مجموعة من العبيد البيض يتولون حكم مصر
كيف قامت مجموعةٌ من العبيد البيض الذين جاءُوا من الهضاب التركية بتولّي قيادة جيوش مصر؟ إلى أن وصلوا في القرن الثالث عشر إلى مراكز الحكم نفسها، ثمّ صاروا الحكّام الذين استخدموا السيف بديلًا للقانون، وجعلوا القاهرة أُولى العواصم الإسلامية، ولاتزال آثار القاهرة المملوكية تشهد على العظمة العمرانية لعصرهم.
عندما امتدّت الهيمنة العربية الإسلامية من بلاد السّند إلى الأندلس بإسبانيا؛ احتاج قادة الجيوش العربية إلى أعداد كبيرة من الجنود، وقد وجدت وفرة من الجنود المرتزقة لدى قبائل آسيا الوسطى التركية. ولمّا كان هؤلاء المرتزقة يُباعون منذ الطفولة جرى العرف على وصفهم بالمماليك -أي العبيد- للتفرقة بينهم وبين العبيد السود الذين حملوا تسمية “السودانيين”، فكان معلومًا أنّ المماليك من العبيد البيض.
وفي الحقبة الأخيرة من القرن السابع الميلادي تواجد آلاف من هؤلاء العبيد في البصرة، وظلت أعدادهم تتزايد ما بين القرنين الثامن والعاشر الميلادي، وازدادت في نفس الوقت قوّتهم وتأثيرهم. ثم أصبح المماليك يُستخدمون في قيادة الجيوش وفي إدارة المقاطعات المنضمة للخلافة الإسلامية حتى أنّهم استطاعوا عام 861م خلْع الخليفة العباسي واستبداله بآخر، كما استطاع المملوكي “ابن طولون” تولي حكم مصر عام 868م؛ فحكمها حكمًا مستقِلًا عن الخلافة.
جاء الفاطميون إلى مصر من إفريقيا -من تونس تحديدًا- وأنشأ جوهر الصقلي القاهرة، وكان للدولة الفاطمية مماليكها أيضًا.
وكذلك كان الحال مع من تولّى الحكم من بعدهم: الأيوبيين وصلاح الدين -الذي استخدم مماليك مصر بوفرةٍ في حروبه- فوصفهم ابن حوكل بأنهم “أغلى عبيد في العالم”، حيث يجب استبدالهم دائمًا بأقوى منهم، ولكن بسبب تواجدهم بكثرة في مصر وقت كان الشرق الأوسط كله واقعًا تحت تأثير الحروب؛ بسبب غزوات السلاجقة والصليبيين أصبحت مصر وعاصمتها أقوى دولة في الشرق الأوسط، إلى أن صارت الشام ذاتها جزءًا من الدولة المصرية؛ وهو ما أدى إلى توجيه الغزوات الصليبية إلى مصر.
عقب هزيمة الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع في المنصورة، وبفضل قوة الجيش المصري بمماليكه عام 1250م، بدأت الخلافات تدبّ بين صفوف المماليك الذين انقسموا إلى مجموعات. ونذكر تأسيس مجموعة المماليك البحرية؛ نظرًا لتحصّنهم بجزرٍ على ضفاف النيل، وبدأت ممارسة الاغتيالات بينهم، ومثال ذلك: ما قام به “سيف الدين قطز” للانقلاب على الحاكم ثم تولّى حكم مصر، وفي تلك الأثناء دخل المغول إلى بغداد وقتلوا الخليفة العباسي، ثم استولوا على الشام بالتآمر مع الصليبيين المتواجدين في عكا. إلا أنّ المماليك انتبهوا للخطر؛ فقام قطز بالخروج بالجيش المصري لمواجهة المغول فانتصر عليهم في عين جالوت عام 1260م. وبعد المعركة بأقلّ من شهرين قُتل قطز بعد أن تآمر عليه الظاهر بيبرس -الذي تولى من بعده حكم مصر-.
تولى بيبرس حكم مصر من 1260م إلى 1277م، وقد وجه جهوده في تنمية التجارة الدولية عبر القطر المصري؛ للتحكم فىي التجارة بين الشرق والغرب. وكان تجار البندقية أهم من تعامل واستخدم طريق الحرير عبر مصر فنمت التجارة العالمية؛ بفضل النظام الذي فرضه بيبرس على البضائع العابرة إلى مصر.
ثم استطرد المماليك النشاط العسكرى فقاموا بتحصين الحدود المصرية مع ليبيا والنوبة، وانطلقوا إلى تحرير بقية بلاد الشام من المغول، وكذا قاموا بتحرير عكا من الصليبيين على يد القائد المملوكى: خليل “مؤسس خان الخليلي”، واشتهر بعد ذلك عدة أمراء وسلاطين من المماليك مثل: الناصر قلاوون إلى أن قام السلطان برقوق بضرب المماليك البحرية واستبدال سيطرتهم لصالح المماليك البرجية.هكذا كانت السيطرة لمن يملك قوة السيف وليس لمن يحتكم للعدل والقانون ولكن لم تؤثر تلك الحروب الداخلية على قوة وهيمنة الدولة المصرية، وكانت مصر تحكم معظم أراضي الجزيرة العربية والحجاز وكل سواحل البحر الأحمر، كما كانت تسيطر على كلّ بلاد الشام، وتحولت القاهرة في ذلك العهد إلى أكبر مدينة في العالم حيث زاد تعداد سكانها عن النصف مليون. ويصفها ابن خلدون قائلًا:
“من لم يرَ القاهرة لا يعرف قدْر العرب والمسلمين، فبيوتها وقصورها ومساجدها وكنائسها تمثّل عرش الملك الذي يضيئه القمر والنجوم والمعارف”.
وبالفعل أصبحت القاهرة المملوكية بمعالمها المعمارية المتميزة، وبتُحَفِها الفنية في كلّ أرجائها تمثّل قوة جذب لكل العالم من غربه إلى شرقه. وبالإضافة إلى الفنون العمرانية نمت الفنون الحرفية في كل المجالات، واشتهر الحرفيون عالميًا بفنونهم؛ حتى تحولت معاملهم إلى مراكز لتصدير منتجاتهم إلى بلاد الصين وآسيا وبلاد أوروبا كلها.
بدأ تدهور العصر المملوكي في مصر مع التدهور الاقتصاديّ للتجارة والأعمال الحرفية، ففي عام 1429م أرادت الحكومة الاستحواذ على تجارة أكثر السلع مرورًا بمصر: الفلفل والتوابل، ومنع تجّار القطاع الخاصّ من ممارسة تجارتهم مع أوروبا؛ فبدأت التجارة تتدهور لِما فُرض عليها من رسوم جديدة، وتوقّفت التجارة البينية تمامًا بعد أن اكتشف فاسكو دي جاما الطريق البحريّ جنوب رأس رجاء الصالح، وانتقلت إليها السفن التجارية هروبًا من العبور عن طريق مصر رغم طول المسافة، وانتقل مركز التجارة الأوروبي من البندقية بإيطاليا إلى البرتغال.
وهكذا أصبحت القواعد الضريبية المصرية غير محفزة لاستمرار مرور طريق الهند عبر القطر المصري. وقد حاول السلطان قنصوة الغوري إرسال البحرية المصرية لمحاربة الأساطيل البرتغالية في الهند ولكن دون جدوى، وأدرك السلطان العثماني: سليم الأول خطورة مصر؛ فأرسل جيوشه لاحتلال الشام ومصر عام 1517م وأنهى قوّة المماليك بشنق آخر سلطان مملوكي: طومان باي وسط الجماهير.
ومنذ هذا التاريخ عاد المماليك إلى وضعهم الأصلي في خدمة السلطان، ولم تقُم لهم دولة جديدة إلى أن جاء نابليون إلى مصر عام 1798م وحاربهم، ثم تولّى محمد علي الحكم وقام بقتل ما بقي من المماليك. هكذا قامت الدولة المصرية في عصر المماليك وتحولت إلى منارة للتقدم والرقي والصناعة والتجارة، رغم العديد من الحروب! وهكذا انتهت نتيجة الجشع فعاد المملوكي المصري إلى صفته الأولى: “العبد الأبيض”… ولنا في التاريخ العبر.
تدقيق لغوي: ياسمين الشريف.