كيف نخادع أنفسنا بوهم “الأنا”؟ (مترجم)
في واقعنا المعيش، دائمًا ما يتبدى لنا وجود “الأنا” بوصفها قادرة على التفكير والإدراك والتفاعل مع العالم المحيط. حتى اللغة التي نستخدمها تفترض وجود “ذاتٍ” في صورة كيانٍ واعٍ مفارق، فحينما نخاطب بعضنا البعض بعبارات: “أنا أفكر”، “أنت تفكر”. بِيَدِ أنَّ المظاهر قد تغدو مضللة. ونرى “بروس هود Bruce Hood” -اختصاصي علم الأعصاب المعرفيّ- يعرّف الوهم على أنه إدراكنا للشيء على غير ما هو عليه، ويستخدم المصطلح نفسه في كتابه المعنون ب”وهم الذات: كيف يختلق الدماغ الاجتماعي الحس بالهوية الذاتية” (2012). حيث يحاجج في كون الذات محض وهم. وهو مع ذلك لا ينكر على الأفراد إحساسهم بذواتهم، وشعورهم المنطوي على امتلاك هوية ذاتية، تمكنهم من التفكير والإدراك، ويعود ليخبرنا أنه فيما عدا التجربة الذاتية، لا وجود واقعي لشيء يمكن امتثاله كذات.
وفي كتابه “مبادئ علم النفس” (1890)، يخبرنا “ويليام جيمس William James” عن إمكانية الاعتقاد في وجود نوعين من “الذات”. فهناك الذات الواعية باللحظة الآنية، والتي تعبر عنها باستخدام ضمير المتكلم “أنا”، أما الذات الأخرى ندركها كونها هويتنا الشخصية؛ أي جملة تصوراتنا عن أنفسنا، وتلك نعبر عنها باستخدام لفظة “إياي”، ووفقًا لطرح هود Hood، فإن الذاتين كلتيهما من إنتاج الدماغ البشري، ليمنح أفكارنا والعالم من حولنا معنى سياقي، وكلتا اللفظتين يمكن اعتبارهما قصة أو وسيلة لربط مجموع خبراتنا معا، كي نتمكن من انتهاج سلوك بيولوجي نافع.
ولتقريب المعنى إلى أفهامنا؛ حول الكيفية التي يخلق بها العقل وهم الذات، لنفكر في إحدى أوهام الإدراك الحسي: “مثلث كانيزا Kanizsa triangle” (انظر الصورة المرفقة). في تلك الخدعة البصرية يخيل لنا رؤية مثلث، على الرغم من انعدام وجوده. وذلك لأن الخطوط والأشكال الحافة، يمنحانا الانطباع بوجود مثل هذا المثلث. فعقولنا في الأساس مصممة على ملء الفراغات، وفي هذا الشأن يخبرنا هود Hood عن إحساسنا بذواتنا الذي يدنو من كونه هلوسةً قوامها التوفيق بين الأجزاء المتفرقة في نسيج واحد. وبناءً عليه فإن إدراكنا لذواتنا يعد نتيجة للنشاط التجميعي الحاصل بين أجزاء الدماغ المختلفة، لضم خبراتنا وأفكارنا وسلوكباتنا في نسيج سردي. ومن هذا المنطلق فإن إحساسنا بذواتنا يكون مصطنعًا.
وتتضح فرضية هود Hood في تصورها للدماغ البشري كونه مجبولًا بطبيعته على حبك سرديات في سبيل إضفاء المعنى على العالم من حوله. وبصورة جوهرية فإن عقولنا تفكر دائمًا بأسلوب قصصي. فترى العقل يبحث عن الشخصية الرئيسة وعن اشتغالها، أو قد يتسائل إلى من تتحدث، وتراه يستقصي موقع المقدمة والمتن والخاتمة. وفي ضوء ما سبق يتبين أن ذواتنا محض اختلاقٍ نابعٍ من قدرة عقلنا على سرد القصص وتركيبها.
وهذا الاعتقاد مدعومٌ بعدد من دراسات الحالة في حقل الأمراض العصبية؛ فنجد على سبيل المثال في العديد من كتب طبيب الأعصاب “أوليفر ساكس Oliver Sacks”، وصفًا لمعاناة المرضى مع تلف مناطق الذاكرة في الدماغ، والذي يُتبع بانمحاء لجزءٍ من هويتهم الذاتية. وفي كتابه ذائع الصيت “الرجل الذي حسب زوجته قبعة”(1985)، يصف لنا حالة لمريض اسمه “جيمي جي”، الذي فقد قدرته على الاحتفاظ بما يستجد عليه من أحداث ، فأمسى دائم النسيان، ومن دقيقة إلى أخرى، لا يعود يتذكر ما الذي جرى له أو ماذا فعل (ونجد في فيلم “تذكار “Memento أن البطل عانى الحالة المرضية نفسها). وكان من تبعات حالة جيمي المرضية أنه فقد إحساسه بذاته، إذ أنه لم يعد قادرًا على بناء نسيج سردي مترابط عن حياته. ونجم عن تلك الفجوات في سردية جيمي الذاتية معاناة حقيقية، فبات يؤرقه البحث عن المعنى والإشباع والسعادة. وفي مثل تلك الحالات، يتضح لنا أن إحساسنا بهويتنا نابع من التوفيق بين العديد من أجزاء الدماغ وعملياته. بل إن سعادتنا مرهونة باستمرار توهمنا لذواتنا.
ويقدم لنا علم الأعصاب برهانًا على صحة الفرضية الرامية إلى اعتبار العقل آلة لنسج السرديات، فقد وثّق طبيب الأعصاب “أوليفر ساكس” عددًا من الحالات لمرضى مختلفين، اختلقوا قصصًا تفسيرية تجافي واقع إعاقتهم. كما قد أخبر عالم الأعصاب “فيلايانور راماشاندران V.S. Ramachandran” عن مرضى أصابهم الشلل، لكنهم ينكرون وجود أية مشكلة. والدماغ هنا مصممٌ على حبك سرديته الخاصة حتى وإن عارضت جلاء الحقيقة ووضوحها (كعجز الذراع عن الحركة).
ولا يرمي ما سبق طرحه إلى اعتبار استيهاماتنا بوجود الذات عديمة الجدوى، فهي أقوى أشكال الوهم الذي نحياه وأكثره اتساقًا. لذا فإنه لابد من وجود هدفٍ من وراءها، ومن وجهة نظرٍ تطورية؛ فإن اعتقادنا في وجود ذواتنا؛ باعتبارها مفارقة ومشخصنة أمر ضروري ونافع. وإحساسنا بذواتنا يمنحنا الحافز الرئيس للبقاء على قيد الحياة والتكاثر، فهي التي تضفي المعنى على بقائي ورغبتي في تمرير جيناتي وبقائها في “مَجْمَع الجينات gene pool”. وإلا، كيف لك أن تكون أنانيًا في مراعاة مصالحك، لو لم تمتلك إحساسًا بالذات. وإذا زال هذا الإحساس، وخضنا غمار الحياة ذائبين في الجمع البشري، فماذا تكون جدوى التنافس؟ ولربما أمكننا اشتقاق بعض الدروس الأخلاقية المهمة؛ من حقيقة كون الذات مصطنعه ومشيده من قبل الدماغ.
وامتثالنا لوهم الذات؛ ليس بالفكرة الجديدة. فقد وصل “ديفيد هيوم David Hume” إلى مقاربة مشابة، إذ يقول أن الذات لا تتعدى كونها مجموع خبراتنا. وفي النصوص البوذية الأولى، يستخدم بوذا مصطلح “أناتا Anatta”، الذي يعني “اللاذات” أو “وهم الذات”. وتتعارض البوذية هنا مع “الديكارتية Cartesianism” التي تفترض وجود كيان واعٍ مسؤول عن إنتاج الأفكار، في حين أن بوذا قد علم أتباعه أن لا وجود للذات أو للأنا، وإدراكنا للعالم هو إدراك حواسي لا تقف وراءه ذات مجردة. وعليه فإن الماديات جميعها لا يصح انتسابها لذات صاحبها؛ لانتفاء وجودها. لذا فعلينا أن لا نتعلق بها أو نشتهيها.