كما كنّا – قصة قصيرة

الطرقات الخالية في الليالي الشتوية المطيرة ليست مُعَدّة للسير وحيدًا، عيناي لم تألفها بعد في تلك الصورة، المباني الشاهقة وواجهات المحال التجارية تنتصب على جانب، والبحر قابع في الجانب الآخر بهديره الذي لا ينقطع وكأنه يغط في نومٍ عميق، وقطرات المطر تبلل الطريق فتنطبع على صفحته انعكاسات الأضواء الملونة من السيارات القادمة… لوحة فنية ساحرة لكن ينقصها وجودِك.

الطرقات الخالية في الليالي الشتوية المطيرة، وأنا وأنتِ، نسير سويًا كما كنا دومًا، ممسكين بالمثلجات في أيدينا كأنما نتحدى العالم بتعاقب فصوله الذي يشبه التقلبات المزاجية، وما كنا لنعبأ به وبتقلباته ونحن معًا. فبقدر الذهول الذي تملَّكني أول الأمر لم أنقطع عن تلك العادة، حتى بعد غيابِك، وحتى بعد أن أعلن جسدي الهزيل احتجاجه بارتعاد العظام وآلام الأسنان مما أفطنني إلى عجزي عن التمادي في التحدي بدونك، تتناهى إلى سمعي سخرية العالم من ضعفي كل مرة أشرفت فيها على المحاولة.

الطرقات الخالية في الليالي الشتوية المطيرة… أتذكرين تلك الليلة ونحن جالسان بالمقهى حين أخرجتِ مرآة صغيرة من حقيبة يدك ورحت تتأملين ملامحك الدقيقة في تأفف، ضحكتُ حين نظرتِ في عينيَّ برجاء وقلتِ: “لستُ جميلة كفاية”… ضحكتُ كما لم أضحك من قبل ورحت أتخيل الملكين على كتفيّكِ يضربان كفًا بكف وقد رفعا مؤشر السيئات بمقدار مائة درجة لقاء كذبك. يومها ابتعنا سلسلتين تحملان رمز اللانهاية وتعاهدنا على البقاء سويًا إلى الأبد، لم أنزع السلسلة من وقتها عن عنقي، ورغم ذلك انقضى الأبد في لمح البصر!

الطرقات الخالية في الليالي الشتوية المطيرة… ذات ليلة أخبرني الطبيب –وقد صرت أتردد على عيادته أسبوعيًّا– أن الكتابة قد تساعد في تحسين حالتي النفسية، ولعلها تخرج الأفكار السلبية من عقلي. لا يعلم ذلك المسكين أنني لست سوى كومة من تلك الأفكار السلبية، وفي زوالها زوالي؛ لكني سأكتب على كل حال، سأكتب بكل ما في قلبي من يأس وبكل ما في رأسي من خواء، سأكتب بصدق من لم يعد يملك شيئا ليخسره.

صار المطر ينهمر بشدة كأنما تبصق السماء عليَّ وعلى مأساتي، والطرقات خالية لاتزال، وأنا وحدي في مواجهة ذلك الوحش الذي ينفرد بالأرواح المعذبة ويحاول جاهدًا دفعها للانتحار.

إعلان

انعطفت لداخل مقهى قريب اتّقاء سخرية السماء، طلبتُ شايًا عدَّة مرات، ورحت أدخن سجائري بنَهَم من صار الموت خلاصه الوحيد.
من جيب معطفي أُخرِج الهاتف وأكتُب نصًا جديدًا أحفظه لكِ لحين عودة الأيام الخوالي.
أطلتُ المكوث على ما يبدو إذ خلى المقهى من الروَّاد وحثني النادل بلباقة خبير على الانصراف، فخرجت لا ألوي على شيء.

*****

انقضى مساءٌ وحلَّ صباح، وفي عصر اليوم التالي وقفت أمام المكتبة مأخوذًا لمّا رأيتُها.

كانت هي، تتهادى هنا وهناك متأنقة في حلّة سوداء وشعرها منسدل على كتفيها… فاتنة كالمعتاد ومشرقة القسمات، لا يظهر عليها أي آثارٍ لمعاناة من الواضح أنني خضتها وحدي..
لكن ما الذي تفعلينه؟ هل صرتِ أمينة مكتبة بين ليلة وضحاها؟ لم أعهد فيكِ ولعًا بالقراءة قبل الآن أو اهتمامًا بالشأن العام، ولم ألمس عندك أي تقدير خاص تكنينه للمثقفين والكُتّاب!
يبدو أن دهشتي هي ما صارت تدعو للدهشة… أوليس كل شيء يتبدل كما تبدلت القلوب وتبخرت الوعود؟!
اعتليت الدرج ودلفت للداخل، حائرًا وقفت أمامها ولم أجد ما أقوله، بيد أن نظراتي المرتبكة وشت بالكثير وعاتبَتها بقسوة.

بابتسامة خدمة العملاء قطعت شرودي قائلة:
– “اتفضل يا أستاذ. بتدور عن حاجة معينة؟ كتاب، رواية ..”

أستاذ؟! ها هي تحاول دفعي للجنون، ولكن عيناها صادقتين، أقسم. لولا أن فراقنا لم تنقضي عليه أسابيع عدَّة لقلت أنني صرت في طيّ النسيان بالنسبة لها. اختلستُ نظرة على عنقٍ ناصع البياض ولمحت طرف سلسلة فضية أعرفها جيدًا.

طال الصمت وخفتُ أن تتوتر الأجواء، فطلبت أيَّة رواية لنجيب محفوظ.

سحبَت كتابًا من بين الرفوف وعادت بنفس الابتسامة:
– “إيه رأيك في كتاب (أصداء السيرة الذاتية)؟ بالصدفة قريته امبارح وعجبني.”
– “تمام. كويس.” قلت باقتضاب.

هي صادقة ولا شك وعليَّ أن أراجع نفسي بل علي أن أراجع الطبيب، تلوح في عينيها نظرة من يحادث الغرباء ولهجتها تحمل قدرًا كبيرًا من الرسمية، فهل فقدت عقلي كما يقولون؟! أم أن تلك حيلة أخرى من حيلها التي لا تنتهي؟

  • “ممكن تاخد الترابيزة اللي على اليمين هناك… ركن هادي ومفيش حد يزعجك. اتفضل لو تحب.”

هممت بالانصياع لكني رجعت وسألتها بريبة:
– “أنتِ مش عرفاني؟”
– “أفندم؟ لأ مظنش الحقيقة، أنا في المكان هنا من مدة وأول مرة أشوف حضرتك، الظاهر كدة إني بفكرك بحد تاني، ولا إيه؟”

قرأت بلا تركيز أو رغبة في القراءة، ورجعت للبيت وقد غابت الشمس، الدوار اللعين يفتك برأسي، وتعبث الهواجس العمياء بكيمياء مخي. بلهفةٍ ورجاء تصفَّحت بريدي الإلكتروني بحثًا عن كل تلك المحادثات التي تمَّت بيننا واستمرَّت قرابة العام، المحادثات التي طالما ملأت أيامي بهجة وونس، ولم أعثر عليها! كان بريدي خاويًا على عروشه؛ اللهم إلا من رسائل الدعاية المقيتة.

حكيت للطبيب، حكيت بتأثرٍ بالغ وتلعثمت كصغيرٍ يتعلم الكلام. أما هو فقد كان منصتًا باعتيادية من يتوقع الأمر، وبانتصار من تأكدت شكوكه، وكأنَّ لا مفاجأة هناك، بل وكأنَّ الصورة قد وضحت وانقشع الضباب، حتى أنني لمحت شبح ابتسامة على وجهه، أعرب بهدوء: “كان بودي أطمنك؛ إنما احنا في موقف يستدعي الصراحة، التطورات الأخيرة بتقول إن حالتك مش سهلة. يؤسفني طبعًا. كان انطباعي أول مرة جيت هنا هو إنك يا ابني متوتر وخجول بطبعك، ذُهلت من قصتك لأن كان صعب أصدق إن الجرأة والردود اللبقة دي تصدر عنك خصوصًا مع اللي شايفه قدامي. كمان في ثغرات واضحة في الحدوتة وعمرك ما حكيت عن بداية العلاقة وازاي وامتى عرفتوا بعض، فكتير تسائلت يا ترى الكلام ده تم فعلا؟! التشخيص المبدأي هو إنك بتعاني من هلاوس سمعية وبصرية من الدرجة التالتة وبكرة نتأكد لمّا نعمل أشعة مقطعية على المخ. أرجو إني أكون غلطان وألف سلامة عليك”.

*****

لقد جننت. لن تغير الكتابة تلك الحقيقة، بل إنها ربما ستضفي عليها صفة الشرعية، لكني سأكتب لكِ رغم كل شيء.

“أيا منقذتي…
وجدت نفي لما وجدُتكِ، ظهرتِ في دنياي كقمرٍ أهتدي به في الليالي حالكة السواد، وفقدت كل شيء بفقداني إياكِ، وها هم يخبرونني بأنني توهمتك. كنتِ خيطًا واهٍ نسجه عقلي البائس لأتعلق به حين هبَّت العاصفة. آمنت بكِ وسلَّمتكِ الزمام، ثم بعد أن تغيَّرت الأماكن واختلفت الوجوه تركتِني كطفلٍ تائهٍ يبحث عن أمه وسط الزحام ليخبره الجميع أن أمه لم توجد قط، وأنها ماتت يوم مولده. فهل لو كتب الطفل خطابًا لأمه الميتة سيعدّونه مجنونًا؟ ليكن. لم أكن لأعبأ بهم على أيِّ حال. لا عجب أن اختيارك قد وقع على كتاب “أصداء السيرة الذاتية”، حيث قرأت: “ما أجمل أن تودِّعها وقد ازداد كل منكما بصاحبه رفعة” وأنا قد ازددت رفعة بلقياكِ، فلعل تلك كانت رسالتك الأخيرة لي”.

أغلقت الخطاب وأودعته أسفل وسادتي ثم انكمشت على نفسي ورحت في نومٍ عميقٍ لم أذقه منذ شهور.

لم يجد الطبيب ما يدعو للقلق رغم ذلك، كل ما هنالك أن الوحدة قد أغرقتني في الخيال لدرجةٍ لم أعد أميز معها بينه وبين الواقع، كانت أحلامي تغذيني بكل ما تمنيت أن تكون عليه حياتي الخاوية. لحسن الحظ لم تصل خطورة الحالة لأبعد من ذلك، فلم أكن أنتوي قضاء بقية عمري برفقة المرضى والمجانين والأنبياء بأيِّ حال.

*****

خرجتُ هذه الليلة وفي يدي مظلة، ابتعت المثلجات كما العادة ورفعت المظلة غير آبه بكثافة المطر المتساقط. فقط أمِلت لو تصير الطرقات أقل وحشة بمعرفة الحقيقة ونفض الأوهام مهما بدت جميلة ومهما هوَّنت على صاحبها من آلام، قد آن للطفل أن ينضج ويسير وحده دون أن يثير ذلك مخاوفه، بالطرقات الخالية في الليالي الشتوية المطيرة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد رجب

تدقيق لغوي: مرح عقل

اترك تعليقا