“لقد كانت يد الله”: لأن آثام العالم تحتاج إلى أكثر من مُخلِّص
“وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيل”
إنجيل متى (الإصحاح الثاني: العدد السادس)
يروي المخرج الإيطالي الشهير “باولو سورينتينو” في فيلمه الأخير “E` Stata la mano di Dio” أو “لقد كانت يد الله” الذي أنتجته منصة “نيتفلكس” قصةً جديدةً من قصصه التي طالما ارتبطت بحياة إيطاليا وثقافتها وأزماتها وأحلامها، ولكن هذه المرة تحديدًا تختلف عن المرات السابقة كافة، فالقصة ليست قصة إيطاليا كلها؛ وإنما قصّة مدينة بعينها، مدينة “نابولي” الجنوبيّة الساحرة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حيثُ يتلامس هواء البحر الأبيض المتوسط بالجبال الخضراء الخصيبة، وحيثُ تعيش مملكة نابولي بشموخ أهلها بين البحر وكرة القدم والجريمة والحب والسخرية والقداسة، والأهم من كل ذلك، حيث ولد “سورينتينو” نفسه.
ولد “باولو سورينتينو” بمدينة نابولي، أحبَّ كرة القدم، ودرسَ العلوم السياسية قبل أن يغادر المدينة مُتجهًا إلى روما لدراسة السينما، بعد أن فقد والديه وهو في شبابه، ولكن ما علاقة تلك التفاصيل بالفيلم الذي كتب قصته وحواره وأخرجه “سورينتينو”؟ حسنًا، يجب عليك أن تُنهي هذا المقال لتعرف الإجابة.
عالم الرجال: معقدٌ لدرجة التفاهة
يختلف الرجال عن النساء بالضرورة، وتختلف رؤيتهم للأشياء وللحياة، فإذا ما كنت رجلًا ستفهم تمامًا ما أقول، وسوف توافقني في الأغلب، وإذا ما كنتِ امرأة فلا تقلقي، فعالم الرجال بقدر ما ترينه غير مفهوم ومليء بالألغاز، بقدر ما هو شديد البساطة إلى حد التفاهة.
يهتمُّ الرجال بشيئين اثنين فقط، النساء!
تلك الفكرة ليست جديدة، فهناك فلاسفة ومفكرون جنحوا إلى الاعتقاد بأن الحضارة صنعها الرجال فقط لنيل إعجاب النساء، فكلُّ الفكر والعلوم والهندسة والحروب والقتل والدماء كانت فقط ليلفت الرجل نظر المرأة إليه، فكرة تبدو تافهة بالطبع، ولكنها ليست تافهةً تمامًا، فلا دخان بلا نار. ربما تكون قد استنتجت الآن الشيء الآخر الذي ذكرت أن الرجال يهتمون به خلاف النساء ولم أحدّده، نعم، “إنه كيف بإمكانهم نيل إعجاب النساء؟”.
يرسم “سورينتينو” ملامح شخصية بطل الفيلم بعناية شديدة، فابيتّو، الشاب الصغير الذي لم يكتمل عقده الثاني من العمر بعد، هادئ الطباع، حالم، علاقته بالجنس الآخر ليست في أحسن أحوالها بسبب خجله وطبيعته التي تميل للانطواء، ولكنه يعشق كرة القدم، ومن يعيش في نابولي ويحب كرة القدم فلا يمكنه إلا تشجيع نادي المدينة الجنوبية، لا يُسمح له إلا أن يكون “نابوليتانو”.
في إحدى مساءات نابولي الصيفية الحارة، وأثناء اجتماع العائلة بأحد المنازل الخاصة المطلة على البحر بفترة ما بعد الظهيرة، يُتخَذُ قرارٌ ليس بغريب على المدينة وأهلها الأقرب للبرمائيات من الثدييات، فيقررون أنه حان الوقت لزيارة مياه البحر، وهنا تظهر الخالة باتريتسيا.
الخالة باتريتسيا، سيدة في العقد الثالث، سمراء سمرة شمس البحر، ممشوقة القوام، ممتلئة النهود والأرداف، أنثى شديدة الجمال والإثارة، متزوجة وليس لديها أطفال، ومكروهة لسلوكها المشكوك فيه، وتعاني من اضطرابات نفسية.
فجاة، يقرر “سورينتينو” التلاعب بنا، بعد الصخب والضحكات الرنانة والموسيقى السريعة التي صحبت أجواء السباحة واللهو، صمتٌ تام، لا وجود لصوت، ولا لهمسة، تجلس كافة الشخصيات جنبًا إلى جنب في زاوية القارب الذي يطفو على سطح المياه، الرجال والنساء بملابس الثمانينيات البحرية المضحكة، يحملقون في شيءٍ ما بعيونٍ متفحصة وملامح مستاءة على استحياء.
بعد لحظات قصيرة مرت ببطء شديد، يقرر “سورينتينو” أن يروي عطشنا؛ تظهر الخالة باتريتسيا على الطرف المقابل من القارب، مستلقية على ظهرها لأشعة الشمس، ولا ترتدي إلا نظارات شمسية، فقط. تنتبه الخالة باتريتسيا لما يدور، ثم تطلب من فابيتّو أن يحضر لها المنشفة لتضعها على جسدها بهدوء بالغ كما لو أنها تطلب كوبًا من الماء، يا له من محظوظ! هو الوحيد الذي استطاع الاقتراب منها إلى هذا الحد، هو من استطاع رؤية جسدها العاري تمامًا من المسافة صفر. ذلك كان لسان حال الرجال الذين راقبوا الحدث والحسد ينطق من بين أجفانهم.
تنتهي الرحلة على هذه الواقعة، ويعود فابيتّو وشقيقه ماركينو الذي يكبره ببضعة أعوام إلى حجرتهم بمنزل الأسرة، ويدور بينهم حديث حول الخالة باتريتسيا، يسأل ماركينو أخيه الأصغر عن تقييمه لجمال الخالة باتريتسيا بعد أن ظهرت عارية تمامًا لأول مرة على مقياس من 1 إلى 100، يجيبه فابيتّو ضاحكًا “مليار”، ثم يباغته بسؤال آخر أكثر صعوبة، لو عليك الاختيار بين ممارسة الجنس مع الخالة باتريتسيا وانتقال “مارادونا” إلى نادي نابولي، فماذا تختار؟
كانت تدور شائعات في تلك الفترة حول ترك “مارادونا” ناديه الإسباني برشلونة والانتقال إلى نادي نابولي، إلا أن تلك الأخبار كانت تقابل بالسخرية من مشجعي نابولي أنفسهم، كيف يمكن للأفضل في العالم أن يترك أموال برشلونة الطائلة وينتقل لنابولي الفقير!
اختيارٌ صعب، إلا أن فابيتّو لم يتردد لحظة، أجاب دون أن يفكر حتى: “مارادونا”.
لو أن هذا الفيلم يعود إلى زمن السينما القديم، عندما كانت تُعرض أفلام السينما في قاعات السينما، قبل أن تدخل “نيتفلكس” وشبيهاتها سوق صناعة السينما، كان يمكننا تخيّل ردة فعل الجمهور الحاضر في القاعة على هذا المشهد، ينفجر الرجال مصفقين بحرارة لجواب فابيتّو، بينما ينظرن النساء للرجال المنتشين غير مدركات تمامًا لما يدور، إجابةٌ غريبةٌ وتافهة، وردُّ فعل غير متوقع وغير مفهوم.
يقول لاعب كرة القدم الفرنسي ونجم مانشستر يونايتد الإنجليزي السابق “إيريك كانتونا”: “إن الرجل يستطيع تبديل دينه أو انتمائه السياسي أو حتى زوجته، ولكنه لا يستطيع تغيير النادي الذي يشجعه”. إن العلاقة التي تجمع الرجال بكرة القدم بهذه البساطة وبهذا التعقيد.
دييجو: المسيح الأخير
في الخامس من يوليو/تموز من عام 1984 لميلاد المسيح تحققت المعجزة، دييجو أرماندو مارادونا ظهر في نابولي، استقبله 75 ألف مشجع بملعب سان باولو، حينها كتب الناقد الرياضيّ البريطانيّ “ديفيد جولدبلات”: إن المشجعين مؤمنون أن المُخلِّص قد وصل! وعلقت إحدى الصحف المحلية بمدينة نابولي قائلة: ليس لدينا رئيس للبلدية، وليس لدينا منازل ولا مدارس ولا حافلات ولا صرف صحي، وليس لدينا وظائف، ولكن كل هذا لا يهم الآن، فنحن لدينا مارادونا!
كان مارادونا هو المُخلِّص بحق لتلك المدينة الجنوبيّة المعدمة، والتي ربما فقدت أملها في أن تنتصر على مدن الشمال الثريّة في التقدّم الصناعيّ والثقافيّ والخدميّ، حيثُ لم يبقَ لها إلا الانتصار على مستطيل العشب الأخضر، وكان حتى هذا الانتصار المعنوي صعبًا، فقد سيطرت خلال تلك الفترة أندية الشمال كميلان ويوفنتوس وروما على الألقاب في إيطاليا بشكل مطلق.
ولكن لا يوجد مُخلِّص بلا معجزات، هكذا يخبرنا “سورينتينو” عن الأعاجيب التي صنعها مارادونا، فخلال كأس العالم المقامة على الأراضي المكسيكية عام 1986، قام مارادونا ربما بتسجيل أشهر هدف في تاريخ كرة القدم، عندما ارتقى دييجو القصير فوق حارس مرمى المنتخب الإنجليزي ووضع الكرة بيده داخل الشباك، قبل أن يسجل هدفًا آخر لا يقل عبقرية، حينما استلم دييجو الكرة قبل نصف الملعب على مسافة بعيدة جدًا من مرمى الخصم، وانطلق متلاعبًا بالإنجليز إلى أن وصل للمرمى وراوغ حارسه وسجل الهدف الثاني، لتفوز الأرجنتين بالمباراة وتقصي المنتخب الإنجليزي.
وعندما سُئِل عقب المباراة عن هدفه الأول لم ينكر أن الهدف كان غير شرعيًا، ولم ينكر أنه سجله بيده، ولكنه قال: “لم تكن يدي، لقد كانت يد الله!”، العبارة الأشهر في تاريخ كرة القدم.
كانت جماهير نابولي تتابع مباريات المنتخب الأرجنتينيّ خلال البطولة ربما أكثر من متابعتهم لمباريات منتخبهم الإيطالي، فحيث يكون المُخلِّص يكون المؤمنون، ظهر فابيتّو وهو يشاهد مباراة الأرجنتين التي سجل فيها مارادونا هدفه التاريخي برفقة العائلة، وعندما سُرق الهدف الأول لم يصدق الجميع ما فعله اللص القصير، فنظر العم ألفريدو العجوز إلى فابيتّو وصرخ فيه قائلًا، إنه انتقم لبلاده من الإنجليز، هذا ليس هدفًا عاديًا، لقد أذلّهم وأهانهم وانتصر لأمته كلها.
كانت قد نشبت حرب بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982 بسبب نزاع على مجموعة جزر جنوب المحيط الأطلسي عُرفت بـ “حرب فوكلاند”، وانتهت بهزيمة الأرجنتين واستسلامها، وظلت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين متوترة حتى عام 1989، فكانت تلك المباراة بمثابة فرصة أخرى للبلد الفقير للانتقام من المستعمِر الأوروبي، ولكن مجددًا، على مستطيل العشب الأخضر، فما أشبه القصتين، نابولي والأرجنتين! فدييجو لا ينتصر إلا للمقهورين.
لا خلاص من العالم
يعود فابيتّو من مباراة لنابولي إلى المنزل، فيجد جاره في انتظاره ليخبره أن والداه في المستشفى، يذهب إلى المستشفى مسرعًا ليجد الطبيب ويخبره أن والداه قد توفيا نتيجة تسرّب الغاز في المنزل، بهذه البساطة، ينهار وينفعل ويطلب رؤيتهم، ولكن الطبيب يرفض رفضًا تامًا بالرغم من محاولات فابيتّو المستميتة والجنونية للدخول إلى الغرفة ورؤيتهم للمرة الأخيرة.
تقام الجنازة وسط أجواء شديدة الكآبة، ويحضر العم ألفريدو العجوز لمواساة فابيتّو، ويسأله عن مكان تواجده أثناء الحادثة، يجيبه فابيتّو بأنه كان يحضر مباراة هامة لنابولي في الملعب، ينظر إليه العم ألفريدو متعجبًا، وتتغير ملامح وجهه الحزينة، ويقول له في حماس، لقد كان مارادونا مجددًا يا ولدي، هو من أنقذك من الموت مختنقًا بالغاز، لقد كانت يد الله!
تنقلب حياة فابيتّو رأسًا على عقب بعد الحادثة، لم يعد يتابع مبارايات نابولي ولا أخبار مارادونا، بدأ اهتمامه يتحول إلى السينما، هربًا من قسوة الواقع إلى رحابة الخيال، ويصادف في أحد العروض المسرحية أن يلتقي بواحد من كبار المخرجين المشهورين بالمدينة، ويتعقبه ليسأله عن إمكانية دراسته للسينما وصناعة الأفلام، بعد حديث طويل ينفعل المخرج ويصرخ في وجه فابيتّو، إذا ما كنت تريد صناعة السينما لا يكفي أن تكون محبًّا للأفلام فقط، يجب أن يكون لديك قصة لترويها، هل لديك قصة يا ولدي؟ ينظر له فابيتّو متألمًا، ويجيبه نعم، لقد رفض الطبيب أن يجعلني أرى والديّ قبل أن أدفنهم.
هكذا تولد التراجيديا في العالم، من قلب المعاناة، ومن عبثيتها التي لا تتوقف عن إبهارنا أبدًا.
يقرر فابيتّو مغادرة المدينة متجهًا إلى روما لدراسة السينما، وأثناء جمعه لأغراضه يضع “سورينتينو” لمسته السحرية الأخيرة لتظهر اللوحة في ثوبها النهائي، وتترابط كافة جوانب القصة، يظهر على جهاز التلفاز احتفالات مارادونا في أرضية الملعب بفوزه مع نابولي ببطولة الدوري الإيطالي لأول مرة في التاريخ، وسط احتفالات أسطورية اجتاحت المدينة، لقد فعلها دييجو، انتصر للمدينة الضعيفة على أباطرة الشر، حقق البطولة الأعظم في إيطاليا، لقد تحقق المستحيل.
بينما يبدو فابيتّو غير مهتمًا على الإطلاق، يغلق جهاز التلفاز بحركات بطيئة غير مبالية، نفس الجهاز الذي اعتاد أن يشاهد من خلاله مباريات نابولي برفقة والديه، كل شيء بدا فاترًا وبلا قيمة، حرارة التشجيع بردت، وانطفأت شعلة الحب لمارادونا، لم تعد القضية هي نابولي ولا كرة القدم، ظهر العالم بوجهه الحقيقي والقبيح.
لقد فعل دييجو كل ما بوسعه، وانتصر للمقهورين، ولكن العالم أكبر من دييجو، وأكبر من أي مُخلّص، وأعقد من كل محاولات الخلاص، تلك هي رسالة “سورينتينو” التي قبعت في عمق تحفته الأهم التي ربما قدم فيها سيرته الذاتية، والتي بالتأكيد ستبقى طويلًا في الأذهان.