محاولة لفهم الاغتراب المجتمعي
“لقد تعبنا من اغترابنا عن كلّ شيء يحيط بنا، لكنّ تَعَبَنا الأكثر هو اغترابنا عن دوائرنا وحتى عن ذواتنا في مجتمع يطالبنا أن نكون صورة طبق الأصل من بعضنا البعض وكلّ مختلف فيه منبوذ.” كم مرّة ردّدنا هذه الجملة على مسامع البعض وكم مرة رددناها بيننا وبين أنفسنا؟ هل جرّبت يومًا أن تشعر بـ الاغتراب عن محيطك؟ عن عالمك؟
يبدأ الأمر من الصِّغَر حين نجد آباءنا وأمهاتنا يربوننا لنصبح مثل فلان الطبيب أو أن نحصل على درجات أعلى من أحد أقربائنا، وكأننا نتسابق على المرتبة الأولى، بل ويمتدّ الأمر إلى فرضهم علينا نمط معيشتنا حتى نكبر؛ متى نأكل، متى نشرب، متى ننام، ماذا نلبس، من نصادق ومن نصاحب! لا أنتقد تلك الحياة، ولكنها تمهّد لجعلنا جميعًا نُسَخًا بالكربون من آبائنا وأمهاتنا، بل ونصبح نسخًا مكررة من بعضنا البعض دون تمييز، فالكلّ يتسابق ليحصل على المرتبة الأولى في الدراسة، والكلّ يصادق المتميزين علميًا، والكلّ ينبذ المستويات الأدنى منه والكلّ يبتعد عن المشاغبين.. وكأنّ الجميع يتسابقون ليصبحوا مميّزين أخلاقيًا! وعلى صعيد موازٍ، نجد العكس تمامًا، فنجد قلة متمردة خرجت عن القطيع فصارت أسوأ في نظر الكلّ، ولن يهتم أحد، ذات يوم ما، للسبب وراء تمردهم على الأشياء الصغيرة البسيطة التي كانوا يحكمون بها علينا بأننا “مؤدّبون” .. والنتيجة أنه لا أحد يعلم السبب وراء تمرّدك سوى نفسك!
ثمّ نكبر وننخرط داخل دوائر الشللية، وهنا يختلف الأمر كثيرًا، فمنّا من كان ينأى بنفسه عن أيّ شلّة، ومنا من كان يختار دائرته ومنا من كان يريد مجرّد الانخراط في دوائر كثيرة لأسباب متعددة؛ أوّلها القبول الاجتماعي وعدم الإحساس بالنبذ وسط رفقاء المراهقة الذين دائمًا ما يتنمّرون على المختلف عنهم. أما المختلف فياولداه! سرعان ما ينمو لديه شعوره بـ الاغتراب حتى وسط دائرته المقرّبة لمجرّد أنه ليس نسخة مكررة، الذي يشعر بالوحدة كلما تقرّب من مجموعة ما لعدم تماشي أفكاره معهم أو لبعده الوجداني عنهم.
ثمّ نكبر ونصير شبابًا وتتغير أولوياتنا ودوائرنا بحكم الحياة العملية والمجالات الكثيرة التي تفرّقنا فيها. والأغلب يبحث عن تجديد دوائره بما يتناسب مع نضجه الحالي، والبعض يبذل المزيد من الجهد لاستمرار الدوائر القديمة بكلّ تشابكاتها، لكن هناك قلة ينمو لديها شعورها بـ الاغتراب حتى وسط كلّ هذه التغيرات المحيطة في الدوائر القريبة، أولئك الذين شعروا بالوحدة في دوائرهم في مراحلهم السابقة، واستمرّت لديهم تلك المشكلة وتنامت لتصل لعدم تكيفهم الجزئي أو الكامل مع المجتمع المحيط وما ينتج عنه من عدم انتقائية تؤدي إلى مزيد من الانغلاق الإجتماعي.
وفي هذا، كلنا نحاول اكتشاف أنفسنا واكتشاف عوالمنا الجديدة التي اخترناها أو فُرضت علينا، على حدّ السواء. وبعد اكتشاف ذلك نصبح في مواجهةٍ أمام أنفسنا لنجيب على السؤال المهم وهو: “هل لديَّ القدرة على التكيف رغم اختلافي؟”.. فلا بدّ وأن نكون جميعًا مختلفين، ولا بدّ أن نتقبّل اختلافنا واختلافات الآخرين وأن نعمل معًا على الاندماج في محيطاتنا المختلفة رغم ذلك الاختلاف، حتى يكون لدينا القدرة على العمل معًا وتحيقيق الاندماج المجتمعي. فلا كلّ الذين لديهم القدرة على التكيّف والتعايش مع المجتمع المحيط، أيًا كانت سماته وأدواته، نسخ مكررة ولا هم متلوّنون. ولا أولئك القلّة المغتربة لهم ذنب أو لديهم عيب في أن يصبحوا هكذا، فالعيب الأكبر على محيطهم الذي لم يحاول فهمهم أو إدماجهم لمجرّد اختلافهم عن المجموع.