كيف تقتلُ مائةَ ألفٍ ويصفِّقُ لك الناس؟

صاغَ الإنسانُ لنفسِهِ صورةً مركزيّةً كبيرة، فبدايةً من فرضِهِ مركزًا للكونِ وأنّ كلَّ الكونِ يدورُ في فلكِه، إلى ما دون ذلك حاولت البشريّةُ أن تحتفظَ بهذا البناءِ عن نفسِها، فهل يعرفُ البشرُ أنفسهم حقا؟!

بعد اضطراباتٍ سياسيّةٍ وعرقيّةٍ بين قبيلتي الهوتو والتوتسي في رواندا وفي العام 1994م كانت الشرارةُ لقتلِ ثمانِمائةِ ألفِ شخصٍ على الأقلِّ في الابادةِ الجماعيّةِ في رواندا خلال مائةِ يومٍ منذُ أبريل من ذلكَ العام.

كيف يمكنُ أن يقتلَ الزوجُ من الهوتو زوجتَهُ من التوتسي؟ ربّما تتشابكُ العديدُ من القراءاتِ و النظريّاتِ التي من الممكنِ أن تُفسِّرَ هذا الحدث اللاإنساني، وسنحاولُ أن نفككَها سويًّا كي نفهمَ هذا مرةً أخرى..

الجماهير

إنَّ الفردَ المنخرط في الجمهورِ هو عبارةٌ عن حبّةِ رملٍ وسطَ الحبّاتِ الرمليّةِ الأخرى التي تذروها الرياحُ على هواها

وضعَ “جوستاف لوبون” أُسُسًا لدراسةِ عقليّةِ الجماهير، وكيفيّةِ السيطرةِ على الجماهيرِ واستغلالِ جهلِها، ربّما من أهمِّ الخصائصِ التي أبرزَها جوستاف لوبون في الجماهيرِ هي السيطرةُ على الجمهورِ هي مُداعبةُ عواطفِه، واستغلالُ الاندفاعِ الذي تقدّمُهُ الجماهيرُ دون وعي؛ فالشخصُ داخلَ المجموعةِ يفقدُ عقلَهُ النقديّ أو تقديرَهُ للمواقف. في أحدِ الشهادات بعد المذبحةِ يقولُ أحدُ المشاركين في المذبحةِ من الهوتو:

 لم أكن أشعر بما أفعله ، كان الأمرُ يحدثُ بسرعة، ولم أكن واعيًا!

 

 

 

إعلان

في داخلِ الجماهيرِ توجدُ لعبةُ العواطفِ التي تسمحُ لك بجعلِ حَلَبةِ الصراعِ دائمًا بين قوتين: قوةُ الجماهير والآخر

من أهمِّ المفاهيمِ التي تتمُّ صياغتُها في الصراعاتِ التي تلعبُ فيها الجماهيرُ دورًا هي “الآخَر

فالآخرُ دائمًا يستحقُّ أن تُنتَزعَ منهُ الإنسانية، ويمكنُ أن تقتُلهُ بدمٍ بارد، فهو مجردُ “آخر”.

في النموذجِ الروانديّ استغلَّ الإعلامُ هذه النقطةَ في اشعالِ صِراعِه؛ فقد صُوِّرَ التوتسي في الإعلامِ كالثعابين، و لكي تنعمَ بحياةٍ هادئةٍ عليكَ أن تتخلّصَ منهم!

يستخدمُ أيُّ ديكتاتورٍ أو جماعةٍ مثل تلك التشبيهاتِ في إثارةِ الجماهير.
الجماهيرُ لا تريدُ أسبابًا منطقيةً كي تكرَهَ المجموعةَ التي يريدُ الديكتاتورُ أن يقمعَها.

الجماهيرُ تريدُ المزيدَ من التشبيهاتِ التي تجعلُها تكرهُ دون وعي، فلا مجالَ هنالكَ للعقلِ النقديّ ..”العاطِفة” هي كلمةُ السرّ.

الإعلام.. للقتلِ وجوهٌ أُخرى

مشكلةُ الإعلامِ وصناعةُ القتلِ هي أنّها تساعدُ في اتّساعِ رقعةِ القتلِ بلا هوادة.

في رواندا استغلت الدولةُ صحيفةً تُدعى “Kin yamateka” في التفريقِ العرقيّ؛ ففي الإعلامِ قد ترى أشياء مثلَ الشوفينيّة (الحبُّ الشديدُ والتعصب لشيءٍ ما أو قيمةٍ ما، والحضُّ من قدرِ ما دونها) وسيادةَ نظريّةِ القطيعِ لاستغلالِ الجماهيرِ الغاضبة، والمتعطِّشةِ ربّما لسفكِ الدماءِ أحيانًا من أجلِ تلك القيمةِ أو ذلك الشيء!

من تلك الصحيفةِ خرجَ رموزُ النظامِ الروانديِّ الذين بدأت على أيديهِم المذبحة.
تدعمُ وسائلُ الإعلامِ الجماهيرَ الغاضبةَ بالمزيدِ من التبريراتِ التي تجعلُها تُدفَعُ للقتلِ بلا شفقة.. إنَّها “العاطفة” مرّةً أُخرى.

ربما كان الوطنُ أحدُ هذه الأشياء، ربما إذا أضفتَ إلى خطابِك الداعي إلى الكراهية بعضًا من المشاعرِ الشوفينيّة؛ حيث المغالاةُ في الوطنيّةِ الزائفة، واحتكارُ مصلحةِ الوطن.

ربما لن تكونَ رواندا إلا مجرَّدَ مثالٍ لسيادة الهمجيّةِ الإنسانيّة، لكن بوجوهٍ أُخرى غير القتل البربريّ.

القتلُ الذي يُلاقَى بالتصفيق…

 

إعلان

اترك تعليقا