كتاب الوطن الأم الدُّرَّة المجهولة !

“لا توجد أوطانٌ مُتخلِّفةٌ، ولكن توجد فقط أوطانٌ فَشِلنا في حبِّها وتحليلها”.

_أحمد عاشور “الوطن الأم”

بهذه العبارة الموجزة، التي تبثُّ الأمل في كل شخص يُمعِن النظر في فحواها، يُختَتم الكتابُ البديعُ “الوطن الأم” الذي قدَّم المؤلف (أحمد عاشور) في فصوله، كلَّ ما يوطِّئ لأنْ ينتهي إلى هذه العبارة الواثقة. فكأنه أراد أن يقول ضمنيًّا:

إنّ سبب تخلُّف الوطن هو (فشلُنا) في حُبِّه وتحليل أزماته، وها أنا ذا أُقدِّم لأبناء وطني طريقةً (ناجحةً) لفهم الوطن وتحليل تاريخه واستنباط أسباب تدهوره، وأعرض أمامهم نموذجًا لحب مصر، قوامُه: المكاشفة، والشفافية في التعامل مع المسكوت عنه في تاريخها القديم والحديث، وتجنب الشوفينية الوطنية، التي يطيبُ للخطاب الإعلامي المعاصر توظيفُها؛ لخدمة التَّوجه السياسي العام، المتاجر بالوطنية، والمتعصِّب للروايات التاريخية الرسمية، التي تعظِّم دائمًا من شأن الحكام، وتُسهب في ذكر أمجادهم، وإنْ بُنيت هذه الأمجاد المزعومة على جثث آلاف البسطاء من أبناء الشعب الذين لا وزن لهم عند أهل الحرب والسياسة، والذين دفعوا دائمًا ثمن الصراعات السياسية طوال عصور الاحتلال التي شهدتها مصر، والتي أجاد المؤلف في تحليلها، خلال صفحات الكتاب. هي حقًّا محاولةٌ ناجحة، لا يصبح من بعدها تحرِّي أسباب التقدُّم أمرًا شاقًّا، لأنَّ تجلية أبعاد المشكلة، مقدَّمٌ أبدًا على التفكير في إيجادِ حلولٍ لها، والمقدِّمات السليمة تقود حتمًا إلى نتائج سليمة.

أول ما يطالعك حين تنظر إلى الغلاف الأماميّ، هو بالطبع العنوان. الوطن الأم (دراسة في الثقافة القومية المصرية – تأسيس تاريخيّ). وأسفله لوحة يغلب عليها اللون الرمادي بدرجاته، تُصوِّر أطلالَ بناءٍ ضخمٍ، تراكمت أجزاؤه المتهدِّمة بعضها فوق بعض، وفي جانب اللوحة الأيمن، يظهر كيان بشري غير واضح المعالم، يشبه امرأةً تحتضن طفلًا، تقف بعيدًا عن هذه الأطلال، والرياح تُطيِّر أذيال ثوبها، وهي تنظر إلى الرُّكام.

لا يختلف ما توحي به اللوحة كثيرًا عن الشعور الذي سيصحبك أثناء القراءة، فآليات الاحتلال التي أنهكت الإنسان المصري، و سعت إلى تهميش الثقافة المصرية ومحاربتها، طوال 2284 سنة متصلة، خلَّفت مصرَ أطلالًا  ورُكامًا، وهذا هو ما سيستنتجه القارئ حين يطَّلع على الرواية المصرية للتاريخ المصري (أو ما يُعرف بالتفسير الثقافيّ للتاريخ)، وهي التي تبنَّاها المؤلِّف في تناوله للتاريخ المصري، واضعًا نصب عينيه أحوال المحكومين لا الحكام، بإعمال العقل في الروايات التاريخية الرسمية، واستقصاء الروايات المهمَّشة واستنباطها من المصادر التاريخية الرصينة، للاستدلال على ما يمكن أن يُسمَّى: (التاريخ المسكوت عنه). وقسَّم في كتابه التاريخَ طبقًا للاتجاهات الثقافية، لا الحقب التاريخية كما يفعل الآخرون، لكي يتلافى التداخل الثقافيّ بين المراحل المختلفة، ويتمكن من التمييز بينها. وهذا المنهج -التفسير الثقافي للتاريخ- ليس شائعًا في أوساط الباحثين داخل مصر، ولعل هذا الكتاب هو أول محاولة جادَّة لتقديم التاريخ المصري وفقَ هذا المنهج.

خلص المؤلف إلى اعتبار أن آليات الاحتلال خمس، وأن أيَّ حاكمٍ يُطبِّق هذه الآليات، يصدق فيه أن يُوصَف بـ (المُحتَّل). ولهذا خالف الاصطلاح العام الذي يَعُدُّ دخول عمرو بن العاص إلى مصر (فتحًا إسلاميًّا)، وسمَّى هذا التحرُّك العسكري – بشكل صريح – في عنوان الفصل الرابع، بـ (الاحتلال العربي)، لأنّ تتبُّع ما أحدثه العرب في مصر، يوافق ما طرحه المؤلف، بشأن آليات الاحتلال، التي اتفق عليها مع العرب، الهكسوس والفرس والرومان وغيرِهم من المحتلين. وهذه الآليات هي:

إعلان

1– الحكم العسكري وغياب المجتمع المدني.

2– النهب المنظم لثروات البلاد (وهو قد يكون نهبًا إلى الخارج، وعادةً ما يتم بمعرفة ولصالح العناصر المحتلة، ويكون أكثر نشاطًا أثناء احتلال الإمبراطوريات لمصر، مثل الاحتلال الفارسي والروماني والبيزنطي والعربي والتركي والفرنسي والبريطاني. وقد يكون نهبًا إلى الداخل، وينشط أثناء عصور دول الاحتلال المستقلة، مثل الاحتلال البطلمي والطولوني والإخشيدي والفاطمي والأيوبي ودولة المماليك).

3– الاستعلاء الاجتماعيّ عبر خلق طبقة مسيطرة من الحكام ورجال الإدارة يحتكرون المناصب والمكاسب على حساب تهميش باقي فئات وطبقات المجتمع، دون أن تخلو هذه الطبقة من عناصر محلية، هي بالضرورة صنائع المحتلين، ومعظمهم من سكان المدن أو ملاك الأراضي الذين نشؤوا في ظل حاضنة ثقافية واقتصادية وسياسيّة أجنبية.

4– الاستعلاء الثقافيّ عبر ترويج نماذج ثقافية دخيلة على الوطن وتهميش الثقافة الوطنية المصرية بل واحتقارها لصالح ثقافات الشعوب المحتلة، وهذا نشأ عنه تعايش أكثر من نمط ثقافي أجنبي داخل المجتمع تحت مسمى خبيث، هو أن مصر بلد متعدد الثقافات! مما كان له أبلغ الأثر في استمرار حالة الاحتلال الأجنبي لمصر، لدرجة أنّها أصبحت تُعرَف بأنّها أكثر المستعمرات تعرُّضًا للاحتلال في العالم، والسبب هو تعدد أوجه الاختلاف في منظومة القيم حسب الحاضنة الثقافية لصاحبها.

5– سيادة ثقافة القهر: بمعنى أن الحكم العسكري بآلياته السابقة ووجود الضباط متحكمين في كل نواحي النشاط القوميّ بأسلحتهم القاتلة في مواجهة شعب ضعيف غير مسلح ثقافيًّا أو اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا، يُنتِج الرضوخ والتبعية والإحساس بالدونية والنفاق والتزلف والمبالغة في تعظيم مصادر القهر. ويرى علماء الاجتماع والنفس أن نماذج التسلط والرضوخ أصابت كل العلاقات في مصر مثل علاقات الرؤساء بالمرؤوسين والكبير بالصغير والرجل بالمرأة والقوي بالضعيف. حتى الحب في المجتمعات المقهورة يمارس تحت شعار تسلط المحبوب ورضوخ الحبيب.

حتى حب الأب والأم للأولاد يغلب عليه الطابع التملكي. ويضيف علماء الاجتماع أن قهر الحكام للإنسان المصري نتج عنه الفقر والزحام ومحاولات تكيف مستمرة من المصريين مع مناخ وظروف مثلث (القهر والفقر والتخلف) حيث يقوم الإنسان المصري المقهور بتطوير سلوكيات وأفكار وقيم ومبادئ تتصل بالقناعة والرضا والقسمة والنصيب والحظ والارتباط بالتقليد وكراهية التجديد والتحايل على المعايش والتحايل على السلطة والقوانين والميل إلى إفساد المنشآت والمرافق العامة، ثم الكذب والتضليل والخداع والتلفيق والنفاق والعدوان تجاه الآخر المختلف ولو بصورة مستترة مثل الحقد والكراهية والحسد والشائعات والنكت.

ينتقل المؤلف من عصر إلى عصر، ومن فصل إلى فصل مسترشدًا بهذه الآليات الخمس الكاشفة لحقيقة تاريخنا المسكوت عنه.

صدر الكتاب عام 1999، في ختام الألفية الثانية، فكأنَّه أراد أن يطوي صفحة ألفَيْ عام من الأباطيل والأكاذيب، بكشف الحقائق الصادمة. ولم تصدر له طبعة ثانية، ولذا يُعدُّ العاثر به محظوظًا، كمَن وجد مخطوطًا عمره ألف سنة! وقد نوَّه بـ (الوطن الأم) الكاتب الكبير أنيس منصور في مقالين، واعتمدتْ عليه كمرجعٍ، الباحثةُ بسمة عبد العزيز في كتابها الممتع (إغراء السلطة المطلقة). ولهذا أعد هذا الكتاب دُرَّة مجهولة؛ فهو لا يقل شأنًا عن الكتب المؤسسة لوعينا المعاصر، مثل (في أصول المسألة المصرية) لصبحي وحيدة، و(شخصية مصر) لجمال حمدان. وبرغم مكانة هذا الكتاب، لا نكاد نجد لما يطرحه من أفكارٍ صدًى في هذا العصر، برغم احتياجنا العظيم لهذا المنهج، وهذه الرؤية.

ولعلَّ أغلب القرَّاء سيندهشون إن علموا أنَّ أغلبَ الآراء المثيرة للجدل التي يطرحها من حين لآخر ذلك المفكر الذي يملؤه تعالي كبار الموظفين ومحدَثي النعمة، على الفضائيات، سبقه إليها (أحمد عاشور) في كتاب (الوطن الأم)، لكن المفكر (الموظف) أخرج الأحداث التي يفخر باكتشافها من سياقها التاريخي، وأخفق في تحليلها، فظهر مثل الصبي الذي ما إنْ علم أنَّ تخلُّق الأطفال يتم عن طريق ممارسة الجنس، حتى طفق يوزع صور أبيه وهو ينكح أمه، على من يلاقيه من المارة، بدعوى (كشف الحقيقة)! فاستعدى عليه المسيحيين بإحدى رواياته، وأغضب جميع المصريين بشتمه صلاح الدين؛ ولو علم أنَّ هناك كاتبًا سبقه إلى مناقشة هذه القضايا، بمنهج علمي رصين، يبين الظروف التاريخية لكل حدث، ولا يستخدم لغة (المصاطب)، لتقلَّص بالون غروره قليلًا.

كتاب (الوطن الأم) هو الأساس النظري لحكم مصر وإدارتها، في ضوء فكرة القومية المصرية. وصفحات هذا المؤلَّف، تكاد تقول: إننا قومٌ كنا أذلاء، فاكتسبنا العِزَّة بالقومية المصرية، فإن ابتغينا العِزَّة بغيرها، أذلنا الله (وفق تعبير عمر بن الخطاب مع قليل من التصرُّف).

ويمكن تلخيص رسالة الكتاب في هذه الفقرة التي تَرِدُ في الختام، والتي بها من الإسقاطات على الواقع، ما يقتضي إطالة التأمل:

(إن هوية الشعوب لا تتحدَّد بقرار سياسي، أو مادَّة في دستور الدولة، ولكنها تتحدَّد وتتخلَّق وتنمو وتزدهر بالحاضنة الثقافية للوطن الأم. فالوطن الذي يستمد هويته من خارج أرضه، هو وطن ضائع).

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد أحمد فؤاد

تدقيق لغوي: مريم زهرا

اترك تعليقا