ماذا نعني ب مُفارقة EPR في الفيزياء؟
بين التفاحة والقمر
شهد مفهوم الجاذبية النور على يد الرجل العبقري نيوتن، حيث صاغ تلك القوّة بشكل رياضي، فبيّن أن سببّ سقوط التفاحة على الأرض وسبب دوران القمر حول الأرض هو ذات السبب، جاذبية الأرض. اعتقد نيوتن أن مجال الجاذبية الأرضي لحظي، فهو لا يأخذ أي زمن عند إنتقاله من جسم لآخر، أي يقطع المسافات بلا زمن .
ثم صاغ نيوتن قوانين الحركة الثلاث، التي بفضلها يُمكنُكَ أن تعرف أين سيكون موقع أي جسم في اللحظة القادمة، فقط عند معرفتكَ بحالته وخصائصهِ الحالية. ذلك ما حدى بالعالِم الفرنسي بييغ لابلاس أن يدعّي بأنهُ لو أُعطيت كُل الشروط البدئية لكوننا هذا، كُل تفصيلةٌ مُمكنه لعقلٍ جبّار، يُمكن لهُ حينئذ التنبؤ بالدقة لما يؤول إليه كوننا وما هو مُستقبله.
سيطرت عندئذ السببية الحتمية، فلكل شيء سبب و كُل الحوادث التي حدثت كان من المُفترض أن تحدث لتوفّر أسبابِها، و كُل سبب مؤدّاه نتيجة مُعينة .
ولادة ميكانيكا الكم
ظهر مفهوم المجال (الحقل) ثُم تبلور على أيدي عُلماء القرن التاسِع عشر، فكان هُناك مجالان كهربائي و مغناطيسي. ثم تبين لاحقاً أن كل منهما يولد الآخر و بعدها جُمع المجالان في قوة واحدة على يد العالِم ماكسويل و كشف حقيقة أن الضوء طيف من أطياف المجالات الكهرومغناطيسية و يسير بنفس سرعتها في الفضاء أي بسرعة 3*10^8 متر بالثانية .
في تلك الأثناء و في بداية القرن العشرين ظهر مفهوم جديد، ميكانيكا الكم، ظهر ذلك المفهوم بعد العجز الكبير لـميكانيكا نيوتن الكلاسيكية، فبيّن ماكس بلانك أن الطاقة لا تسير في الفضاء بشكل مُستمر بل بشكل مُتقطع وكل قطعة من تلك القطع أو الكمّات تُسمى فوتوناً، و كل فوتون يحمل كمّاً من الطاقة يساوي ترددهُ في ثابت الفعل و هو الثابت الذي أوجدهُ بلانك ويساوي 6.04*10^-34 .
الجاذبية في ظل مفهوم الزمكان
ومن جهةٍ أُخرى، فمنذُ زمن نيوتن و لِحد بداية القرن العشرين كان مفهومي الزمان والمكان مفهومان قائمان بذاتيهما و لا يعتمد أحدهما على الآخر أبدًا، بل هُما يُشكّلان مسرحًا تحدث فيه الأحداث لا هُما يؤثران في الأحداث و لا الأحداث تؤثّر فيهما، فهُما مُستقلين تمامًا.
آينشتاين و في سنة 1905 بيّن خطأ ذلك المفهوم مُعتمدًا على معادلات لورنتز، فأوضح أن الفضاء و الزمان يؤثران في الأحداث و يتأثران بها، و كل القوانين الكلاسيكية(قوانين الميكانيكا و الكهربائية و الثرموداينمك) صحيحة في أي مكان في الكون و لا يُمكن لأي سرعة في الكون أن تسبق الضوء بسرعته. فالزمان و المكان صارا كنسيجٍ يتفاعل مع المادة و تتفاعل معه، يتلوى نسيج الزمكان وينطوي تحت وطأة كُتلة المادة، ذاك التشوه في النسيج هو ما يُشكّل الجاذبية للأجسام .
نضوج ميكانيكا الكم
أما ميكانيكا الكم فبدأت بالنضوج على أيدي كُلٍ من بور و هايزنبرغ و شرودنجر؛ فبعد أن عمّم دي بروغلي ثنائية جسيم-موجة من إنحصارها للضوء فقط إلى تعميمها لكل المواد من أصغرها إلى أكبرِها، وبيّن أن طول موجة كُل جُسيم ما تتعين بمعرفة زخمه؛ التقط شرودنجر الخيط من بروغلي و صاغ قانونه الرياضي الذي يصف حركة الدقيقة الكوانتمية بالموجة المُتّبعة لها و عرف فيما بعد بـ ” الميكانيكا لموجي “.
وفي تلك الأثناء انبثق على يد هايزنبرغ أهم مبدأ في ميكانيكا الكم مبدأ اللايقين و صيغتهِ العامة أنهُ
كلما زادت معرفتنا بكمية فيزيائية معينة قلّت معرفتنا بكمية فيزيائية أُخرى و كلما زادت الدقة في تحديد حالة فيزيائية مُعينة زادت اللادقة في تحديد الحالة الأُخرى.
أما بور فقد صاغ عدّة مبادئ كمبدأ التكميلية “الوجهين الذين تظهر بهما الدقيقة الموجيه (الجسيمي و الموجي) يُلغي أحدهما الآخر و لكن يُكمّل أحدهما الآخر” و مبدأ التطابق “ان أي نظرية تصح في حقل مُعين لا تفقد صحيتها فقداناً تاماً بنشوء نظرية أخرى بل تصبح حالة خاصّة لها”.
يمكنك من هنا قراءة مقال عن كتاب مبدأ الريبة(اللايقين)
مدرسة كوبنهاجن
بعد تلك النظريات العديدة التي سِيقت لتفسير العالَم الصغروي، أدرج هؤلاء العلماء فرضياتِهم تلك تحت مُسمى “مدرسة كوبنهاجن”. تلك المدرسة كانت تضم عصبة من رواد ميكانيكا الكم التفوا حول نيلز بور، و أرسوا عدّة فرضيات و مبادئ تخص ميكانيكا الكوانتم .
ظهرت عدّة مشاكل في تلك المبادئ منها مشكلة القياس؛ الألكترونات حسب مبدأ دي بروغلي تسلك السلوكين الموجي و الجُسيمي، هُناك تجربة طُبقت من قبل العالمين دافسون وجيرمر لإثبات هذا الكلام و فعلاً تبينت صحيّته في التجرِبة المشهورة تجربة الشق المُزدوج، تخبرنا هذه التجربة أن الألكترونات تخرج من فتحتي كل شق وتصنع تداخلات على الشاشة، والتداخل-كما هو واضح- صفة موجية وليس جُسيمية، ولكن حين يتم رصدها ” قياسها” تُغير الألكترونات من طبيعتها الظاهرية الموجية إلى الطبيعة الجُسيمية. فما الذي حدث فعلاً ؟؟
جاء تفسير كوبنهاجن يقول أن
الجسيم لا يُمكن تحديده بدقة، فحقيقته تظل احتمالية تذبذبية قبل القيام بالقياس “الرصد”
حيث يقول نيلز بور أنه لا يمكن الحديث عن الشيء أو التنبؤ بوجوده ما لم يتم قياسه. وبالتالي إن من غير الممكن الفصل بين حالة الجسيم ووضعه والقياس الذي يُجرى عليه، فكلاهما يخضعان إلى نظام واحد. بعدها تطور مفهوم نيلز بور حتى أصبح الإحتمال جُزءًا لا يتجزء من بُنية الواقع الكمي ، إذ لم يعد يفسر بوصفه قياسًا للمعرفة البشرية أو الجهل، بل هو جوهر ومحتوى العالم المجهري. فالواقع الكمي واقع إحتمالي.
الله لا يلعب النرد
آينشتاين يرفض ذلك الكلام رفضًا قاطعًا ونهائيًا، وخصوصًا مبدأ هايزنبرغ، مبدأ اللايقين، “إن الإله لا يلعب النرد“ عبارة أطلقها آينشتاين مُتصورًا أنهُ لابد من إمكانية تحديد المتغيرات الديناميكية في العالم تحديدًا دقيقًا، لذا عزم على إظهار أخطاء تلك المدرسة فأخذ يُهاجمها بالحُجّة تلوَ الحُجة.
أحد البراهين التي جاء بها آينشتاين و روزون و بودولوسكي فيما سُميت لاحقاً مُفارقة EPR؛ (إي، بي، آر مختصر لاسم آينشتاين و زملاءه الواضحة في الصورة) كان ذلك البرهان قد زعزع مدرسة كوبنهاجن وقلب بيض ايامهم سودًا، فهو مُتناسق جدًا بطرحه و معقول جدًا، حيث تنص المفارقة – ببساطة-
الجسيم مُتعادل الشحنة ينحل الى جسمين يتحركان باتجاهين متعاكسين و لكل منهما المقدار نفسه من كمية الحركة حسب مبدأ حفظ كمية الحركة (الطاقة)
فلو قمنا بقياس كمية الحركة لأحد هذين الجسمين على نحو دقيق معنى ذلك أن الجسيم الآخر الذي لم نقم بقياس كمية حركته له كمية الحركة نفسها للجسيم الأول؛ أي أن الجسيم الثاني الذي لم نقم بقياسه و لم نجري عليه التجربة و لكنّنا عرفنا كمية حركته! وهذه النتيجة تتعارض مع (تفسير كوبنهاجن لنظرية الكوانتم ).
أين يقع التعارض بين مُفارقة EPR وتفسير كوبنهاجن؟
التعارض يكمن في أن مدرسة كوبنهاجن تقول بأن حالة الجُسيم تبقى حالة تراكبية من عدّة حالات قبل عملية الرصد أو القياس، رصد الجسيم و إخضاعه للقياس هو ما يكشف حالة واحدة و يلغي بقية الحالات، وهذا ما أسموه إنهيار الدالة الموجية .
لكن هذه التجربة الذهنية كانت ماكرة للغاية فهي تهدف إلى إثبات متغيرين ديناميكيين في آنٍ واحد بعكس ما يقول مبدأ اللايقين. فلو نفرض أننا أخذنا جُسيمين مُتشكِلَيَن من طاقة مُعينة، وبذلك يكون العزم الزاوي الكُلي للجُسيمين يجب أن يبقى ثابتًا حسب مبادئ الحفظ، نُفرّق بين الجُسيمين و نُبقي على الآخر. في الحالة قبل القياس(قبل أن نقيس العزوم) يكون الجُسيمان يمتلكان حالة مُتراكبة من العزوم أي يكون عزمهُما للأعلى وللأسفل في نفس الوقت.
لنفرض إننا قُمنا بقياس عزم الجسم الأول فوجدناهُ للأعلى، حينها يُمكننا معرفة عزم الجسم الثاني حتى بدون قياسه.
كيف أمكننا ذلك؟
المُفترض أن الجسم الآخر حالته غير معروفة ومتراكبة لكلا الحالتين(أعلى و أسفل) و هذا مُخالف لما ذهبت إليه مدرسة كوبنهاجن من عدم وجود أي قيمة مُحددة لأي كمية مُتغيرة قبل عملية القياس، كما أنهُ يُمكننا قياس موقع الجسم الأول ومن خلاله نعرف موقع الجسم الآخر و كذلك بالنسبة لكمية الدفع (الزخم) وهذا مُخالف لما ينص عليه مبدأ اللايقين . وكأن معرفتنا بمعلومات الجسم الأول (عزمه) قد حددت معرفتنا بمعلومات الجسم الثاني لحظياً .
كيف أمكن نقل المعلومة من أحد الجُسيمات إلى الآخر ؟ كيفَ عرف الجُسيم البعيد بأننا عرفنا معلومات(عزم) الجُسيم القريب منّا، و اختار لنفسه العكس منها لحظياً (بدون زمن)؟ كيف إنتقلت تلك ” المعرفة” من الجُسيم القريب إلى الجُسيم البعيد(حتى لو كان في نهاية الكون) لحظياً و بأسرع من سرعة الضوء ؟ وهذا يُخالف تماماً ما تنص عليه النسبيةُ الخاصة حيث تقول أنَّهُ لا يوجد جسم يمكن أن يسير أسرع من الضوء. لا يُمكن لمعلومة أن تنتقل من جسم لآخر بأسرع من سرعة الضوء . وهذه ما يُسمى بالمحلية .
وضعت هذه التجربة بور ورفاقه في موقف حرج جداً ، فهي تبدو منطقية جداً و لا يشوبها شيء .
المصادر مبدأ الريبة ( مترجم ) : ص 207 و ما بعدها الكون المرآة من صفحة 55 وما بعدها العالم بين الفلسفة والعلم : ص 145 و ما بعدها https://plato.stanford.edu/search/r?entry=/entries/qt-epr/&page=1&total_hits=26&pagesize=10&archive=None&rank=0&query=EPR ميكانيكا الكم بين الفلسفة و العلم : ص86 وما بعدها https://plato.stanford.edu/entries/qm-action-distance/