة.. ولكن!
تحِلُّ اليوم، 24 ديسمبر، الذكرى الـ42 لوفاةِ الكاتب الصحفيّ الشهير، محمد التابعي المُلقَّب بـِ”أميرُ الصحافة المصريَّة”، وهو لقبٌ يستحقه تمامًا، سواءٌ على المستوى المهني بما قدّمه للصحافة في سنوات مجده منذ العشرينيَّات وحتّى أوائل الخمسينيَّات، وأيضًا على مستوى حياته الشخصيّة وبالشكلِ الذي كان يعيش به.
لعلّنا لا نُضيف جديدًا على الدَّور المهم الذي قام به التابعي في تاريخ الصحافة المصرية (والعربية)، حيث اختلفت تمامًا في الشَّكل والموضوع (وربَّما الإخراج) عمَّا كان معروفًا قبل ظهوره، وذلك بأسلوبه السَّلس السَّهل في كتابة المقالات والأخبار، وأيضًا السخرية اللاذعة، وقام بتحرير لغتها من التقعير والأسلوب الديواني والسجع المُبالغ فيه الذي ينتمي للقرن التاسع عشر وما قبله، فأصبحت في متناوَل ما يمكن تسميته بـ”القاريء العادي”، الذي لا يُشترط فيه امتلاك ثقافة أدبية أو مهارة لغوية كالتي يمتلكها العقّاد وطه حسين والمازني والمنفلوطي، على سبيل المثال!
ثُمَّ كان هو وجيله من رفع “قيمة” الصحفي في المجتمع، واعتباره شخص له حيثيّة، وله وظيفة “محترمة”، وليس مجرد “جورنالجي” انتهازي أو مُرتشي، يُفبرك الأخبار، أو يكتب مادحًا أو قادحًا بحسب ما يتلقّاه من أموال، ولا ما يُعتدّ به بشهادته في القضايا الجنائيَّة في المحكمة، كذلك في تعامله بـِ”نديّة” مع المصادر المختلفة، من أكبر رأسٍ في السُّلطة حتى أصغرها، لأنَّ العلاقة هنا متكافئة بين الطرفين، وهي علاقة منفعة متبادلة، لا يعلو أو يتسلّط طرفٌ فيها على الآخر.
لكنْ من ناحيةٍ أُخرى -للإنصاف- فإنَّ التابعي زادها “حبتين” عندما تعامل في حياته على أساس أنَّه “أمير” بالفعل وليس بالمجاز، والحديث هنا عن حياته العملية، وليس الشخصية، فهذا الجانب الشخصي لا علاقة لنا به، لأنَّه اختياره وكلُّ إنسانٍ حرٌ في اختيار نمطٍ وطريقة حياته الخاصة وأسلوبها، مع ملاحظة أنّ ذلك الجانب الشخصي طغى على حياته العامة والمهنية بشكلٍ أثَّر سلبًا عليه، ليس أقلّها أنه اضطر لبيع مجلّته “آخر ساعة”، والتي صنع فيها اسمه ومكانته وشهرته تحت ضغط أزمةٍ ماليَّةٍ شديدة، بسبب سفرياته المتكررة للسياحة والفسحة، ولم يلتفت لتطوير المجلّة، حتى سحب الأخوان أمين البساط من تحت قدميه، وهما في الأساس تلاميذه (كما يقول هيكل في كتابه: بين الصحافة والسياسة) وارتضى أنْ يكون مجرَّد كاتب مقال أسبوعي في جريدة أخبار اليوم حتى نهاية حياته.
يمكن تقسيم حياة محمد التابعي المهنية لمرحلتين؛ الأولى بدأت منتصف العشرينيَّات واستمرّت حتى بداية الخمسينيَّات، وفيها كان ” نجم” الصحافة الأوّل، عندما قرَّر ترك وظيفته الحكوميَّة (في قسم الترجمة بمجلس النُّواب)، وأسَّس مجلة روزاليوسف مع صاحبتها فاطمة اليوسف، ثُمَّ أنشأ مجلة “آخر ساعة”، وبعدها تأسيسه لجريدة المصري بالشراكة مع محمود أبوالفتح وكريم ثابت. وأمّا المرحلة الثانية فهي التي بدأت مع نهاية الحرب العالميّة الثانية واستمرت حتى رحيله منتصف السبعينيَّات، والتي بدأت ببيعه مجلته عام 1946 وانتهت به مُفلسًا ومريضًا.
كان هيكل -في منتصف الأربعينيَّات- هو آخر تلاميذ التابعي، وبالتَّالي كان شاهدًا على التحول الخطير الذي عاشه أستاذه من مرحلة “التوهج” إلى مرحلة “الأُفول”، وعن ذلك كتب يقول -في تقديمه للطبعة الأخيرة من كتاب التابعي: من أسرار السَّاسة والسياسة- : “إنَّ التابعي وهو يُعايش الأُمراء تصوَّر أن يُجاريهم بظن أنَّه ليس أقلَّ منهم، وهو بالفعل لم يكن أقلَّ منهم، لكنَّه كان أميرًا بالقيمة، وليس بمجرَّد لقب، لكنَّ التعامل مع هذا الوضع يقتضي حدودًا واضحة، وانضباطًا لا تساهل فيه، ومراعاةً للمظهر والجوهر”، فالتابعي كان يعيش -بالفعل والقول- حياة الأمراء، وهذه عيشةٌ لها تكلفتها الباهظة وضرائبها التي يجب أن تُدفع، عاجلًا أو آجلًا، ومن هنا فإنَّ القاريء المُدقق لكتبه سوف يلحظ ذلك جيِّدًا، وبسهولة، أنَّ غالبيَّتها كتبٌ أدبيَّةٌ و”عاطفيَّةٌ” بشكلٍ أو بآخر، ومع ذلك فإنَّ أحداثها تدور غالبًا في بَهوٍ وباراتٍ ومطاعمَ الفنادق الكبرى في القاهرة ولندن وباريس وسويسرا، وفي مواسم الصيف حيث البحر والرمل، ومواسم الشتاء حيث التزلُّج على الجليد، وعلى ضفاف البحيرات الخلّابة!
وعلى الرغم من التجربة السياسيَّة الكبيرة التي عاشها الأستاذ التابعي زمن الملَكية، وفيها كان شاهدًا على فترة حكم فاروق، من بدايتها إلى نهايتها، إلّا أنَّه لم يسجل شيئًا له قيمة عن ذلك العصر، باستثناء كتابه عن أحمد محمد حسنين، رائد الملك ورئيس ديوانه وعشيق أمه، “من أسرار الساسة والسياسة”، وهو كتابٌ يكشف في جانبٍ منه، كما يقول هيكل أيضًا في مقدِّمته، قصة الصحفي محمد التابعي أيضًا، فلقد كتب ما كتبه “من موقع المعايشة، وفي بعض المشاهد فإنِّه هو نفسه كان جزءًا من الصورة”، ثُمَّ هو فوق ذلك يكتب من موقع المدافع؛ وربَّما “المُعجب”، بقصة حسنين باشا، ذلك “الفقير” الذي استطاع أنْ يسيطر على قصر الملك فاروق، عاطفيًّا وسياسيًّا.
للإنصاف، إنَّ محمد التابعي ليس متفرِّدًا بهذا النَّمط والأسلوب، بل هو نمطٌ وأسلوبٌ مُتكرِّر في ذلك الجيل من الصحفيين، مثل مصطفى أمين ومحمود أبو الفتح، وربَّما هيكل، وفي أجيالٍ كثيرة بعده، الذين يرتبطون ب”الحكّام”، بصورةٍ غير طبيعيَّةٍ وغير صحيَّة، فتتأثَّر بذلك رؤيتهم للأمور وتقييمهم لها.
إنّ الصحافة جزءٌ لا يتجزَّأ من الحياة السياسيَّة في أيِّ بلد، واقتراب الصحفي من السياسي أمرٌ طبيعي ومطلوب، لكن على الصحفي دائمًا أن يُراجع نفسه، بين الوقت والآخر، ليعرف حدوده وطبيعة دوره، وإلّا فإنَّ الأمور سوف تختلط عليه، وبالتالي تتعقد حياته، وبما أنَّه لا أحد يُخلَّد على كرسي أو في منصب، فإنَّه سيأتي زمنٌ على “أمراء الصحافة” ولا يجدوا فيه ثمن العلاج، بعد أنْ كانوا لا ينزلون إلّا في الأجنحة الملَكية في الفنادق الكبرى!