كاليستو: الدبة الخرساء
يقول تشيخوف، أنه إذا ظهر مُسدس في قصة ما، فسيكون من الضروري في النهاية أن يُطلق النار. صحوتُ فجرًا لأجد مسدسًا مسجى على المكتب الصغير المُجاور لسريري، يبدو أن القدر قد نصّبني قاتلًا اليوم.
لم ينتبني هلعٌ، فالواقع أننا هنا، جميعنا أدوات في أيدي القدر، أو الله، أيًا كان ما تسميه.
أمسكت بالمسدس، جعلت أقلبه بين أصابعي، سحبت أجزاءه، ثم انتظرت أن يُملي عليّ القدر خطوتي التالية.
لم أنتظر طويلًا، أحسست بضوضاءٍ رهيبةٍ في مؤخرة رأسي، بين عظام جُمجمتي، أحسستها تتقلص وتتفصّد. داهمني ألمٌ لم أشعر به من قبل، تشويش، وزعْق، وصيحات بربرية. السكون عارم في الخارج، كان رأسي مبعث الضوضاء.***
صمت كل شيءٍ فجأة، حسبت الألم قد انتهى، بيد أنني تذكرت أن حياتي لم تنتهِ بعد، فتيقنت أن العاصفة تتأهب لا غير.
انبثق صوتٌ من مؤخرة رأسي، قال:
“حسنًا، ها نحن ذا يا صديق، اغتيال آخر.”
وجدتني أوجه فوهة المُسدس باتجاه السماء الشاسعة الممتدة خلف النافذة:
“طالما تساءلت، أيمكن لإحدى شخصيات قصصي أن تقتلني يومًا؟ أعني، أنا أعذبهم حرفيًا، أشرد نسائهم، وأيتم أطفالهم، وأذيقهم من ألوان الجحيم ما لا يقوى على احتماله بشر، بيد أنني دائمًا ما أجدهم طيّعين، ودودين، لم يسخطوا عليّ يومًا، ولم يرغ مني أحدهم إن أنا احتجته لأكمل حبكة قصة، أو لأصوغ نهاية أخرى. ماذا عنك يا الله؟ أتحبنا طيّعين كما أحب أنا أبطالي؟”
أحسست بأخي الكبير يتقلب في فراشه بجواري، فصمت الصوت لبرهة، ثم أكمل:
“أيمكن لأحدنا أن يقتلك يومًا؟ لا أظن، أعني، أنا جبّار جدًا، وقاسٍ جدًا مع أبطالي، أظن أنني سأقتل بطل هذه القصة في النهاية أصلًا، بيد أنه عاجز تمامًا، فهو، وكما تعلم، مُجرد بطلٍ على ورق، ليس له وجود حقيقي، وجوده ميتافيزقي محض، أما أنا فلي كيّانٌ مستقلٌ مريد، هل أنا مُستقلٌ فعلًا؟ هل أنا مريد حقًا؟ أم أنني، بالنسبة إليك، مُجرد بطلٍ على ورق. وجوده ميتافيزقي محض؟”
أحسست برجفةٍ مهيبةٍ تسري في عضدي، بينما كان المسدس لا يزال مصوبًا باتجاه السماء:
“إذن، يُخبرني المنطق أنه ليس بوسعي أن أشق رأسك برصاصة الآن، سيكون الأمر مضيعةً للرصاص، ستهيم الرصاصة بين السماوات تبحث عنك، ولن تجدك في النهاية، ومن ثمّ ستخرّ خاسئةً على الأرض، تمامًا كمصير جميع مناجاتي إليك.”
ودون أي رغبة مني، أجدني أفغر فمي، ومن ثمّ ابتلع فوهة المسدس، وأثبت إصبعي على الزناد:
“تُحبنا طيّعين إذن؟ حسنًا، إذا قتلت بطلك الآن، هل سيعدّ الأمر تمزيقًا للحبكة أم إكمالًا للنهاية؟ أعني، فكّر فيها يا رجل، نحن هنا جميعًا بيادق على لوحتك، تحركنا كيف تشاء، فإن أنا قتلته الآن، لن أكون قد أنجزت شيئًا يُذكر، فقط سأكون كما أحببت أنت دومًا. سأكون طيّعًا ودودًا. يُنفذ الأوامر قسرًا ويتوهم أنه يختارها طوعًا.”
أحس بالعرق الغزير يفيض على وجنتي، وتزداد رجفة يدي:
“وبما أنه ليس بمقدوري أن أخرج عن النص في كل الأحوال، فعلّني أفضّل العيش بضع سنوات أخرى، ليس لدي سببٌ واضح، سوى أن قصتك حبكتها ممتازةٌ ومأساويةٌ من الدرجة الأولى، ويروقني هذا النوع من القصص في الحقيقة.”
تقتحم أمي الغرفة فجأة، بينما لا يزال المُسدس يسد فمي، ترمقنا -أي أنا وأخي- بنظرة مطوّلةٍ لا أتبين فحواها من الظلام، لا تلحظ المسدس، أخالها لم تلحظني أصلًا.
أوجه المسدس باتجاه رأسها مباشرةً، يضحك الصوت ضحكةً ساخرة، يتناهى إلى سمعي زقزقة مط شفتيه:
“جاءت كاتبتنا المرموقة! تلك التي تخط مصيري، وتضعني حيث شاءت. تلك التي اختار رحمها أن يلفظني، ومن ثمّ اختار قلبها أن يُشكل روحي، وأخيرًا، اختار حلمها أن يكبّلني. أن ينوء بظهري ويبدد غضاضة أحلامي.”
تقترب بخطاها نحوي، حتى تتوسط فوهة المسدس جبينها، يتشنج إصبعي على الزناد، أحاول عبثًا أن أسحب يدي، أن أصوب المسدس في أي جهةٍ أخرى، لكن بلا جدوى.
“دعني أوضح لكِ الأمر. أنت فاشلةٌ جدًا في أمور التربية هذه، أعني أنتِ طباخةٌ ماهرة، وربة منزلٍ متمرسة. أمّا أمور التربية تلك فليست من اختصاصك على الإطلاق. فكري في الأمر، جئتِ إلى هذه الحياة قسرًا، حُرمتِ من الحنان، فكيف لكِ أن تُعطيه؟ ففي النهاية، فاقد الشيء يُقدر قيمته، بيد أنه يعجز تمامًا عن أن يهبه. هل أحببتني فعلًا؟ أم أن أمر الأبناء برمته يُشبع غريزتك في التملك؟ أم أنك فقط تواصلين الحلقة المُختلة التي وُلدتِ فوجدتي نفسك جزءًا منها؟ انظري إلى نفسك، أمٌ هوايتها التقريع، وزوجٌ ضالته الإهانة، كيف حسبتِ نتاجك من الأطفال بعد سنين العذاب تلك؟ ملائكة مثلًا؟”
تمدّ أمي يدها فتتحسس جبهتي، يتبرعم على محياها قلقٌ ما، تشد الغطاء على جسدي جيدًا، ومن ثمّ، ودون أن تلحظ وجود المسدس المثبت في جبينها، تأخذ بيدي الشاغرة وتقبلها.
“لكن لا، لا أظن أن باستطاعتي فعلها، أتدرين ما الذي يقضّ مضجعي كل يوم؟ أنني أحبك، أكثر من أي شيء. بيد أنني لا أجد أحبكِ ما يبعث على الحب. لا أجد فيكِ ما يستدعي شيئًا سوى الشفقة. أفترض أن ذلك مفهوم العرب عن الأم وابنها أصلًا، عطاءٌ جاف، لكنه عطاء، وحب أجوف بلا أسباب، لكنه حب.”
تخرج أمي من الغرفة، فأرخي يدي حاملةً المسدس إلى جانبي، ومن ثمّ أجدني التفت صوب أخي الممتد على السرير بجواري، تفرّ دمعة من عيني، أحاول تحريك لساني لأرجوه ألّا يفعلها، لكن لساني ما يلبث أن يخذلني، وألفُ نفسي أصوب المسدس باتجاهه:
“رفيق المأساة العزيز، لقد هُزمنا يا صديقي، هُزمنا قبل أن نرفع سلاحًا أو نستل سيفًا، وكأنه ليس من حق المستضعفين المُقاومة. أنت بالذات، أجد في نفسي مئات الأسباب لقتلك. ليس كُرهًا، أنت أنا، ليس في الأمر مجاز، أنت أنا بالمعنى الحرفي. هواياتنا، انكساراتنا، ذلك الاتصال العاطفي الرهيب بيننا. يُحزنني رؤيتك هكذا. صدقني، سأعتبر الأمر نوعًا من القتل الرحيم، ومن ثمّ سأدعي الله أن يبعث إليّ بمُخلص مثلي.”
أشد بإصبعي على الزناد. تنهمر الدموع على وجنتيّ بغزارة، أحس بأنفاسي المتهدجة تُلهب روحي، يكمل الصوت:
“أخبرتني ذات يوم، أن أشد آلام المرء حدّة، هي تلك الناجمة عن العجز. أتعلم ماذا تفعل أكثر الآلام حدة بالمرء يا عزيزي؟ لا تقتله، بل تدفعه إلى الجنون.”
أحس صدري يعلو ويهبط كموج في ليلة اكتمال القمر، وملوحة دموعي تُذيب جلد وجهي، يُكمل:
“أخبرتني أيضًا، أن الشيء الأصعب في الحياة هو أن تخوض سنين مراهقتك في موضعٍ يتوجب عليك فيه توفير الرعاية لآبائك، أن تحتوي انفجاراتهم، وتستوعب الحزن الذي يعتمل في صدورهم، وتستغرق في التربيت على قلبَيْ أبويك. فلا يتسنى لك أن تجد من يربت على كتفك، ولا تنال من أبويك القسط الكافي من التحنان، فتنشأ جافًا، وحيدًا، بقلبٍ ثقيل لم يرى عطفًا، وحياة قاحلة لم ترَ نبتًا.”
أرتجف بشدة، أحس جسمي باردًا كقطعة ثلج، وتتشوش رؤيتي رويدًا:
“لكن لا، لست أنت من يريدني القدر أن أقتله، ستزداد مأساوية القصة إلى حدٍ لن أستطيع احتماله. لا، أريد فعلًا أن أخلّصك من العذاب. لكن، في الآن ذاته، لا أريد أن أزيد العذاب على نفسي.”
ترتخي يدي فجأة، فيسقط المسدس منها، ويصمت الصوت كأنه لم يكن، أبحث في غددي الدمعية عن أي شيء لأذرفه، لكني لا أجد شيئًا، فأستمني وأنام.
أفتح عينيّ فأجد نفسي في غابة كثيفة أشجارها، يتسلل شعاع الشمس من بين أوراق الأشجار على هيئة سهامٍ تقتحم جسد الظلام، أحس برطوبة العشب الأخضر تحت قدميّ، أنظر إليهما فأجدهما قد استحالا إلى مخالب طائرٍ، يُخبرني الحلم أنني فينيق، بيد أنني أرمق جناحيّ يحترقان فيؤولان إلى رماد دون أن يبعثا شيئًا.
أمد بصري فيتراءى لي فرسٌ فتيّ، عضلاته كالفولاذ يكسوها شعرٌ بُنيٌّ لامع. يُمكنني أن أتبين من ألقه كم هو حريري وناعم، وقضيبه ممشوقٌ كرمح، ورغم كل ذلك، أجده يمشي رويدًا، يزجّ على قدميه. أدقق النظر فأجد ظهره ينوء بحملٍ ما، يبدو أن ذلك الحمل ذو ثقل فعلًا، أحاول جاهدًا أن أتبين ماهيته بيد أنني لا أستطيع.
أتحرك باتجاه الفرس، فأجدني عاجزًا عن الحركة، وأحس بفقرات ظهري تتفصّد، أنظر ورائي فأجد دبةً عظيمٌ ثقلها، شعرها بُنيٌ هو الآخر لكنه باهت، يمتد جسدها من ظهري حتى ظهر الفرس، تجثم بنصفها السُفلي على ظهري، وتغرز قوائمها الخلفية في ريشي، بينما تُلقي برأسها والنصف الأمامي من جسدها على ظهر الفرس. أنعق بشدة من الألم، وأحاول أن أجثو، بيد أن الطيور لا تستطيع أن تجثو، فوجدتني، عاجزًا حتى عن الانهيار.
طفق جسد الفرس يهزل، راقبت عضلاته تتضاءل حتى وشّى جلده بأضلعه، مضى يصرخ ويحاول الفرار، بيد أن الدبة كانت تضمه بين يديها، تعتصره بلا هوادة.
مضى يتقافز ويتشنج، وفجأة، سقطت الدبة من فوق ظهره، فأحسست بفقراتي وهي تتهشم، إذ تحمّلت أنا العبء برمته، وما إن سقطت رأس الدبة على الأرض، حتى مضى جسدها في الانكماش، وبينما هي تنكمش، ثبتت مخالب أطرافها الخلفية في ريشي حتى مزقته، وأخذت تستعر وتنوح.
تقدمت بأنيابها نحو الفرس الهزيل الذي خارت قواه فسقط على الأرض، مُقتلعةً ما تبقى من ريشي معها، يُخبرني الحلم أنها تداعب الفرس وترعاه. أستطيع إحساس الدفء الجامح في داخلها يتسلل إلى صدري، بيد أن ما أراه فعلًا، أنها تُمزق وجهه بمخالبها.
غرزت أنيابها في جسده، بينما يُخبرني الحُلم أنها ترعاه، أستطيع احساس الدفء الجامح في داخلها، اقتلعت قلبه من بين أضلعه، بينما يُخبرني الحلم أنها ترعاه. أحسست نبضات قلبي تتسارع، ومضيت آخذ أنفاسي بصعوبة، حاولت تحريك ما تبقى من جناحي، بيد أنهما كانا قد احترقا كليًا، أحسست ألسنة النيران تتسلل إلى عنقي، تلتهم حُنجرتي وأحشائي. ألفيت في يدي قوسًا وسهمًا، انبثقا من اللاشيء، صوبت السهم باتجاه الدبة، لكن زيوس لم يجعلها تنطق هذه المرة.
أفقت مفزوعًا، غارقًا في العرق حد أنني لا استطيع التقاط أنفاسي، وجهّت بصري نحو المسدس المُلقى على الأرض، التقطته، وثبته في منتصف جبهتي، أغمض عينيّ، وفجأة، ينبثق الصوت:
“يا أستاذ تشيخوف، كيف نقتل آلامنا برأيك؟ يقول كونديرا، نقتلها بالنسيان، وتقول مستغانمي، نقتلها بالكتابة، ولمّا نصير عاجزين عن كليهما، يا أستاذ تشيخوف، ماذا برأيك قد يحدث؟ دعني أخبرك : تقتلنا هيّ.”
أخذت نفسًا عميقًا، وتأهبت للضغط على الزناد، صاح الصوت:
“لحظة لحظة، لا أظن أنني أمتلك الشجاعة الكافية لفعلها، فأحيانًا، يا أستاذ تشيخوف، يظهر مُسدسٌ في قصةٍ ما، بيد أنه لا يُطلق النار. أحيانًا، نمتلك الكثير من الآلام، والكثير من الرصاص أيضًا، بيد أن المُسدس يظلّ أكثر عجزًا وجُبنًا من أن يقذف شيئًا.”
ألقيت بالمسدس على الأرض، ومضيت أحدق في السماء الشاسعة برجاء.