ليوناردو دا فينشي.. العبقرية والجمال

نشأ فن وعمارة القرن السادس عشر في إيطاليا على أسس عصر النهضة المبكر في القرن الخامس عشر. بدأت الفترة بعصر قصير يسميه المؤرخون عصر النهضة العليا -وهو ربع قرن بين 1495 ووفاة رفائيل في 1520-
سيطر الاهتمام بالثقافة الكلاسيكية وتشريح جسم الإنسان على ما تبقى من القرن السادس عشر. السمة الواضحة في فنون إيطاليا في القرن الخامس عشر هي الجودة المذهلة في التقنية وفي الجماليات، في الفن وفي العمارة.

في هذه الفترة ظهرت “الفنون الجميلة” كما نعرفها الآن. تبنى الفنانون ورعاة الفن على حد سواء آراء الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون عن الشعر وعن الإنتاج الفني عمومًا إذ قال: “لا يصوغ الشعراء الماهرون القصائد الجميلة بالفن، بل لأنهم ملهَمون ومستغرقون، فليس بالفن يغني الشاعر، بل بالقوة الإلهية“. في إيطاليا القرن السادس عشر، وصلت الفنون إلى درجة لم تصلها من قبل وأصبح الفنانون مشاهيرَ لأول مرة. ولا شك أنه لم يحقق أحد الشهرة مثل ليوناردو دا فينشي ورفائيل ومايكل أنجلو، الفنانون العظام في عصر النهضة العليا.

ليوناردو دا فينشي

ليوناردو دا فينشي

وُلد ليوناردو في مدينة فينشي الصغيرة، وأظهر مهارة غير مسبوقة ومخيلة هائلة. يظهر فضوله بوضوح في المسودات التي ملأها بالرسومات المتعلقة بعلم النبات والجيولوجيا والجغرافيا والتشريح والميكانيكا وعلم الحيوان. أعلن ليوناردو مرارًا أن بحوثاته العلمية ساعدته ليصبح رسامًا أفضل وهذه حقيقة.
فعلى سبيل المثال أمده بحثه الدقيق في علم البصريات بفهم عميق بالمنظور والضوء والألوان. كان طموح ليوناردو الأكبر في لوحاته وفي فضوله العلمي اكتشاف القوانين التي تحكم الطبيعة؛ لذلك فقد درس تشريح جسم الإنسان وساهم بحق في علم وظائف الأعضاء وفي علم النفس.

عذراء الصخور

في 1482 غادر ليوناردو دا فينشي فلورنسا متجهًا إلى ميلان، إذ لم يكن الوضع السياسي في فلورنسا مستقرًا. بعد استقراره بقليل في ميلان، رسم ليوناردو لوحة عذراء الصخور. قدم ليوناردو في اللوحة السيدة العذراء والمسيح طفلًا ويوحنا المعمدان صغيرًا والملاك في تجمع هرمي. الشخصيات الأربع يصلون ويشيرون ويباركون. وعلى الرغم من عدم وضوح معاني هذه الحركات، إلا أنها توحد الشخصيات بصريًا؛ يشير الملاك إلى يوحنا الطفل، وبنظرته للخارج يشمل المشاهد في المشهد. يصلي يوحنا للمسيح الطفل، والذي يباركه بدوره. تكمل العذراء سلسلة الحركات المتداخلة إذ تمد يدها اليسرى للمسيح الطفل ويدها اليمنى تستقر على كتف يوحنا. تغمر حالة الرقة الطاغية المشهد كاملًا، تعززها الأضواء اللطيفة الهادئة. تبزغ الشخصيات خلال فروق طفيفة من الضوء والظل من الخلفية المضاءة جزئيًا. يُظهر الضوء ويخفي تلقائيًا التراكيب، غامرًا الشخصيات في طبقة من الجو النقي. لقد حقق ليوناردو ما اعتبره هدفين لكل رسام بارع: “أن ترسم الإنسان ومقصد روحه. سهلة هي الأولى صعبة هي الأخيرة؛ إذ لا بد من تمثيلها بإيماءات وحركات الأطراف”.

إعلان

لوحة عذراء الصخور، متحف اللوفر، باريس

العذراء والطفل

ظهر أسلوب ليوناردو كاملا في لوحة العذراء والطفل مع القديسة آن ويوحنا المعمدان.
هنا نرى الضوء المتوهج ينساب برقة على الشخصيات المهيبة في مشهد من العظمة الهادئة والتوزان. تظهر الشخصيات هنا في جلال، كما تعيد المهابة في حركاتها إلى أذهاننا تماثيلَ آلهة اليونان في البارثينون. إلا أنه لا يمكننا إرجاع إدخال ليوناردو مبادئ الفن الكلاسيكي في لوحاته إلى معرفةٍ ما بالآثار اليونانية؛ إذ إنه لم يزر هو أو معاصروه اليونان أبدًا، بل تشبعوا بالفن الكلاسيكي من النصوص القديمة التي وصفت فن وعمارة اليونان الإغريق.

لوحة العذراء والطفل مع القديسة آن ويوحنا المعمدان، معرض لندن الوطني، لندن

العشاء الأخير

رسم ليوناردو دا فينشي لوحة العشاء الأخير للودوفيكو سفورزا في كنيسة القديسة ماريا في ميلان.عاطفيًا ورسميًا، لوحة العشاء الأخير هي عمله الأكثر روعة، كما أنها الأضخم أيضًا.
في الجدار المقابل للصليب وللوحات لودوفيكو وعائلته، رسم ليوناردو يسوعَ والرسل الاثني عشر أمام طاولة طويلة موازية لمحور الصورة في حجرة بسيطة. يزيد الإطار الصارم من الجو الدرامي للوحة. يسوع ويداه ممدودتان بعد أن قال لتوّه: “الحق أقول لكم. إن واحدًا منكم يسلمني“.

في المنتصف، يبدو يسوع منعزلا عن باقي الرسل وفي طمأنينة كاملة وعين هادئة في انعزال عن المشاعر الثائرة حوله. قدم ليوناردو الرسل في أربع مجموعات من ثلاثة أفراد متوحدين فيما بينهم بالإيماءات والوضعية. وجه يهوذا (الذي خان المسيح) في ظل، الذي يقبض بيده اليمنى على سرة من المال ويمد يده اليسرى للأمام ليحقق نبوءة يسوع: “الذي يغمس يده معي في الصحفة هو من يسلمني“. الرسولان على أطراف الطاولة أكثر هدوءًا من الباقين، كما لو كانت الطاقة أقوى كلما اقتربنا من يسوع، الذي تُوقف سكينته الاضطراب وتشعله في آن واحد.

نرى في الرسل مدى واسعًا من الاستجابات الشعورية بما في ذلك الخوف والشك والغضب والحب مثل الممثل المتمرس، فقد قرأ ليوناردو قصة الإنجيل بعناية فائقة وشكل شخصياته كما وصف الإنجيل أدوارها. في هذا العمل كما في غيره من الأعمال الدينية، أظهر ليوناردو مقدرته المذهلة على تطبيق معرفته الموسوعية بالعالم المنظور على التمثيلات الصورية للمشاهد الدينية، منتجًا تركيبًا نفسيًا ولوحة فاتنة.

لوحة العشاء الأخير، كنيسة سانتا ماريا ديلي غراسي، ميلان، إيطاليا

موناليزا

لوحة موناليزا هي قطعًا اللوحة الأشهر في العالم. في قصة حياة ليوناردو، تعرَّف فاساري على المرأة في الموناليزا بأنها ليزا ماريا زوجة فرانشيسكو ديل جيوكوندو، من هنا جاء اسم اللوحة “مونا ليزا” أو السيدة ليزا بالإيطالية. تجلس موناليزا بهدوء ويداها متشابكتان وعلى شفتيها ابتسامة هادئة، وتشخص ببصرها إلى المشاهد.
كانت آداب عصر النهضة تقضي بأن المرأة لا يجب أن تنظر مباشرة في أعين الرجال، لكن ليوناردو صور المرأة الشابة دون معوقات الآداب لكي تستحوذ نفسيًا على الجمهور بطريقة غير مسبوقة، وهو ما يمثل جزءًا كبيرًا من شهرة اللوحة الفذة في الوقت الحاضر.

تعود جاذبية موناليزا أيضا إلى اختيار ليوناردو أن يرسم الشخصية على خلفية غامضة غير مشغولة شبيهة بلوحة عذراء الصخور. تبدو اللوحة أغمق اليوم عن ما كانت  عليه قبل 500 عام، ولكن ألوانها الزاهية لا تزال تعبر عن مهارة ليوناردو في المنظور وفي خلق إطار وحالة نفسية تأسر لب المشاهد.
تعبر اللوحة بوضوح عن مهارة الفنان في الضبابية الغائمة، وفي تعديلاته الطفيفة بين الضوء والضبابية.

لوحة موناليزا، متحف اللوفر، باريس

دراسات التشريح

لوحة الموناليزا استثنائية أيضا لأن ليوناردو أكمل لوحات قليلة جدًا، إذ إن ميله للكمال واختباراته المستمرة وفضوله بددوا مجهوداته. إلا أن الرسومات في دفاتره تحفظ لنا أفكاره.
تركزت اهتماماته خصيصًا على العلوم في سنواته الأخيرة، وأنتجت أبحاثه في علم التشريح رسوماتٍ غاية في الدقة وفي جمال التنفيذ. فعلى الرغم من أن رسومات الجنين وطبقات الرحم ليست مثالية بالنسبة إلى دقة القرن الحادي والعشرين، إلا أنها كانت إنجازًا مذهلا في وقتها. تمثل دراسات ليوناردو التحليلية في التشريح مثالا للروح العلمية في عصر النهضة كمقدمة للعصر الحديث. أكد الباحثون كثيرًا على أهمية رسومات ليوناردو في تطور التشريح كعلم، خاصة في عصر يسبق طرق التصوير مثل التصوير بالأشعة السينية.

ليوناردو دا فينشي
رسومات الجنين وطبقات الرحم

الإرث

توفي ليوناردو دا فينشي في الثاني من مايو 1519 في عمر السابعة والستين في كلو لوسيه في فرنسا. لم يترك ليوناردو أعمالا غزيرة إذ لم يُنسب له سوى عشرين عملا بعضهم غير مكتمل والبعض الآخر مشكوك في نسبته له. إلا أن ليوناردو لم يكن رسامًا فحسب، بل برع في النحت والعمارة والموسيقى والأدب والتشريح والجيولوجيا وعلم الفلك وعلم النبات وعلم الخرائط، من هنا يُطلق عليه العالم الموسوعي. حقق ليوناردو اكتشافات مذهلة في التشريح وفي الهندسة المدنية والجيولوجيا وعلم البصريات، لكنه لم ينشر اكتشافاته لذا لم تكن ذات تأثير حقيقي على مسار العلم لاحقا.

بعد وفاة ليوناردو بعشرين سنة، أعلن النحات الإيطالي بنفينوتو تشيليني أنه:

لم يولد رجل في هذا العالم بعلم ليوناردو، ليس فقط بسبب الرسم والنحت والعمارة، بل لأنه كان فيلسوفا بارعًا لأبعد حد.

نرشح لك: ڤيرمير..رائد المشاهد الداخلية

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالله عرفة

تدقيق لغوي: عبد الرحمن سامح

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا