لوحة موت سقراط (The Death of Socrates) – كيف تقرأ لوحة ؟
جاك لويس ديفيد و ناجي العلي فنانين لأجل الحرية و الكرامة, يفصلهما 200 سنة لكن مبدأهما نفسه, الرسم لأجل الثورة و النصر.
لوحةُ موت سقراط، هل هي تاريخٌ أم أكثر من ذلك؟
الفكرةُ خالدةٌ لا تموت ولكنها تنام، وللفن دورُهُ في إيقاظها. لوحة موت سقراط، إنها البروباجندا القديمة التي تدعو إلى الثورةِ والحرية، ومهاجمةِ الحكمِ الملكي المستبد، إنها بروباجندا القرن الثامن عشر.
جاك لويس ديفيد وناجي العلي فنانون لأجل الحرية والكرامة. تفصلهما 200 سنة لكن مبدأهما نفسه، الرسم لأجل الثورة والنصر.
سنبدأُ في رحلةِ الغوص في أعماق اللوحات، واخترنا اليوم لوحةَ “موت سقراط” (1787م) للرسام الفرنسي “جاك لويس ديفيد” أحد رائدي الحركة النيوكلاسيكية في القرن الثامن عشر. حيث تتناولُ اللوحةُ حدثَ إعدامِ سقراط من قِبَل السلطات الإغريقية عام (399 ق.م) بتهمة إفسادِ عقولِ الشباب والتلاعب بالدين، و قد خُيِّر سقراط أن يتمَّ نفيُه أو أن يتم إعدامُهُ عن طريق تناولِ سُمِّ نبتة “الشوكران الأبقع” (Hemlock) وقد اختار الإعدام.
وتُصوِّر اللوحة سقراط وهو يلقي آخرَ درسٍ له عن قيمة الحياةِ والموت، وأنّ الحياة لا معنى لها من دون حرية الرأي، متمسكًا بآرائه وأفكاره وفلسفته، متخليًا عن حياته لأجلها.
من هو سقراط؟
ولد سقراط في أثينا في الإغريق عام 470 ق.م، وعُرف بأنه من أبرز فلاسفة عصره وأغربهم. وُلد سقراط لعائلةٍ متواضعة من العامة، من أبٍ يعمل حجَّارًا و أمٍّ تعمل قابلة. نشأ سقراط في مدرسة تُعلّم أساسيات العلوم، ثم انتقل إلى أبيه يتعلّمُ منه صنعتَه قبل أن يتفرغ كليًّا للفلسفة. عُرف سقراط بطريقته المميزة في الإجابة عن أسئلةِ طلَّابه والناس من حوله، حيث بدلًا من نقلِ المعرفةِ نقلًا مباشرًا، كان يردُّ على أسئلة طلابه -بعد تبيين إجابة السؤال أولًا- بسؤالٍ آخر حتى يستطيع الطالبُ أن يصلَ بفهمه الخاص إلى السؤال ويصطاد الإجابةَ بنفسه، وهذا يعزّزُ التفكير والتأمّل عند الطالب، وسمّيتْ هذه الطريقةُ التعليمية بطريقة سقراط (Socratic Method).
في الواقع، إنّ سقراط لم يكتب شيئًا عن نفسِهِ أو عن فلسفتِهِ أو طريقتِهِ في التعليم وإنّما مَن نقل إلينا سقراط وحياتَه وفلسفته، هما تلميذاه: أفلاطون (Plato) في كتابه (فايدو Phaedo)، الذي ذكر فيه حياةَ سقراط وفلسفتَه وطريقتَه في التعليم، وحتى لحظاتِهِ الأخيرة وقت إعدامه، الذي ألقى فيها آخرَ دروسِهِ، فاستلهم الفنانون فكرةَ لوحاتهم للحظاتِ الأخيرة من حياة سقراط، كلوحة “جاك ديفيد” من كتاب فايدو لأفلاطون. وأما تلميذه الآخر: كسينوفون (Xenophon) فقد نقل حياتَه بطريقةٍ مختلفةٍ ومحايدةٍ أكثر من أفلاطون لكونه مؤرخًا و ليس فيلسوفًا كأفلاطون. يذكرُ بعضُ المؤرخين أن المكائد السياسية التي أُحيكتْ خلف ظهر سقراط هي سببُ إعدامه، وأنَّ اتهامه بإفساد عقول الشباب والتلاعب بالدين كتعريف الناس على إلهٍ جديد، كان مجردَ ذريعةٍ للتخلص منه وإعدامِه.
ويُعزى سبب قيام الحكام الطغاة في ذلك الوقت بالتخلص منه، إلى أنهم أمروا بإعدام الجنرالات الذين فشلوا في استعادة موتاهم بعد معركتهم مع إسبارطة، وكان سقراط هو المعارض الوحيد لهذا الحكم التعسفيّ، وبعد 3 سنوات طلبت السلطات الإغريقية من سقراط المشاركة في اعتقال ليون سالاميس (Leon of Salamis) وإعدامه فرفض، واُعتبر هذا الأمرُ عصيانًا مدنيًّا يستوجب العقاب، فمع أنه تمت الإطاحة بالطغاة في أثينا قبل الحكم على سقراط، فقد حُكم عليه بالإعدام، ونُفّذ الحكمُ فيه عام 399 ق.م بتهمةِ إفسادِ عقولِ الشباب والتلاعب بالدين. وقد ذكر أفلاطون في كتابه (اعتذار سقراط – The Apology of Socrates) أنه دافع عن نفسه ومبادئه وأفكاره ببسالة أمام هيئة المحلّفين، ولكنه في النهاية قَبِل بحكمهم بهدوء ونطقَ جملته المشهورة في لحظاته الأخيرة: “الحياةُ التي تخلو من التجارب لا تستحق العيشَ فيها”.
من هو جاك لويس ديفيد؟
ولد “جاك ديفيد” في باريس عام 1748 من عائلةٍ ميسورةِ الحال، وفي عامه التاسع قُتل والدُهُ في مبارزة وتركته أمُّهُ، فعاش مع عمه المهندس المعماري، أراد عمُّهُ وأمُّهُ منه أن يكون مهندسًا معماريًّا، لكنه رفض لأنه كان متعلقًا بالفن منذ نعومةِ أظفاره، وعُرف عنه أنه عانى من ورمٍ سرطانيٍّ في فكِّهِ مما جعله يعاني من صعوباتٍ في التكلّم، ومع ذلك ذهب ليتعلمَ الفنَّ من أكبر فنانٍ في عصرِهِ (فرانسوا باوتشر- Francois Boucher)، كان فرانسوا مهتمًّا بنوع الفن (روكوكوو- Rococo) الرائج في ذلك العصر، بينما كان “جاك ديفيد” يفضل نوع الرسم الكلاسيكي أكثر من “روكوكوو”، فقرر “باوتشر” إرسال “جاك ديفيد” لصديقه (جوزيف ماري فيان- Joseph Marie Vien)، وانضم “جاك ديفيد” للأكاديمية الملكية والتي الآن تدعى (اللوفر- Louvre).
وفي عام 1774 حصل جاك ديفيد على منحة (Prix de Rome)، وهي منحةٌ دراسية لدراسة الفن في الأكاديمية الفرنسية في روما في إيطاليا، فانتقل “جاك ديفيد” مع “فيان” إلى إيطاليا، ليكون “فيان” من أوائل معتنقي النيوكلاسكية (Neoclassicim) ومدير الأكاديمية الفرنسيّة في إيطاليا. اتّبع “جاك” منظومةَ التعلّم المتعارف عليها برسم الطبيعة والزخارف والأثاث القديم والنقل من اللوحات الحديثة والقديمة، واتّبع في رسمه أسلوبَ الفنان (نيكولاس بوسين- Nicolas Poussin) الذي كان يتسم بأسلوبِ رسم يشبه أسلوبَ الرسم الكلاسيكي، كاللوحات الكلاسيكية القديمة الآتية من الإغريق وروما القديمة، وفي عام 1780م عاد “جاك” إلى باريس وعُيّن عضوًا في الأكاديميّة الملكيّة (Académie Royale).
النيوكلاسيكية (Neoclassical Painting) هو نوعٌ من أنواع الرسم الذي يتسم بالبساطة والتناظر والخطوط الحادة، ويتمُّ رسمُ الشخصيات والأجسام بطريقةٍ مثاليةٍ ونحيفةٍ بعضلات، ونحت ورسم الأحداث التاريخية بطريقة تبدو وكأنّها صورةٌ التُقطتْ أثناء الحدث؛ أي باتباع نفس أسلوبِ الرسم والنحت التي اتبعتْها الحضارتان الرومانية والإغريقية القديمة.
رسم جاك ديفيد عدة لوحات تحكي قصص عديدة من الثورة الفرنسية بطريقة الرسم النيوكلاسيكي، مثل: لوحة (موت مارات- Death of Marat) التي تصوّر مشهد اغتيال “مارات” في منزله وهو أحد رائدي حركة الثورة والتحرر الفرنسية في القرن الثامن عشر. ولوحة (موت بارا الصغير- Death of Young Bara) التي تحكي قصةَ طفلٍ يحمل الطبول قُتل أثناء الثورة. وتُظهر لوحة (قسم هوراتي- Oath of the Horatii) شابًّا رومانيًّا من عصر روما القديمة، يدافع عن مجموعةٍ من النساء أمام الشرطة الرومانية القديمة، حيث يظهر فيها الرجلُ واقفًا شامخًا وذا عضلات. وبالتأكيد أيضًا لوحة (موت سقراط- The Death of Socrates) التي سنتحدث عنها بإسهابٍ الآن، وكلها تعتبر رسومات من النوع النيوكلاسيكي الذي اتبعه “جاك” في رسمه.
تحليل لوحة موت سقراط
إن كنت تظن أن البُعد الرئيسي للوحة تاريخيّ، يصوّر حدثَ موتِ سقراط؛ فأنت مخطئ. حيث أن المراد من اللوحة هو نشرُ فكرٍ سياسيٍّ عاطفيٍّ، وليس إعادة ذكر حدثٍ تاريخيٍّ لمجرّد تمجيده، وإنما لتمجيد الفكرةِ التي يحملها هذا الحدثُ التاريخيّ، وهو موت سقراط في سبيل الدفاع عن أفكاره ومبادئه وعدم التخلي عنها، وفي ذلك دعوة للثوار الفرنسيين في القرن الثامن عشر للموت من أجل مبادئهم وسعيهم للحريّةِ وإزالة الحكم الملكيِّ المستبد، حيث بدأتْ الثورة الفرنسية بالفعل بعد عدةِ سنوات من رسم هذه اللوحة، وعُرفت هذه اللوحة عالميًّا كرمزٍ للثورة ضد الظلم والاستبداد.
عُرضتْ اللوحةُ للمرة الأولى في معرض صالون باريس عام 1787م، وتوجد اللوحة حاليًا في معرض (الميتروبوليتان- Metropolitan Museum of Art) في نيويورك في أمريكا.
تفاصيل لوحة موت سقراط
تُظهر اللوحة رجلًا بلباس أبيض وجسدٍ قويٍّ ذي عضلات، يجلس في المركز ويرفع إصبعه للأعلى وكأنه يخطب أو يلقي درسًا، إنه سقراط يستعدُّ لأخذِ الكأس المليءِ بسُمِّ الشوكران الأبقع (Hemlock) من الرجل الذي يرتدي اللون الأحمر، وواضح أن إشاحة وجهه بيأسٍ وألمٍ عن وجه سقراط عند تسليمه الكأس على أنه مُكرهٌ على هذا الأمر، ويقال بأنّ هذا الرجل صاحبَ الرداء الأحمر كان أحد تلاميذه. ومن أكثر الأمور الملفتة في اللوحة هو جسد سقراط، حيث أُعدم سقراط في عمر الـ70، وهذا الجسد المرسوم في اللوحة لا يتناسب مع جسدِ شخصٍ في الـ70 من عمره، حيث تصوّره الرسمة كشخصٍ قويٍّ ذي عضلات ومن دون تجاعيد. وهذا ما تتميز به الحركة النيوكلاسيكية في تجسيد الأجسام بصورة مثالية وفي إزالة كلِّ العيوب من الجسد، بالضبط كما كان يفعل نحّاتو الروم والإغريق القدماء. ومن الجميل ذكره أيضًا أنَّ عددَ الحضور وقت إعدام سقراط كان 15 شخصًا، لكن “جاك” قلص عددهم لـ12 شخصًا فقط.
ترون في الخلف رجلًا ذا شعرٍ مجعّد وسترةٍ زرقاء، وجهُهُ إلى الحائط رافعًا يديه ويبدو أنه يبكي أو ينحب، إنه (أبولودوروس- Apollodorus) أحد تلاميذ سقراط وقد طرده سقراط من قاعة الإعدام بسبب حزنه ونحبه الشديد.
- وتستطيعون أن تروا من ملامح الغرفة أنها سجن، حيث أنها تقبع تحت الأرض، وتوجد أغلال على الأرض أسفل سقراط وأغلال يدٍ معلقةً في الأعلى. وهناك رجلٌ يضع يده على فخذ سقراط وملامح الحزن واضحة عليه، إنه كريتو (Crito)، أقدم وأوفى تلاميذ سقراط. وفي الخلف تستطيعون أن تروا شخصًا يصعد الدَّرج بملامح حزينة ويلوح بيديه، إنها كزانثيبي (Xanthippe) زوجة سقراط.
وفي يسار الصورة ترون رجلًا كبيرًا أشيب يرتدي اللون الأبيض، يجلس على مؤخرة السرير ويدير رأسه بعيدًا عن المشهد، إنه أفلاطون (Plato) كاتب كتاب فايدو (Phaedo) الذي ذكر فيه حياة سقراط وفلسفته وموته، وذكر أيضًا تفاصيل مشهد الإعدام والأشخاص الحاضرين هناك. حيث تستطيع أن ترى في أسفل الصورة أوراقًا وعلب حبرٍ وريشة كتابة وهي كناية عن كتاب فايدو الذي كتبه أفلاطون في ذكر سيرة حياة سقراط؛ في الواقع إن أفلاطون لم يحضر إعدام سقراط، ولم يكن كبيرًا في السن وقت إعدامه وإنما كان بعمر الـ29 فقط، لذلك سنتحدث بإسهاب لاحقًا عن أفلاطون والسبب في رسمه بهذا السن وهذه الوضعية.
تستطيع أن ترى أيضًا أن جاك قد وقّع اسمه في مكانين مختلفين؛ الأول على مقعد كريتو (Crito) الحجريّ، ووقّع بـ (L.David) ويرجح المحللون أن توقيع جاك في هذا المكان على مقعد كريتو، إلى أن جاك يعتبر كريتو الأقربَ اليه والأكثر شبهًا به، حيث يقول الكاتب فيكتور مويلر (Victor Moeller) أن جاك يرى نفسه كشخصٍ متمسكٍ بمبادئ وأفكار سقراط بالضبط كطالبِهِ كريتو الذي يمسكُ فخذَ سقراط بقوةٍ، كنايةً عن تمسكه بسقراط ومبادئه.
بينما التوقيع الثاني كان على مقعد أفلاطون وقد وقع بالحروف الأولى من اسمه (L.D)، حيث يرجح المحللون أن هذا التوقيع وُضع لذكر مصدر أحداث اللوحة، حيث استعان جاك بكتاب فايدو الذي كتبه أفلاطون عن سقراط في فهمِ وتصوّر مشهد إعدام سقراط ليرسمه بهذا الشكل.
بإمكانك أن تقرأ اللوحة من اليمين ومن اليسار، فإذا بدأت بقراءة اللوحة من اليمين فسترى مجموعةً من الأشخاص الذين يبكون وينظرون لسقراط بحزنٍ وألم، ثم سترى كريتو الذي يجلس بجانب سقراط متعلقًا به وبعدها تنتقل لترى الشخص الذي يعطيه السم، ثم إلى أفلاطون جالسًا على مؤخرة السرير مُغمضَ العينين، لا يتدخل ولا يبكي ولا يتكلم وكأنه غارقٌ في يأسٍ عميق. ولكن إذا قرأنا اللوحة من اليسار فسنبدأ من أفلاطون الجالس على مؤخرة السرير، حيث يبدو المشهد وكأنه ينبثق من مؤخرة رأسه، و يبدو الأمر كأنّ هذا حدث من الماضي، ويقوم أفلاطون بإسترجاعه وتذكِّره, خاصةً أنه جالس بهدوء مغمض العينين، وكأنه يرى مشهدًا لم يعد من الحاضر، مشهدًا لا يستطيع أن يراه إلا إذا أغلق عينيه في ذكرياته.
يبدو المشهد وكأنه تم تشغيل فيلمٍ قديم في ذكريات أفلاطون يرى من خلاله أحداثَ الماضي.
يمكنكم أن تلاحظوا أن ألوان اللوحة متباينة في تركيز الألوان فيها (Concentrations)، حيث تكون الأكثر تركيزًا في مركز اللوحة عند مشهد سقراط والشخص الذي يعطيه السُّم؛ لأنه بطل اللوحة وبطل القصة، ولإجبار المُشاهد على التركيز في هذا المشهد بالذات، بينما يقل تركيز الألوان وتبهت كلّما انتقلنا إلى جوانب اللوحة التي تمتلئ بالشخصيات الثانوية التي هي أقل أهميةٍ من الشخصيّةِ الرئيسية (سقراط).
ومن المثير ذكرُ طريقة رسم الشخصيات التي اتبعها “جاك لويس ديفيد”، حيث رسم الشخصيات المركزية التي تدافع عن آرائها وأفكارها مثل سقراط، أو عن غيرها مثل الشاب الروماني في لوحة “قسم هوراتي” بزوايا حادةٍ وقائمة لدعم الجسمِ القويِّ الشامخ، بينما رسم الشخصيات التي غلبتها العاطفة والحزن كتلاميذِ سقراط الحزينين أو النساء الحزينات في لوحة “قسم هوراتي” بأشكالٍ منحنيةٍ ومتقوّسة خالية من الزوايا، بحيث تبدو ضعيفة.
“جاك ديفيد” والثورة الفرنسية، كيف هما مرتبطان معًا؟
لم يكن “جاك ديفيد” من أشهر رسّامي القرن الثامن عشر فقط، وإنما أيضًا من أشهر السياسيين في القرن الثامن عشر، حيث كان رسامًا وسياسيًّا وقائدًا ومعلّمًا. ولمن الرائع معرفة أن “جاك ديفيد” لم يرسم فقط أحداث هذا العصر وإنما كان له يد في الأحداث التي يرسمها. كانت بدايات “جاك ديفيد” السياسية عندما تم اختياره من قبَل قائدي حركة الثورة الفرنسية لرسم أحداث نهوض الثورة عندما بدأت اجتماعاتهم تؤتي ثمارها، فقد حضر “جاك ديفيد” حدث (Tennis Court Oath) ورسمه، ويقع هذا الحدث الذي هو عبارة عن اجتماع لأعضاءِ الثورة في “الفرساي”، حيث يبعد مكان الاجتماع أمتارًا قليلة عن قصر الفرساي (القصر الملكي المتواجد في مدينة الفرساي في فرنسا)، وفي اللوحة الكثيرُ من قادة الحركة الذين سيصبحون لاحقًا أصدقاءَ أو أعداءَ “جاك ديفيد” حسب انتماءاتهم الحزبية أمثال ( Camille Desmoulins, Maximilien Robespierre, Mirabeau) حيث سينقسم قائدو الثورة لاحقًا إلى أحزابٍ مختلفة يتقاتلون فيما بينهم على الحكم، وبسبب تصاعد الأحداث السريع، لم يستطع “جاك” أبدًا إكمال اللوحة.
كان لديفيد دورٌ كبير في تنظيم وإخراج المسرحياتِ والعروضِ العامة بين عاميّ 1789 و1794م. وقد أُقيمت هذه العروض عند تشكيلِ الحكومة الجديدة في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، حيث كانت تعرض السياسات الجديدة في الحكومة الجديدة والتطلعات المستقبلية لها، حتى أنه قام بتصميم اللباس الموحّد الجديد بالتعاون مع أفراد الجمعية الوطنية (المعروفة باسم الجمعية التأسيسية الوطنيّة أثناء عملها على الدستور) الذي سيرتديه الأفراد تحت الحكم الجديد، وتمتّع ديفيد بقوة سياسيّة مثمرة، أولًا بسبب قربِهِ من شخصياتٍ كبيرة وفعّالة في الثورة آنذاك، ثانيًا بسبب شجاعته في التكلّم وانتقاد السياسات الأخرى. وقد كان متحدثًا حكيمًا ومحنّكًا بعقلٍ سياسيٍّ فذ، على الرغم من صعوبة نطقِهِ للحروف بسبب سرطان الفك، الذي كان يعاني منه.
وتم انتخابُهُ ليكون رئيسَ نادي جاكوبين (Jacobin Club)، ويعتبر هذا النادي أحد أقوى الأحزاب السياسيَّة التي تكوّنت بعد موت الملك وبدء تشكيل الحكومة الجديدة، وفي عام 1792 اُختير “جاك ديفيد” ليكون أستاذًا مشاركًا ونائبًا للجمعيَّةِ الوطنيّة في باريس، ولكن من المفارقات الغريبة في ذلك الوقت أنه قاد حملةً لإغلاقِ المؤسّسات الأكاديميَّة في فرنسا.
بعد صعود صديقه (Robespierre ) إلى السلطة بعد موت العائلة الحاكمة ( عائلة لويس السادس عشر وماري أنطوانيت) سُمّيَ عهدُهُ بعهد الرعب (Reign of Terror) ووجد “جاك ديفيد” نفسَه مع قوةٍ لم يتخيلها قط؛ حيث مُنح منزلًا كبيرًا مطلًّا على الحدائق، وسُمح له بمواصلة الرسم. بعد انتهاء الثورة وعهد الرعب صعد نابليون بونابرت للحكم وعُيَّن “جاك ديفيد” رسّامَ القصرِ الخاصّ به عام 1799، وكان “جاك ديفيد” المستشار الفنيّ الخاصّ بنابليون، وطلب “جاك ديفيد” من نابليون أن يمنحَهُ سيطرةً أوسع على الفن في الدولة مثل الآثار والتعليم الفني والصناعات التي تعتمد على التصميم، مثل المنسوجات. وقام “جاك ديفيد” برسم لوحة تُعدُّ من أشهر لوحاته وهي لوحة (نابليون عابرًا جبال الألب).
وبعد سقوط نابليون من السلطة، نُفيَ “جاك ديفيد” إلى بلجيكا، وعاش بقية حياتِهِ في بروكسل يعمل معلمًا للفنون، وتوفيَ ودُفن فيها عام 1825م.
كيف يؤثر الفنُّ في عاطفة الشعب وإرادته لنيل الحرية؟
الفن كبروباجاندا لأجل الحرية والنصر، وككوميديا سوداء لتسليط الضوء على استبداد المحتل والحاكم.
“ناجي العلي” والبروباجاندا لأجل حرية فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيليّ، وُلد ناجي العليّ في فلسطين عام 1938م، وهو رسام كاريكاتير مشهور حيث رسم أكثر من 40,000 رسمةً يعبّر فيها بطريقةٍ ساخرة عن ممارسات الاحتلال الإسرائيليّ، وموقف الأنظمة العربية من المعاهدات، وعلاقاتها مع إسرائيل في ذلك الوقت، وله أيقونةٌ مشهورة وهو حنظلة، الطفل الذي لا يكبر، حنظلة رُسم كطفلٍ في العاشرة من عمره وهو نفس العمر الذي نزح فيه “ناجي العليّ” من فلسطين بعد قيام النكبة عام 1948م، حيث يظهر حنظلة واقفًا ومُديرًا وجهَهُ عن العالم متطلعًا إلى فلسطين حتى يعود لها يومًا ما، حيث قال “ناجي العليّ”: أن حنظلة سيكبر وسيبتسم وسيدير وجهَهُ ناحيتنا عندما تتحرر فلسطين. وسُمي حنظلة على اسم نبتةٍ مُرّة جدًّا تنمو في فلسطين اسمها الحنظل، للدلالة على مرارة الواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني والعالم العربي في ذلك الوقت، ومنذ ذلك الوقت عُرف حنظلة كأيقونة لمعاناة الشعب الفلسطيني. وفي عام 1987 اُغتيل ناجي العلي في لندن في إنجلترا، وتوفي عن عمر يناهز 48 سنة.
بعض كاريكاتيرات ناجي العلي:
خاتمة..
وُجد على مدى التاريخ طرق عدة لمحاربة الظلم والاستبداد، وأولها هي الأسلحة الحادة والنارية، ولكن في الواقع الأسلحة التي تُستخدم لمحاربة هذه الممارسات تتعدى هذه النوعية من الأسلحة فقط، كالقلم والريشة والصوت، مثل الرسم والكتابة والنشر والإعلام، التي لا يمكن أبدًا التقليل من شأنها.
لعبت لوحات النيوكلاسيكية لـ”جاك ديفيد” في القرن الثامن عشر دورًا مهمًّا في إشعال الثورة الفرنسية ودب الحماس والشجاعة في قلوب الشعب، وفي القرن العشرين لعب ناجي العلي والإعلاميون والشعب الفلسطيني المنتشر حول العالم دورًا مهمًّا في توعية العالم عن العنف والظلم والممارسات اللاإنسانية التي يمارسها الإحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. وفي القرن الحادي والعشرين، خاصةً عام 2021، لعبت وسائل التواصل الإجتماعي دورًا مهمَّا في نشر ممارسات الاحتلال وتوعية العالم بشأن إسرائيل وممارساتها ضد الشعب الفلسطيني، حيث أحدثت تغييرًا كبيرًا وجذريًّا في نظرة العالم لإسرائيل، وانتقلت هذه النظرة وهذا الانطباع الجديد الذي أظهر الوجه الحقيقي لإسرائيل، من الشعب للحكومات والمؤسسات الكبيرة التي بدأت بمقاطعة منتجات دولة الاحتلال واستثماراتها فيها، وهذه خطوةٌ مهمة جدًّا لإضعاف دولة الاحتلال والنتائج التي ستظهر في المدى البعيد ستثبت ذلك، لذا استمروا في المقاطعة وتوعية العالم بشأن حق الشعب الفلسطينيّ في الحياة الحرة والكريمة، على أرضهم التي سلبت منهم.