خلاصة كتاب الحداثة مقدمة قصيرة جدًا، كريستوفر باتلر
Modernism: A Very Short Introduction
يناقش كتابُ “الحداثة: مقدمة قصيرة جدًا” لكريستوفر باتلر حالةِ الحداثة، وما أفرزته عبر الحركات الفنيّة والأدبيّة التي سادت خلال تلك الفترة وأقحمت نفسها في غمار السياسة والثقافة والمجتمع ناهيك عن مجالاتٍ أخرى.
وسنقرأ في هذا المقال خلاصته الجامعة لأهمّ ما جاء فيه، شارحين وكذلك مبسِّطين مقاصده في أجزاءٍ معنونة من وضع المقال. كما يجدر الأخذ بعين الاعتبار أن جلَّ ما في الكتاب لم يركز اهتمامه على وصف العصر الحداثي آنذاك، بل سلَّط الضوءَ على الفنون والآداب وملحقاتها.
التعاطفات الثقافيّة الشاملة والجامعة للحداثة هي ما تجعلها ضرورية جدًا للثقافة وصراعات العصر الحاليّ
-كريستوفر باتلر (1)
الحداثة:
في خِضَمِّ عالم الحداثة الذي عرفَت فيه التكنولوجيا انتشارًا وازدهارًا واسعًا مع العلم ومناهجه، إضافةً إلى تغلغل نظم السوق الرأسماليّ، ورج أسس الدين الدوغمائي، وكذا مفهوم الأنثى والذكر والعلاقة بينهما، نشأت نظريّةٌ للحداثة كان الأدب والفن يقودانها مجدديْن وناقديْن ومُصِّوريْن للعالم، فقد عارض الكتاب والفنانون السياسات المهيمنة، هذا الشيء الذي تماشى مع الثورات العلميّة والفلسفيّة مثلما مرة عند نيتشه وفرويد ويونغ وآينشتاين.
لقد كانت الرؤيةُ الحداثيّة ناقدةً وساخرةً تصف المجتمعَ وتعبّر عن الإنسان، وقد اتسمَّت بالتحرُّر والتمرُّد على الأعراف الاجتماعية. وقد فضَّل الحداثيّون وقتها تجنب القيام بتفسير مقاصدهم، مثل الفنان بيكاسو وجورج براك اللذين أسَّسا الفن التكعيبيّ من دون أن يتحدثا بشيء، كما كانا يريان أنّ أساسَ أعمالهم كامنٌ في التقاليدِ القديمة التي منها يخلقون أعمالًا تنتقد السابقة أو تشير إليها، مع وجود من كان يدعو إلى قطيعةٍ نهائيّةٍ مع الماضي في الوقت نفسه.
لم يكن الحداثيّون جميعهم ينتهجون نزعاتٍ واحدة، فكان منهم الملحدون الذين تجاوبوا مع الدين على أساسٍ ناكرٍ، أو المتدينون، أو المتشككون، أو العلمانيون الذين رأوا الفن شيئًا لا بدَّ منه يقوم بالإكمال أو التنافس مع الدين وقيمه. ناهيك عن التعاون الذي ساد بين الفنانين أنفسهم، والأدباء بعضهم البعض، وكذلك بين الفنانين والأدباء والشعراء ،مثلما فعل بيكاسو حين صمَّم غلافًا لأحدى مقطوعات سترافينسكي “راجتايم”، أو وجود شعراء أو كتّاب يختارون عناوين لوحات الفنانين، الشيءُ الذي ساعدَ في جعل الحداثة نزعةً أو حركةً جامعة.
تتشارك الرواية مع كثير من الفنِّ الحداثيّ في كونها تَنْأى بنفسها عن الماضي بمحاكاته على نحو ساخر
-كريستوفر باتلر (2)
أبعاد الحداثة:
-بعدٌ سياسيّ: ترتبط أعمال الحداثة ببعدٍ سياسيٍّ على مستوى كبير، حيث لا يمكن أن نتحدث عن الحداثة من دونه، وقد ناقشت عدة أعمال سواءً فنيّة أم أدبيّة قضايا سياسيّة كانت سائدة وقتها أو لا تزال، وأضف إلى ذلك تناولها للاضطهاد والحروب. فكان الحداثيون يُعتَبرون معارضين؛ فَهُم “متّبعين في ذلك تقليد القرن التاسع عشر المناهض للبرجوازيّة” (3). وقد عرفنا نتيجة ذلك عدة أعمال خاضت في السياسة أو أشارت إلى الأنظمة الشموليّة، كالنازيّة والفاشيّة أو الشيوعية، إلى حدِّ تجسيدِ شخصية هتلر كرجل عصابات في شيكاغو بإحدى المسرحيات في مثالٍ على الجرأة.
وعلاوة على ذلك، تتّصف الحداثةُ بالعلمانيّة؛ فهي لا تتبع الأنظمة الثيوقراطيّة أو القائمة على الألوهيّة، فالحداثة وفق تريكو كوفمان هي “حركة علمانيّة عظيمة للفرديّة الثقافيّة اجتاحت الفن والثقافة بعد 1888” (4).
ورغم هذا، فقد كان العديدُ من الفنانين والأدباء ذو نزعاتٍ ماركسيّة، بحيث انضمّ العديد منهم إلى الحزب الشيوعيّ خاصةً لسبب معاداتها الطبقة البرجوازيّة، محاولين بذلك المزج بين فلسفتها وما يودّون تقديمه.
-بعدٌ تاريخيّ: لقد تميّز الفنُ الحداثيّ ببعدٍ تاريخيّ منَحَ أهميةً بالغةً للتاريخ والثقافات التي كانت سائدةً منذ قرون، فقد تتطلَّب من الفنانين والكتّاب معرفة ثقافاتِ العالم مع وضع مقارنةٍ بينهم وبين حاضرنا اتّسمت في شتى الأعمال، كما وضعت تشابهًا بين أحداثٍ تاريخية عشناها وأحداثٍ ماضية نعيشُها. وقد ركّز الحداثيّون سواءً أكانوا فنانين أم أدباء على دراسة تاريخ الحضارات، حتى الثقافات البدائيّة، مستعملين رموزًا وأعلامًا تاريخيّة وأسطوريّة في أعمالهم تضمُّ شخصياتٍ أو أحداث من العهد القديم، ورموزًا ثقافيّة أو شخصيات دينيّة معروفة، وقد تم توظيف أساطيرَ الخصب والأعمال التي تكتسي طابعًا تاريخيًّا، مثل رواية“سيدهارتا” ومسرحية “المرأة الطيبة من سيتشوان”، وقد وظّفوا فن السخرية بالتطرق إلى الماضي، كذلك فكان التلميح عن طريقِه على حاضرِنا الذي نتخبط فيه.
-بعدٌ دينيّ: لم يكن الفنان الحداثيّ يسير وفق وجهاتِ نظرٍ دوغمائيّة، فقد اختزل في أعماله إحباطَ الادّعاءات اللاهوتيّة ودوغمائيتها، حيث يقول صاحب كتاب الحركة الرمزيّة “آرثر سايمونز”: “مثلما كان الدين وحده يتحدث إلينا حتى الآن يصبح الأدب في حد ذاته نوعًا من الدين” (5).
وعلى الرغم من ذلك فقد حضر اللاهوت والتصوف من دون اجراء قطيعة كاملة معه، فسيطرت على عدة أعمال نزعاتٌ لاهوتيّة وصوفيّة سواءً نقدت أم استغلّت الرموز الدينيّة في طياتها. واحتوت على شخصيات دينيّة وعلاقاتها بالمجتمع والعالم، وصراعاتها مع الشخصيات التي تناقشها في المعتقد، مثل رواية “الجبل السحري” لتوماس مان، والتي تجمع شخصيةً ليبراليّة وإنسانية مع شخصيةٍ يهودية شيوعية يسوعية.
-بعدٌ نفسيّ: زخرت الأعمال الحداثيّة بطابعٍ سيكولوجيّ وتحليلٍ نفسي للفرد، لاسيما على ضوء حالةِ المجتمع النفسيّة بعد الحروب آنذاك، والتي كانت تتسم بالسلبيّة. فقد ركّزت الأعمال على الفرد بطل الرواية أو اللوحة أو المسرحيات أو الأوبرا الموسيقيّة وما توحي به إلى ما يقاسيه وما يعانيه وكيف يفكّر ويشعر.
لقد سعت الحداثة إلى تعقُّب نفسيّةَ الفرد وما فيها من رغباتٍ وجموح، كما استعملت الرمزيّة لتدل على الرغبات المكبوتة فيه ومشاعره. وتم استغلال التحليل النفسيّ لفرويد الى جانب الماركسية -كما فعل السرياليون- حيث يقول أودن:
“مهمة علم النفس أو الفن في هذا المقام ليست إخبار الناس بالسلوك الواجب انتهاجه، بل لفت انتباههم إلى ما يحاول اللاوعي المجرّد إخبارهم به” (6).
وقد ربطوا الحالات الفيزيولوجية بالأمراض النفسيّة، مثلما فعل الكاتب دبليو اتش أودن، الذي رأى أنّ كلَّ الأمراض الجسديّة أسبابها نفسيّة، فحسب اتش اودن فإنّ الكاتب “كريستوفر ايشرود قد عانى من التهابٍ في الحلق لأنّه كان يكذب” (7). وبذلك فإنّها مرتبطة بالأخلاق في رؤيةٍ ماركسيّةٍ تجعل من الانهيار نتيجةً للرأسماليّة وكل نظام مبني على التناقض و الخطأ.
-بعدٌ لا عقلانيّ: ناقش الفن البعد اللاعقلانيّ للإنسان، بما فيه اللاوعي. فركزت السرياليّة على التحليل النفسيّ، وكانت ممارستها في ذلك لا عقلانيّة، ففيها “يكون الحكم للفكر في غياب أيّ رقابة من قِبَل المنطق” (8).
ترى السرياليّة أنّ التحرر من العقل هو التحرر من البرجوازيّة، ولهذا هي تولي أهميةً بالغة للأحلام والخيال واللاوعي، وتستخدم الأمراضَ النفسيّة والتعبَ الجسديّ والإنهاك وسيلة لتجسيد فنّها واكتشاف العالم والفرد. وتدعو السرياليّة إلى العفويّة وليس اصطناع الأفكار مثلما حصل في عمل لويس بونوييل وسلفادور دالي حول فيلم “كلب أندلسي”، حيث قرّر لويس أنّ ما حلما به سيكون متضمنًا في الفيلم، يقول سلفادور دالي كما يرويه لويس عنه: “حلمت الليلة الماضية أنّ يدي عليها حشد غفير من النمل” (9)، ثم يقول لويس: ” وأنا حلمت أنّني أقطع أحد الأشخاص إلى نصفين” (10).
إنّ السريالية رؤيةٌ توصَم بالجنون واللاعقلانية، كما أنّها تؤمن بوجوب التحرّر من كل ما يقيِّد خيالَنَا وعقولَنا نفسيًّا وجنسيًّا واجتماعيًّا.
-بعدٌ جنسيّ: ناقشت الحداثةُ موضوعَ الجنسِ متخطيّةً حاجزه، كما تم التركيز كذلك على النساء واستجاباتهن الجنسيّة التي انتُهِكت أو تجاهلتها الدراسات وشوّهتها، مثل منظور فرويد الذي يراها رجلًا أو كائنًا من دون قضيب تتوق لامتلاكه. فظهرت على إثر ذلك عدة لوحاتٍ تتضمن الجنس، أو روايات ناقشته بشكلٍ جريءٍ لدرجة حذف بعض العبارات المباشرة منها، مثل رواية”قوس قزح” لاتش لورانس، والتي حُذِفت منها عبارة “دعيني أقذف” على لسان أحد شخصياتها سنة نشرها 1915م.
كما وظِّف الجنسُ لفهم طبيعة الفرد وسلسلة حياته التي لا تخلو منه للوصول إلى شيءٍ أكبر من مجرد كونها عملياتٍ جنسيّة.
وحظَيَا الجسدُ والمادةُ بأهميةٍ بالغة، حيث يقول لورانس: “ما هو حسّيّ و لا إنسانيّ في الطبيعة الإنسانية أكثر إثارة لي من العنصر الإنساني الذي عفا عليه الزمن” (11).
وعلى الرغم من ذلك كانت هناك انتقادات لمثل هذا النوع من الأدب، كما حدثَ مع لورانس بوصفِه جسّد بعض النزعات الذكوريّة العنيفة.
-بعدٌ مدنيّ: بما أنّ المجتمعات الحداثيّة عرفت المدينة، تلك المدنُ الكبرى التي تتضمّن كلَّ معالِمِ الحضارة الحديثة؛ فقد ناقش الفنُّ هذا الأمر عن طريق تقديم لوحاتٍ تنتمي للفن التكعيبيّ أو التجريديّ وغيره، أو أدبًا متحدثًا عن الإنسان في مدينته.
وقد سيطرت الآلة على الحياة اليومية والعملية في ذلك الوقت، حيث اعتُبِرت شكلًا جديدًا من روح العصر، إذ يقول موهولي ناجي: “إنّ الجميع سواء أمامَ الآلة، فأنا أستطيع استخدامها، إذ يمكنك أنت أيضًا، من الممكن أن تسحقني، ونفس الشيء يمكن أن يحدث لك، لا وجود للتقاليد في التكنولوجيا، ولا وجود للوعي الطبقيّ، كلُّ إنسانٍ يمكن أن يكون سيدًا أو عبدًا للآلة” (12).
يقوم العمل الحداثيّ إذن على توضيح العلاقة بين الإنسان والآلة، يتّسم بالإشارة إلى سيطرة الآلة على حياتنا وحياة المدينة وما لها من أهميّةٍ بيننا.
-بعدٌ نسويّ: يعلَم الحداثيّون بكافة أشكال الخطاب أو الأساليب الموجّهة للمرأة، وبهذا كان من اهتمامهم الدخولُ في موضوع المرأة. ولقد ظهرت عدة أعمال نتيجة ذلك تناقش قضية الأنثى والمرأة بأبعادٍ نسوية، وقد تجلَّى في الرواية الطابع النسوي مثلما نقرأ في كتابات فرجينيا وولف.
تناولت الأعمال الحداثيّة أيضًا علاقة الرجل بالمرأة، سواءً في الأدب أم الفنّ، سلبيةً كانت أم إيجابية، وحظي الوعي التاريخيّ الذي كان كثير من الحداثيين يؤمنون به مقدِّمًا برؤية تقدميّة وتحرّريّة للمجتمع حظًّا في تبني الرؤية النسويّة المتعلّقة به.
-بعدٌ خرافيّ: لقد عاشت الخرافة في عقول الناس والعالم منذ القديم حتّى فترة الحداثة، وقد تضمّنتْ أعمالٌ حداثية تناولًا للخرافة سواءً بالنقد والدراسة أم السخرية. وقد اتصلت بالدين والتاريخ البدائيّ مع الحالة النفسيّة للأشخاص، خاصّةً بعد الدراسات الأنثروبولوجية التي تناولت موضوع الخرافة، ككتاب جيمس فريزر “الغصن الذهبي”. وقد حذا بعض الحداثيين إلى القول بأنّ التاريخ يتضمن خرافة، وشمَلَ ذلك العلم والتكنولوجيا والخيال العلمي، وكما كانت هناك الأعمال التي شدَّدت على أهمية الخرافات في المجتمع وثقله، على سبيل المثال إحدى الروايات التي تتضمن خرافات الأجداد التي تحدّت المسيحية في ايرلندا.
-بعدٌ ذاتيّ: لقد سعَتْ الأعمالُ الحداثيّة في تجسيد ذات الفرد وفرادنيته التي تميّزه عن غيره بشكلها التحرري الذي يحاول الابتعاد عن قيود المجتمع الذي يشكِّل هويتَه وحياتَه، فناقشت الأعمالُ الحداثيّة تجربةَ الفردِ مع العالم وذاته ورؤيته له، و ركَّزت إلى جانب ذلك على خبراته الفردانيّة بعيدًا عن تذويبه داخل المجتمع، وعلاقته بالتجاوب مع أحلامه وعقله الباطن، وكيف يدرك نفسه وما يحيط به، يقول جورج سيميل: “أعمق مشكلات الحياة الحديثة تنبع من محاولة الفرد الحفاظ على استقلاليّة وجوده وتفرّده في مواجهة قوى المجتمع المهيمنة” (13).
يتعلّق الفردُ بالأشياء في العالم الخارجي شعوريًّا ولا شعوريًّا؛ حيث يمكنها التأثير عليه أو تذكيره بذكرياتٍ معيّنة سواءً غير مرغوبة أم مرغوبة، كما نشاهده يتمزّق في خِضمّ مجتمعه وما يعيشه فيه بكل نفسيته وفرديته.
-بعدٌ ساخرٌ ومتنوِّع: تضمَّن الفنُّ الحداثيّ محاكاةً ساخرةً وكوميديا نقدية للواقع الذي نعيشه، الاقتصاديّ والسياسي والثقافي، كما ضمَّ العمل الحداثي أسلوبًا نوعيًا يتّسم بعدة رؤى ومنظورات في العمل الواحد، يمكن اعتبرناه أسلوبًا ساخرًا وشهوانيًا وعاطفيًّأ، أي أنَّ الموضوع هنا هو واحد غير أنَّه يجمع عدة تفاصيل في العمل سواءً كان نصًّا كان أم لوحةً أم قطعة موسيقى.
اعتبر الفنّانون الحداثيون أنفسَهم نقادًا ثقافيين عِظَام.
كريستوفر باتلر (14)
الفنُّ الحداثيّ:
لقد تخطَّى الفنُّ الحداثيّ سواءً التشكيليّ أم الموسيقي أم أيّة أشكالٍ أخرى من الفن التقاليدَ الصارمة التي طالما قبضت على عقل ويد الفنان، فحاول التحرُّر منها، إلّٕا أن هذا لا يعني عدم إجادته لها؛ فقد استطاع الفنانون رسم اللوحات الواقعية، مثل بيكاسو وماتيس، كما اتّخذوا هذه التقاليد نقطة انطلاقة للوحاتهم التجديدية، يتجاوزونها وهم معتمدين على أساسياته.
- الفن التشكيليّ:
-البساطة: وهي السمة التي ميّزت الفنَ الحداثيّ، فلم يحاول الفنان الحداثي تقليد الشكل الذي يرسمه مثلما هو في الأصل معقّد، بل لقد استغرق في تبسيطه متجاهلًا التفاصيل الكثيرة فيه.
-تغيير الألوان: لقد تميّز الفن الحداثي بالابتعاد عن التلوين الواقعي، ما يعني تغييرٍ الألوان الحقيقية في الأشياء؛ فصوَّر الفنانُ الحداثيّ الشجرة باللون الأزرق بدلًا عن اللون الأخضر واعتمد على شعوره أكثر من الواقع.
-التجريد والتغيير : لم يلتزم فنانو الحداثة برسم الواقع أو التعبير عن أفكارهم بأشكالٍ واقعية مثلما رأينا خلال القرن التاسع عشر وقبله، بل اتّجهوا إلى تجسيداتٍ ليس لها أساس من الواقع، ولا يمكن أن تعبر عنه. ويعَدّ الفن التجريديّ أكبر مثال على ذلك، فقد اتصف بتشويه الأشكال حسب مقاصد معينة مثل الفن التكعيبيّ والسرياليّ والتعبيري.
-العشوائيّة: لقد تضمَّنت عدةُ لوحاتٍ من عدة اتجاهات سواء تكعيبيّة وتجريدية وإلخ موادًا هندسيّة أو شكليّة غير مرتبة، وإنَّما عشوائيّة ومتداخلة ومتشابكة في تلاصق فيما بينها عوض التراتب المنطقيّ لدرجة عدم تشابهه مع العالم والواقع.
-التناغم اللونيّ والمزج: قد نجد في الفن الحداثي كذلك طرق لرسم أشكالٍ هندسية أو ألوان تتناسق فيما بينها، تمنح المشاهدَ شعورًا بالارتياح والتناغم والتوازن وتحمل طابعًا لاهوتيًّا وصوفيًا؛ ويتميز هذا الفن بمزج أعماله السابقة في عمل سابقٍ بشكل تجديديّ وأنسب.
- نماذج تشكيليّة:
سنتحدث قليلًا عن لوحة “المحادثة” (سنة 1909م-1912م) لهنري ماتيس، وهي لوحةٌ تجريدية يجسّدُ فيها ماتيس نفسه مع زوجته ايميلي، استوحى عملها من زيارته لمتحف اللوفر ورؤيته لمسلة قانون حمورابي وهو واقف يقابل الإله شمش الذي كان جالسًا.
وتجلس زوجة ماتيس مثلما جلس الإله شمش، أما هو فيقف كالملك حمورابي. ونستطيع أن نرى شرفةً ومنظرًا لحديقةٍ تطل علينا. غني عن الذكر أنَّ اللوحة تحتوي على عدة ألوان متناغمة فيما بينها.
النموذج الثاني هو عمل سريالي لسلفادور دالي المسمى بـ“اللعبة الحزينة”، حيث نرى فيها رجل يمتلك يدًا أكبر من الحجم الطبيعي لليد، وهو إيحاءٌ للاستمناء، كما نعثر فيها على رجل ببنطالٍ قصير عليه غائط، وفرج امرأة، وعدة تجسيداتٍ ورموز أخرى، حيث يغوص هذا العمل في التحليل النفسي والأحلام، وهي تخيلات دالي الجنسيّة.
وكـ نموذج أخير، باستطاعتنا تأمُّل عمل بيكاسو بعنوان “جورنيكا”، التي لها بعد سياسي، فهي تتضمن عملًا يوحي إلينا بغارةٍ جوية، وما تلحقه بالمدنيين. كما أنّ أشكالهم مرسومة بطابع تشويهيّ، وهي تنضح بمشاعر حادة وعنيفة عند رؤيتها، وقد نتَجَ عنها جدالٌ كبير بسبب غموض الكثير من تفاصيلها.
لقد كان تأثيرُ لوحة جورنيكا- بالغًا على الجمهور فيما يخص الحرب، فقد طرُحِت عدة تساؤلات عمَّا إذا كانت تغطي أحداث حرب محددة فقط أو تتحدث عن الغزو بشكلٍ عام. ووضعت اللوحة في مقر الأمم المتحدة، وما يثير الاهتمام أنّها حُجِبت وقت تنظيم مؤتمر حول غزو العراق.
ورجوعًا إلى الكتاب، فقد تضمن حديثًا عن الفن التشكيليّ والأدب أكثر من تناول الموسيقى، غير أنّ هذه الأخيرة كذلك تلعب دورًا بالغًا في الأعمال الحداثية التي تمتاز بنفس الأبعاد السابقة، واتّسَمَت أيضًا بسِمَةٍ مميّزة، وهي تجنبها اندماج الجمهور عاطفيًّا مع شخصياتها؛ لما للأمرِ من علاقةٍ مع البرجوازريّة.
- الموسيقى:
اكتسبت الموسيقى الحداثيّة أهميّةً بالغة في المسرحيات والعروض، منتقدةً أو مجسِّدَةً أو ساخرةً من الأوضاع الحديثة أو حتى من بعض الأساليب الفنيّة القديمة، ناهيك عن استفادتها منها وتوظيفها داخلها.
-طابعٌ شعبيّ: تتميز ما بعد الحداثة بموسيقى قد تنحو للّحنِ الشعبي، غير أنّه لحنٌ أصيلٌ يتضمّن إيقاعات راقصة حداثية مختلفة.
-التلميح الموسيقيّ الساخر: قد تكون الموسيقى في عدة أعمال مجرد سخريّة تحاكي وتقلّد أساليب موسيقية أسبق تثور عليها.
-التنوع الهدّام: للموسيقى الحداثيّة عدة أساليب موسيقيّة مثل موسيقى “أوبرا البنسات الثلاث”، التي تمّ وصفها بأنّها هدامة للدراما الموسيقية والرومانسيّة ومتميزة بالمرح والعنف في نفس الوقت مع إيقاعاتٍ خفيفة.
-المزج: يمكننا أن نجد في الموسيقى الحداثيّة -مثلها مثل الفن التشكيلي- عدة أعمال موسيقيّة أخرى، دُمِجت فيها أو استعملت أساليبها.
-اللامقاميّة: لقد قامت اللامقامية على رفض النظم المقامية المركزية، وبذلك فقد تعدَّت الأسلوبَ الهرميّ الموسيقي، والذي كان سائدًا وصارمًا، كما خلقت مجالًا مفتوحًا لخلق إيقاعات أو فتح الباب للترابط الصوتي الموسيقي بشكلٍ جديد عن التقليدي.
الموسيقى الإثنا عشريّة: وهي تعتمد على اثنتي عشرة نغمةً للسلَّم الكروماتيكي، بترتيبٍ غير متغيّر يظل وقت الموسيقى، حيث يمكن البدء من أي نغمةٍ في اللحن المعاكس أو الإرجاع العكسي.
- نماذج موسيقيّة:
يمكننا رؤية مقطوعة سترافينكسي “طقوس الربيع” التي توحي بالعنف البدائيّ العفويّ، حيث تتخلل هذه الموسيقى إيقاعاتٌ غير مألوفة تتميّز بالتنوّع، أو في عمله “بولسينيلا” الذي كان يتّسم بالبساطة والسهولة أكثر من الأعمال السابقة، أو من أعمال أخرى. كما كان يتميّز بطابعٍ من التباين الصوتي الأوركسترالي، كتوافقٍ بين آلة الترومبون والكونترباص، وألحان رقيقة، وطابع كوميدي متعلّق بشخصيات المقطوعة، أو الباليه الذي كان من ضمن العمل.
كذلك تتميّز أوبرا “البنسات الثلاث” التي هي مستوحاة من رواية البنسات الثلاث بقالبٍ شعبيّ قد يجعلنا نربطها بين موسيقى الملاهي الليلية ومختلف النغمات الراقصة الحداثيّة.
- التصوير الفوتوغرافي والأفلام:
لم يتم الحديث ضمن الكتاب عن التصوير الفوتوغرافي أو الأفلام إلا في أسطرٍ، بما فيها الحديث عن فيلم سلفادور دالي كلب أندلسي، كما تحدّث الكتابُ باختصارٍ عن فيلم تشارلي شابلن “الأزمنة الحديثة”، و“ميتروبوليس”، و“المدمرة بوتمكين”، كذلك الصور الفوتوغرافيّة عن الحروبِ التي ساعدت في التأثير على جمهور لوحة بيكاسو؛ لما تحويه كذلك من نفس الموضوع.
إنّ الثقافة الرائعة لمثل هؤلاء الكتاب من شأنِها حفظ أفكار مهمة ثقافيًا في قوالبَ تجعل فهمها سهلًا على شتّى المستويات.
كريستوفر باتلر (15)
الأدبُ الحداثيّ:
حازَ الأدبُ الحداثي -مثله مثل الفن- دورًا بالغًا في ثقافةِ الحداثة، سواءً نصوصه الأدبية الروائية أم الشعرية، وكذلك المسرحية التي يدخل عرضها في الفن كذلك بالتعاون مع الموسيقى الحداثية والتمثيل.
-الأبطال: إنّ شخصياتِ الرواية الحداثيّة ليست أبطال حركة ومواقف جسديّة ، بل أبطال مواقف شعوريّة؛ فهم يواجهون قساوة المجتمع أويواجهون شخصيات مناقضة لشخصياتهم كليًّا، حيث ترى فيها وصفًا لحالتهم.
-التنوّع والتعقيد: يتميّز الأدبُ الحداثيّ بمستوى عالٍ من سعة الاطّلاع المعرفية والثقافيّة؛ بسبب تضمّنه مواضيع مختلفة تعود بنا حتى الماضي، لكن هذا لا يعني التعقيد العبثي أو غير المفهوم والصعب، بل المتعلّق بخلفيةٍ ثقافيّة.
-المراوغة: يتضمن النصُّ الأدبي الحداثي عدة رسائل غير مباشرة وتلميحات وإيحاءات ، تحضُّ القارئ على تشغيل عقله بغية فهم قصد الكاتب، كما يجعل اللّغة -النص- مطاطة يُتحكم بها لاستخدامها واستغلالها إلى جانبِ مقصده.
-متوازيات مقارنة: يحتوي النصُّ الأدبي على عمل مقارنة بين شخصيات أو أحداث بين الماضي والحاضر، أو الكتابة عن شخصية معينة تاريخية تصب في شخصية حداثية آنية.
-التنظيم الذاتيّ: إنّ شخصيات الكثير من الأعمال الحداثيّة لا تخلق عن محض عبث، بل عن تنظيمٍ يراه الكاتب حسب كل شخصية، ويمكننا رؤية هذا التنظيم في نهاية العمل عن نجاح الشخصية في القيام بتحقيق ما تريد أو عكس ذلك.
الجرأة: تتميّز الأعمال الحداثية بجرأةٍ في طرح منظوراتها، سواءً أكانت سياسية أم جنسية أم ثقافية؛ فالعمل الحديث يعبِّر عن نزعة حداثية تصف وتنقد وتسخر من العالم.
- نماذج أدبيّة:
من أحد أهم النماذج هي رواية “يوليسيس” لجيمس جويس حيث تبدأ بإحدى الشخصيات التي تحمل دلوًا فيه رغوة صابون مقابل مرآة وشفرة حلاقة بشكل متصالب مع روب أصفر اللون غير مربوط، وتقوم الشخصية بعد ذلك بترديد عبارة “سآتي الى مذبح الرب”.
يمثل الإناء في هذا المقطع الكأس القرباني المقدس، أما الروب فهو يمثل لباس الكهنة الذهبية أو البيضاء وقت تحديدها، و عن عدم ربطها فهو طقس إثبات البتولية أين يكون لباس الكهنة مفتوحًا، أما كلماتها فهي مقتبسة من ترانيم خاصة بالقديس جيروم، توحي الرواية بعدة أشكال مفاهيمية وإيحاءات تاريخيّة.
أما النموذج الثاني فهو لمسرحية كتبها بريخت بعنوان “القرار” حيث تتحدث عن جماعة من الشيوعيّين المتخفِّين في الصين، وفي هذه الجماعة عضو يتميز بالشفقة على المضطهدين والمساكين، ما يجعل مهمتهم صعبة، غير أنّهم في الآخرِ يعترفون له أنه ينبغي عليه الموت، حيث يقبل طالبًا منهم إلقاءَه في أحد المحاجر الجيرية. تصبُّ المسرحية في موضوع سياسي واجتماعي مع أخلاقي كذلك، وقد عُرضت عدة مرات.
أو في رواية المحاكمة التي يعتقل فيها بطل الرواية، حيث يتم نحره في الآخرِ بعد عدة صراعات وجهود لمّحاولة الخروج من هذه المحاكمة على قيد الحياة، غير أنّه لم يكن هناك ثمة شيء آخر يمكن أن يفعل وأن يضطر على الرضوخ لذلك، حيث الأمر يعيد عدة تساؤلات كـ“هل كانت توجد حجج في صالحه تم التغاضي عنها، بالطبع لا بد أن يكون ذلك موجودًا”. (16)
تشير الرواية للبيروقراطية والتهميش، كما اعتُبر موت البطل تخليدًا للعار الذي تقترفه جموع الحكومات والبشر.
إنّ الأعمال الحداثيّة كافّة ترتبط بطريقةٍ ما بالبرامج السياسيّة، لدرجة أنّها كانت متفاعلة مع صراعاتٍ سياسيّة خالية في المجتمع.
كريستوفر باتلر (17)
الحداثة والسياسة :
ارتبطت السياسة مثلما ذكرنا بالحداثة، وتناولت عدة أعمال حداثيّة. فبإمكاننا العثور على الكثير من أعلام الحداثة المنضمّين لأحزابٍ أو رؤى سياسية، فقد كان من بينهم الشيوعيون الذين هم ضد البرجوازية والرأسمالية، خاصةً فنانو السريالية. ونرى أن هناك مزج بين الرؤية الماركسية مع الفرويدية في تقديم أطروحاتهم، مع اليساريين والليبراليين.
-نقد وانتقاد: لقد كان علم النفس السياسيّ والنقّاد المنقادين لأكبر الايديولوجيات يرون أنّ الفن الحداثي يمجّد الفرديّة على الواقعيّة والرؤية الجماعيّة المشتركة، فالفن الحداثيّ عليه أن يكون واقعيًّا، فهم ينبذون الواقعية وينهمكون في اقتحام أدغال اللاواقعية واللاموضوعية نحو فردانيتهم ونزعتهم الجمالية.
بالإضافة إلى أنّ وصف الحداثيّين للعالم والمجتمع هو وصف ضد المنطق والعقلانيّة، وكأنّه مجتمعٌ عبثيّ منحل يعيش في ظلام.
تميزت تلك الفترة بالولاء للقائد، ليس لأجل المجتمع، بل لأجل التوّحد معه، وهذا الأخير أكبر خطأ بالنسبة للحداثيّين، حيث أنّها تمجد الفاشية.
لقد هوجم الفن الحداثيّ على يد الأنظمة الشموليّة، وخاصة النازيّة التي دعت لفنٍّ واقعي جماعي، أو الاشتراكية التي دعت لواقعية اشتراكية، أي جعل الفن منظورًا حول رؤية جماعية وليس فردية ذاتية.
وفي سنة 1937م تم انشاء معرض يدعى “الفن المنحط” حيث جاب أنحاء ألمانيا، وكان الهدف منه بيع الأعمال الحداثية التي تم اختلاسها، كما تم حرق الكثير من الأعمال سنة 1939م.
وجّه هتلر في تلك السنوات خطابًا عنيفًا للفن الحداثي، حيث أعلن قائلًا: “باسم الشعب الألماني أريد أن أحظر هؤلاء البائسين المثيرين للشفقة الذين يعانون بشكل واضح للغاية من مرضٍ بالعيون” (18). ويذكر كذلك: “ينظرون إلى سكان أمتنا الحاليين باعتبارهم مخلوقات مختلة عفنة…إنّهم يرون المروج زرقاء، والسماوات خضراء، و الغيوم صفراء بلون الكبريت” (19).
في هذه الفترة عرُضت أعمال مناسبة للدعوة النازية تعكس رؤية هتلر العنصرية حول تمجيد العرق الآري والمجتمع الألماني والجيش في عدة لوحات اعتبرت من أسوأ الأعمال الفنيّة.
- نماذج فنيّة سياسيّة:
أول نموذج هو لوحة “الربات الثلاثة” ليورجين فيجنر، حيث يتضمن العمل ربات الأمومة مع مجموعة من الأطفال مع العلم النازي، وثلاثة شبّانٍ عراة. ونستطيع العثور على لوحة “الرؤية النازية” للعظمة لريتشارد سبيتز، وهي عملٌ عن ساحة حرب بها عدد من الجنود يتطلعون إلى الشمس، وفي السماء أرواح لجنود استشهدوا في المعركة يصعدون فوق إلى إحدى القلاع كما نرى فيها صليب النازية.
كذلك لوحة لهيرمان اوتو، تمجد هتلر، حيث تصوره في خطبة له في قاعة يسودها الظلام مع وجوه مستمعيه التي تضيء، وقد تم عنونة الصورة بافتتاحية يوحنا: في البدء كانت الكلمة.
خاتمة:
ما من شك أنّ الفن بكل أنواعه والأعمال الأدبيّة كما أبرَزَها كريستوفر باتلر في كتابه كانا يحركان المبادئ الحداثية في عدة اتجاهات، ينشِّطانها ويحضّان أفرادها على المضي قدمًا لطرح أفكارهم ورؤاهم عبرها، ناهيك عن قلب آخر، وهو تأثر الفن والأدب بتلك الفترة الحديثة في كافة أوضاعها سواء السياسية أم الاجتماعية، ما جعلها تنتهج ذلك النهج فتتأثر وتؤثِّر.
وعلى الرغم من الهجوم الشديد على الحركات الحداثيّة من قِبَل كبرى الأيديولوجيات، إلا أنّها لم تستطع إحباطها، وواصلت المسير نحو مجتمع حداثيّ حر.
صفحات الاقتباس من المصدر: 1 - الحداثة مقدمة قصيرة جدًا، هنداوي، كريستوفر باتلر، ص 101. 2 - نفس المصدر السابق ، ص:14 3 - نفس المصدر السابق ص:45 4 - نفس المصدر السابق ص:84 5 - نفس المصدر السابق ص:50 6 - نفس المصدر السابق ص:80 7 - نفس المصدر السابق ص؛78 8 - نفس المصدر السابق ص:72 9 - نفس المصدر السابق ص:73 10 -نفس المصدر السابق ص:73 11 - نفس المصدر السابق ص:66 12 - نفس المصدر السابق ص:31 ، 32 13 - نفس المصدر السابق ص:53 14 - نفس المصدر السابق ص:45 15 - نفس المصدر السابق ص:46 16 - نفس المصدر السابق ص:65 17 - نفس المصدر السابق ص:96 18 - نفس المصدر السابق ص:88 ، 89 19 - نفس المصدر السابق ص:88