محاولة لترويض الأفعى “مباحث في التجديد السرديّ”
“نَحن في زمن السرد!” جُملة قالها لي أحد أصدقاء المَقْهى عَلى سبيلِ المزاح، لَكِنَّها -في بساطتِها- كانت أكبر مِن مَزحَة، وأصغَر مِنْ كوَّة في قلبِ كَهف. وظَلَّت تُطاردني، فرُحتُ أبحَث عَن المعنى المُعجمي لكلمةِ السرد في القصَّة والرواية ووجدتها تساوي حَكْي، سَرَد الحَديث تساوي رواهُ وعرضهُ، قصّ دقائقه وحقائقه، سَرَد الدّرع تساوي نسجها. فما استنتجته مِن البَحث عن معاني كلمة سرد المُختلفة الاستخدامات، أنَّ جميع المعاني تشترك في شيء واحد وهو “الخَلْق”.
وسريعًا، مِثل كُل شيء، أصبَح السَّرد رُكنًا فَنيًّا أساسيًا في حركة الإبداع، فتكوَّنت مدارس وانتشرت، واندثرت أخرى تَحت وطأة الحداثة. فما أرمي إليه هو ارتباط السرد بالحركة الزمنية التي نعيشها الآن، يقول عنترة في مَطلع مُعَلَّقته التي كتبها مُنذ أكثر مِن 1450 عام:
“هَل غادر الشعراء مِن مُتردَّمِ!”
أيّ هل ترك لنا مُبدعوا العَصر -الجاهلي- قولٌ يُحكم نَسجه ويُقال؟ طَيِّب، تَخيَّل أن يفتتح عنترة مُعلقته بخبرٍ عن أنَّ الأفكار كُلّها استُهلِكَت، ويُكمِل مُعلقته بأغراضِها المُكرَّرة والمعهودة في القصيدة الجاهليَّة. ولكن ما الَّذي جَعل قصيدته تِلك أشهر المُعلقات! لا شيء سوى طريقة العَرض وخلقهُ لجمالياتٍ مُختلِفة عَمَّا سبقوه.
إذن، فنحنُ وبعد أن كُتِبَ كُل شيء، وغدت الأفكار محضَ فطرةٍ لا طبيعيّة، نبحث عن جمالياتٍ جَديدة، ونصوصٌ سَرديَّة مُختلِفة، أكثر تميُزًا.
بعيدًا عن الشِعر وعنترة الآن، فالسَّرد في مُنحناهِ الزَمنيّ لَمْ يكن سوى وسيلة لتجديد خلايا دم الإبداع.
وكي لا يتسع الأمر مِنّي، ويفوق قُدْرتي في العَرض، الخيطُ الذي سنتبعه في تحديد التَجديد السَردي، هو نَصٌ مُجَدِّد نستشف مِن خلاله القدرات السرديَّة وعلاقته بنظريَّة الخَلق.
أخذت المُقَدِمة حَيز كَبير مِن المقال، وقد تكون مُمِلَّة للبعض، ولكنَّها ضَروريَّة.
* * *
“سورةُ الأفعى” للكاتِب مصطفى الشيمي. هي روايةٌ مَصريَّة صدرت قبل أقل مِن عامين، أُبدِعَت لتُصبِح علامة جَديدة مؤثرة في وَرقة الإبداع السَرديّ المَصري والعَربي. فهُنا، مُحاولة متواضِعة لتحليلِها والوقوف على جماليّاتها السَّرديَّة.
ومِن المَعروف، أنَّ لعنوان النَّص دورًا كبيرًا في مَدخله التحليلي. واختيار الكاتِب للعنوان إمَّا أن يكون موَفَّق، أو مَحض خيالاتٍ لا علاقة لها بالنَّص، دَعْنَا مِن الثانية الآن ومِن مقاييس الاختيار، ولنُحَلِّل مُباشرةً العنوان الذي جاء موَفَّقًا، غرائبيًا ،ومُحَيِّر.
سورةُ الأفعى، والكلمة الأولى لسوءِ حَظِّي لَم تُشَكَّل، حيثُ أنَّ للكلمة معانٍ كَثيرة تختلف بإختلافِ ضَبط الحروف، فيُمكِن أن تعني شِدَّة الشيء، وحِدَّته. وقد تعني الأثر وعلامته. وقد تعني الإطار المُحَدَّد المُتجمِّعة الآيات القرآنية فيه. وتعدُّد المعاني هذا يجعلنا أمام لُغزٍ حَقيقيّ، لِمَ اختار الكاتِب كلمة “سورة” بالتحديد؟ وبالنَّظر إلى الشِق الثاني مِن العنوان، وهو “الأفعى”، ويحلو لي الكلام عَن الأفعى..
رَمَز الكاتِب بالأفعى كرمزٍ للتضليل، والمراوغة، والأهم هو أين الأفعى في النَّص؟ عِندما تُحينُ الهاية يُخبِرنا الكاتِب، رُبَّما في الصفحاتِ الأخيرة، لَكنِّي أُراجِّح أنَّ الشخصيات كُلَّها أفاعي.
وبدمجِ شقَّي العنوان سَوَرْةُ الأفعى، سُورَةُ الأفعى، سَّورَة الأفعى، أيُّهم؟ وللضلالِ معنى، حيثُ أنَّ الاسم لَم يكن مَحض مُصادفة، أو حظ موَفَّق، فقط اعتبرتها كُلِّ المعاني في واحِد، فهي شِدَّة المراوغة -باعتبار الأفعى رمزًا للمراوغة- وهي الأثر الذي تتركهُ الأفاعى، فكُلِّ شَخصية بَخَّت سُمَّها على الأخرى تترِك أثر عَنيفٍ، حَوَّل الضَحيَّة بدورِها إلى أفعى أشدُّ وأخطَر سُمًّا.
* * *
وبعدما نتخَطَّى حدود عنونة النَّص، نَجد أول ما نصطدم بهِ جملةٍ ماكِرَة، يَهدي الكاتِب روايته لأطرافِها، فهُم أحق بِه.. إلى الغُرابِ، والغَريبِ، والمَسخ..
ولَن نَقف عِندها كَثيرًا، لَكِن ما كَثَّفه الكاتب، ويَجب أن نُشيد به، هو تَجميع كلِّ شَخصيات الرواية في ثلاث صِفات؛ الغراب، الغَريب، المَسخ. أيّ إنَّ هؤلاء الثلاثة، ليسوا ثلاثة طَبيعيّين، بَل هُم كل شخصيات العالم الروائي، مُجتمعين في جُملةٍ مِن ثلاث كلِمات وحَرف.
* * *
بسم الله .. السَّاحِرُ الأوَّل .. عَلَى غيرهِ لا نعوَّل
الاستهلال مِن أهَمّ الفقرات السَرديَّة في علاقةِ القارىء بالنَّص، وهُنا نَجِد السَّاحِر الأول يتلاعَب بكلِّ شيء، ويَخرجُ الغَريب مِن قَبرهِ أمام الحضور، فيفر الجَميع إلَّا الشيخ الذي سيحكي عَن هَذي الحادثة مرارًا.
ثُمَّ مَشى الغريب والشيخ، وظَلَّا يحكيان..
والدموع تنهمر كماءٍ زُمام..
مِن الفصلِ الأول يتبيَّن لنا الطريقة التي كُتِبَ بها النَّص، طريقة أشبَه بالرَّقص عَلَى حبالٍ رفيعة جدًا، بَين المعنى والآخَر شعرةِ حَبلٍ لا مرئيَّة، اللغة الشعرية أفعى.
* * *
بسمِ خالق الدود، عدو ابن آدَم اللدود.. لا مهرب أو سدود
ينتمي النَّص إلى الواقعيَّة السحريَّة، هَكذا تُمليني التصنيفات الأدبيَّة للنصوصِ الكتابيَّة، ولَكِن، فِكرة الانتماء أو التبعيَّة لا تعرفها الأفعى، حيثُ أنَّنا لا يجب أن نُجزِم أنَّ النَّص يتبع مَدرسة الواقعية السحريَّة وبِه بعضٌ مِن الديستوبيا، وفي أحيانًا أخرى يوتوبيا، وآخَر واقعيَّة اجتماعيَّة.. نَصٌّ أفعى، متلوِّي، صعبُ المسك والتحديد، رُبَّما هو شيءٌ خَليط مِن التصنيفات جميعًا في قالِب تَجريبي سيريالي غَريب.
وهذا هو أحد أركان التَجديد السَرديِّ، تجديدُ الأدواتِ وستتجدَّد الأغراض تباعًا.
* * *
بسم الإنسان .. السَّاحِر الثاني .. البهلوان، المغرور، الفاني.
ومِن حارةِ الشخَصيات، نستطيع أنْ نَصِل إلى شارع السَّرد. وما يَجب النَّظر إليه أولًا في موضوع الشخصيات، هو قُدرَةُ الكاتِب على التَّقمص، قُدرَته على تَمثيل دورالشَيخ، دور الميت، السَّاحر، الله، العاهِرة، المَسخ.. دور الأفعى.
وهَذي الروح التي نفخها الكاتِب في شخصياته ساهمَت في نَسج بناء سَردي يُعَوَّل عليه كبناءٍ مُتكامل حَسِّي. فالتقمُّص الجيّد يؤدي إلى البناء الجيّد، والبناء الجَيّد يؤدي إلى تكوّن روابِط تُعقَد وتنفَك مَرات عديدة، وهذه الروابط إن كانت قويَّة ينتج عَنها أحداث وتنازُع وصِراع، والصِـراع في الرواية يبدو وكأنَّه حُمَم بُركانيّة تارة، وكأنَّه ماءًا باردًا تارَّة، فالماء إذا زادت درجة برودته فوق المعتاد، يَقتل. ثُمَّ مِن حَدَب الأحداث تتوَلَّد الذروة، النَّص كُلَّه ذروة، وهذا يُحسب له.
مِن المَرَّات القليلة التي أتأكَّد وأنا أقرأ، أنَّ النَّص يَكتب نَفسه.
النَّص أفعى.
* * *
لا أحد مثلي.. لا أحد معي.. لا أحد ضدي.
تقول الكاتبة سارة واترز: الإيقاع مسألة حاسِمة، الكتابة المُنَمَّقة وحدها لا تكفي؛ فبوسعِ دارسي الكتابة أن ينتجوا صفحة مِن النثر المصقول على مستوى الحِرْفَة، ولَكِن ما يفتقرون إليه أحيانًا هو أن يصحبوا القارئ في رحلةٍ مُمتعة.
فالإيقاع: هو الحِبال التي تُغَلِّف وتُحزِّم الأحداث والشخوص والصِراع والسرد، فإذا تراخت الحِبال ترَهَّلت جوانِب الحكاية وغَدت كسيدةٍ بدينة لا تملُك إلَّا مقعدة ثقيلة تَجلس عَليها.
والإيقاع في هَذا النَّص غريب، حيثُ أنَّ التجريب كَثيف، واللغة والصورة الشعرية تَعمل عَلى إبهام معانٍ كَثيرة وتَرميز النَّص، والإيقاع مُنذ البداية مشدود حَتَّى النَّفس الأخير. ومع شخوص كشخوص هَذا النَّص يَصعُب السيطرة والوقوف عَليهم، حيثُ أنَّ حدودهم غير موجودة، وأدواتِهم مُبهَمة. ولَكِنَّه حَدَث، ومَهَّد الإيقاع الطريق للسَّـرد، الاثنان مُترابِطان، والكاتِب عَرِفَ مَتى يتدخل أحد العناصر، ومَتى يَختفي، ومَتى يَمُرَّ الليل سَريعًا، ومَتى يَمكُث.. الإيقاع أفعى.
* * *
السرد أفعى.
إذن، فالكاتب خَلَق مِن شخصياته السَّرد، لا السَّرد مِن الشخصيات، بمعنى أنَّه خَلقهم ثُمَّ جاء بِهم صَفًّا واحِدًا في رأسه، وبدأ بتجميع فُتاتهم مِن الهواء، ثُمَّ كَتبهم، أو هُم كتبوا النَّص، لا فَرق، الأهم هو مَدى تماشي السَّرد مَع الأفكار، والشخصيات، والأحداث والتقمُّص.
وعَلَى هَذا فالإبداع السَرديّ التَجديدي انتعش بهَذا النَّص الحداثي، النَّص الَّذي غَيَّر وَضع الفكرة بسَردٍ مراوغ، فبَدَت جديدة. وجاء مُشَجِّعًا لكُلِّ مُبدع لديه القدرة عَلى حَملِ راية التَجديد، والسَّير بِها.
السرد أفعى.
إذن فالتجديد السَرديّ يُجَدِّد خلايا الإبداع حَسب الحركة الزَمنية، ويَجعل النصوص أكثر تمَيُّزًا في لوحةٍ يَرتبطُ بِها القَديم بالحديث، ولا عزاء لكُلِّ مَن يُقَدِمون “أدب السبوبة” وكل مَن يمارسون “تسليع الثقافة”.