كابوس المفكر التنويري!
نظرة مقدِّم برنامج التوك شو، في اللحظة التي تراجع فيها بمقعده، ووضع يده على كتابه الجديد كما لو كان كتابًا مقدَّسًا، وقال بنبرته المتغطرسة المعهودة: “صلاح الدين أحقر إنسان في تاريخ البشرية” – هذه النظرة المذهولة كان لها نفس مفعول الويسكي الفاخر الذي اعتاد أن يستعين به على النوم في الأيام التي يستشرف فيها اقترابَ الأرق.
استلقى المفكر التنويري في فراشه، بجسده الهائل، فتراجع كرشه المتكوِّر، وضغط على الكتل الدهنية المتمركزة على حافتي صدره، في شِبه نهدين مكتملين، فأحسَّ بالاسترخاء، وهذه الوسائد الدهنية تُمَسِّد أضلاعه. وأخذ يستعيد نظرة مقدِّم البرنامج، ويؤطِّرها في خياله بكل النظرات المشابهة التي جمعها خلال مسيرته التنويرية الطويلة. كم يعشق أن يرى في العيونِ الاندهاشَ ممتزجًا به الخوف! لا فرقَ بين عبارته التي ألقاها الليلة في اللقاء التليفزيوني، وما اعتاد أن يفعله قبل سنوات في مكتبه الفخم مع السكرتيرات الحسناوات والمتدرِّبات، حين يفاجئهن بـ… بما دون الستر، فترتسم على أعينهن نفس النظرة.
بلغ ذروة الانتشاء، فأصدر تنهُّدةً تشبه الخوار، بسبب جيوبه الأنفية دائمة الانسداد، بل وأحسَّ أن شيئًا ما لم يتحرَّك منذ أسابيع، تحرَّك، ولكن بفتورٍ بالطبع، كما يرفع الفرخُ ابنُ يومينِ رأسَه إلى أبويه ثم يُدركه الضَّعف، وَفقَ قول الشاعر القدير راشد بن إسحاق.
عاد يتذكَّر النظرة الساحرة، ويردِّد في ذهنه قوله الناري الصادم: “صلاح الدين حقير… صلاح الدين حقير… صلاح الدين حقير… صلاح الدين حقير”؛ وما لبث أن تخيَّل نفسه ممسكًا سيفًا بتَّارًا من سيوف الهند، ويرفعه، بقدر ما تسمح له ذراعاه السمينتان الثقيلتان، ويَهوِي به على عنق (صلاح الدين الأيوبي)، وهو مقيَّدٌ أمامه، مرتديًا قميصًا متَّسخًا بالقيء والدماء. وقبل أن يقطع السيف شطر المسافة، سقط المفكر التنويري في دوامةِ كابوسٍ شنيع!
* * *
“لقد ألفى أحد مماليكي هذا العبدَ الخَصيَّ قرب الجامع الأزهر، فأحضره إليَّ من فوره. كان العبدُ يرتدي ثيابًا عجيبة النسج والتطريز، لم أبصر لها شبيهًا قطُّ، ووجدت معه كتابًا حَسَنَ التجليد منضودَ الحروف، عنوانه: (حقيقة صلاح الدين الأيوبي)، فأكبرتُ هذا الأمرَ، ولم أمهله أن يقول شيئًا يدفع به عن نفسه الريب، وأمسكت به دون مشقةٍ كما لو كان فَرُّوجةً، وأحضرته إلى مولانا الأمير، عسى أن يكون له رأيٌ بشأنه، وهو الأعلم بكل عجيب”.
نظر حاجب الأمير (بهاء الدين) إلى مقدَّم العسكر مليًّا، وقال له بتبسُّط، وقد كانت بينهما دعابة:
“من يشوفك يحسبك والله خليفة المسلمين من كلامك المزوَّق يا سيد الناس. كَنَّكْ من مُضَر، لا من بلاد الروسيا مثل مولانا”.
هزَّ المقدَّم رأسه وقال للحاجب:
“لا علينا من هذا الإسهاب الآن. لقد حلَّ الظلام، واقترب موعد المنادمة اليومي لمولانا، ولا أريد أن أعكر صفوه. هيا أخبره سريعًا بما أعلمتك به، لأعرض عليه هذا الخَصِيَّ فيقضي في أمره”.
حدج الحاجبُ الرجلَ المقبوضَ عليه في استخفاف، وقال:
“شوف جلده الأكدر! ما احسب مولانا راح يخلِّيه”.
ومستطردًا وهو يطرق الباب:
“مَلِّيني لحتَّى استأذن لك مولانا (بهاء الدين)”.
وما مضت دقائق إلا والمقدَّم واقف بإزاء الأمير (بهاء الدين قراقوش)، الذي نمَّ احمرار خدَّيه (الخاليين من الشَّعر)، على محتوى الكأس الفضية التي بيمناه!
هتف الأمير بصوته الحاد المبحوح:
“اشتو في خاتيتي سيتشاس؟”.
ثم انتبه إلى أن السُّكْرَ قد منعه من التحدُّث بالعربية، مثلما يقضي البروتوكول، مستغلًّا أن مقدَّم العسكر روسيٌّ مثله، فهزَّ رأسه لينفضَ عن نفسه حنينَه إلى لغته الأم، وأردف:
“إيش تريد الساعة؟!”.
فقصَّ عليه المقدَّم ما رآه، وما إن وصل في سرده إلى الكتاب الذي يحمل عنوان (حقيقة صلاح الدين)، تململ في عرشه، وأشار للمقدَّم بأن يقترب.
كانت هذه هي اللحظة التي بدأت فيها (وجهات النظر) تتَّضح للمفكر التنويري داخل كابوسه. كان يرى الموقف من بدايته، من الأعلى، وكأنه غيرُ مشاركٍ فيه، ثم اتضح له بَغتة، وهو ينظر إلى ظهر المقدَّم إذ يمد يده بالكتاب، ووجه الأمير (بهاء الدين) صقلبي الملامح، وهو يتسلَّمه بيده – اتَّضح له أنه هو العبدُ الخَصِيُّ، وأنه رُدَّ إلى عهد (صلاح الدين الأيوبي)!
تصفَّح الأمير (بهاء الدين) الكتابَ مشدوهًا. كان المفكر التنويري يعلم جيدًا – رغم أنه لم يؤلِّف كتابًا بهذا العنوان – أن أول صفحة تحمل هذا العنوان المثير: “لماذا كان صلاح الدين الأيوبي أحقر شخصيات التاريخ؟“؛ ولعلَّ هذا من ألاعيب الأحلام، التي يتداخل فيها الواقع بالوهم بالرُّؤَى باحتداد البصيرة! وعلم أيضًا أن في تالي الصفحات قَدْحًا شديدًا في (بهاء الدين قراقوش) نفسه. ولهذا لم يتعجَّب من رد فعل الأمير حين ألقى الكتابَ بَغتةً، ونهض غاضبًا من عرشه، وأخذ يدوس الكتاب ويركل صفحاته، حتى تمزق الغلاف وتبعثرت الأوراق، وسدَّد إلى وجه المفكر التنويري نظرةً عدوانيةً لزجة، تنمُّ على أن صاحبها أبصر الموتَ آلاف المرات، ولا يخشى أن يبصره مرةً أخرى قبل موعد حفل منادمته اليومي!
صاح الأمير (بهاء الدين):
“بدَّك تتجرَّأ على مولاك وسيدك صلاح الدين؟ ما أحسبك غير داعية من دعاة العبيديين الروافض الأنجاس. والله لتشوف مصير بلون وجهك العكر يابن الرافضي”.
وحينئذٍ هوى المفكر التنويري على ركبتيه مرتعدًا، وتسرَّبت الدموعُ من عينيه دون إرادته، وقال بصوتٍ متهدِّج:
“أقسم لك بربي إني لست مؤلِّف هذا الكتاب. أنا… أنا والله لا أحسن القراءة ولا الكتابة أصلًا. لقد سرقت هذا الكتاب من متاع رجل مغربي لكي أبيعه في سوق الورَّاقين، وأحصل بثمنه على سمكة مقليَّة من سوق الأزهر”.
فانفجر الأمير (بهاء الدين) ضاحكًا، مصدرًا صوتًا عجيبًا يشبه صوت الفقمة، جعل المقدَّم يكبح الضحك بعضلات خديه، ولا سيَّما أن أصوات الخصيان ممَّا يثير التندُّر في أوساط الناس، كما أنه توقَّع أن الأمير يقصد بضحكِهِ الاستهزاءَ بهذا الخصي؛ ولهذا أحكم إغلاق شفتيه خوفًا من مشاركته الضحك، فيثير حفيظته.
“سمكة! مثلك لو بلع حوت يتوه في كرشه يا كَشخان. كيف تكفيك سمكة يا طواشي الشوم؟”.
ومشيرًا إلى المقدَّم:
“ارميه في خزانة شمايل، واعمل معه الواجب”.
تقاطرت دموع جديدة على خدَّي المفكر التنويري، وقال متضرِّعًا:
“أدام الله فضلك يا مولانا، وأعزَّ قدرك. أنا مظلوم والله؛ فهذا الكتاب لا يخصني، كما أنني لستُ طواشيًا”.
ثم نهض بصعوبةٍ، فطقطقت ركبتاه من وطأة وزنه، وحلَّ حزام بنطاله، وكشف عن سوأته، والمقدَّم ينظر إليه ذاهلًا، وما لَبِثَ المفكر التنويري أن اقترب من الأمير (بهاء الدين)، حاملًا في كلٍّ من كفيه دليلَيْ براءته، واندهش هو نفسه من أن يبلغ الدليلان من الضخامةِ أن يملآ كفيه كثمرتَيْ (كنتالوب)! لكنه تجاهل دهشته، وابتسم في ثقةٍ كما لو كان حقق نصرًا مبينًا!
أغرب الأمير في الضحك، وهو يشير بسبَّابته إلى موضع عورة المفكر التنويري، وهو يردِّد:
“صرَّتان من الدنانير… صرَّتان من الدنانير”.
وفَشِلَ المقدَّم هذه المرَّة في أن يلجم شفتيه، فافترَّتا عن ابتسامةٍ تتراوح معانيها بين السخرية والاستخفاف والاستمتاع بالموقف الهزلي. وحين هدأت ضحكات الأمير قليلًا، رفع المفكر التنويري بنطاله، وزمَّ حزامَه، وتراجع إلى موضعه السابق. وقال الأمير وهو يعود إلى العرش:
“لا ضرر من هذا الهُزُؤ. قد عيَّنته مهرج لنا، ولا بأس أن يشوف أكل عيشه في الموالد”.
فهوى المفكِّر التنويري مجدَّدًا على ركبتيه، وقبَّل البلاط مثنى وثلاث، وقال:
“أنا كلبك يا مولانا. أنا كلبك. واسمح لي أن أكون بوقًا من أبواقك، بل ومناديًا في شوارع القاهرة، أدافع عن سياساتك الاقتصادية الحكيمة، والطُّرُق التي ذلَّلْتها بين أقاليم مصر، والجسور التي مددتها، والمباني الشامخة التي شيَّدتها بحجارة الفراعنة الكفرة قبَّحهم الله، وأحكامك العادلة في رعيَّتك. مُرني أنقل للناس أخبار انتصارات مولانا (صلاح الدين الأيوبي) – أعظم إنسان في تاريخ البشرية – في حروبه على أهل الكفر، وقتله لأئمة الباطل، من أمثال السُّهرَوَردي المُلحِد، وإبادته للروافض لعنهم الله. أنا كلبك يا مولانا، وأنا حيث توجِّهني”.
هزَّ الأمير (بهاء الدين قراقوش) رأسه مستحسنًا وقال:
“ما شاء الله! قرنان من ضهر قرنان”.
وقهقه عاليًا، فشاركه المقدَّم الضحك هذه المرة، وقد علم أنْ لا خطر من الضحك مع الأمير من أفعال المهرِّج. وقال الأمير ماسحًا على خده في إشارةٍ ذات مغزى:
“إيش اسمك يا دا الخصي اللي ما هو بخصي؟”.
فشبك المفكر التنويري أصابعه أمام كرشه في أدب، وقال:
“وهل يُولَد الإنسانُ باسمٍ يا مولانا؟! لقد وُلِدتُ اليوم على يديك يا سيد الناس، فتخيَّر لي ما شئتَ من الأسماء”.
ضحك الأمير (بهاء الدين)، وقال وهو يضرب كفًّا بكف:
“ولدتَ على يدي! المهرج القرنان صيَّرني قابلة في غمضة عين!”.
ومستطردًا:
“لا بأس. اسمك الذي اخترته لك يا قرنان هو: (ذو القرنين). وبدايةً من بكرة راح تبقى لسان مولانا الملك الناصر أبي المظفر (صلاح الدين الأيوبي) عند العوام، تتحدث عن غزواته، وتجمِّل لآذانهم كل شيء نعمله في البلاد، حتى ولو أجبرناهم على الشرب من الكُنُف وأكل البرسيم طول السنة. فاهمني يا… يا ذا القرنين”.
فأومأ المفكر التنويري بحماس، وهو يردد:
– كلبك… كلبك… كلبك يا مولانا… كلبك.
“صلاح الدين أحقر إنسان في تاريخ البشرية”
“صلاح الدين أحقر إنسان في تاريخ البشرية”
عادت العبارة، التي أذهل بها المفكر التنويري مقدِّمَ برنامج التوك شو في تلك الليلة، تتردَّد في عقله، فأخذ يهزُّ رأسه كالمجنون، وقد أُلقِيَ في رُوعِه أن هذه العبارة لن تقتصر على أن تتردَّد خفيَّةً في طَوِيَّته، وأنها لن تلبث أن تتحوَّل إلى صوتٍ مسموعٍ داخل القاعة. وحدث فعلًا ما كان يخشاه. بدأت العبارة تتردَّد بصوتٍ يشبه الهمس، قادمٍ من جهة المشكاة الضخمة التي تتدلَّى من السقف، ثم أخذ الصوت يتعالى، حتى انتبه إليه كلٌّ من الأمير (بهاء الدين قراقوش) ومقدَّم العسكر، فقطَّب الأمير، وقال مندهشًا:
“إيش هذا الصوت؟! صلاح الدين… أحقر!”.
واستطرد ناظرًا إلى المفكر التنويري:
“هذا صوتك… هذا صوتك”.
فأخذ يهزُّ رأسه نافيًا، ويقول (والصوت يتعالى مع كل كلمة):
“هذا والله [صلاح الدين] يا مولانا [أحقر] الأمير [إنسان] حيلة من [في تاريخ] أعداء [البشرية] مولانا”.
“صلاح الدين أحقر إنسان في تاريخ البشرية”
“مش حقير”
“صلاح الدين أحقر إنسان في تاريخ البشرية”
“مش حقير”
نهض الأمير ببطء، وقال للمقدَّم:
“باين أنه ما هو مهرِّج والسلام. هذا ساحر. ساحر خبيث. لا حاجة لنا به. اقطع راسه”.
“اقطع راسه”
“مش حقير”
“اقطع راسه”
“مش حقير”
“اقطع راسه”
“مش حقير”
“اقطع راسه”
السيف البتَّار يرتفع إلى أقصى امتدادٍ تصل إليه ذراعا مقدَّم العسكر المفتولتان، والمفكِّر التنويري يحاول أن يصرخ، ولكن لا يستطيع. وهوى المقدَّم بالسيف بقوَّة، ولكن قبل أن يتجاوز منتصف المسافة، استيقظ المفكر التنويري فَزِعًا، وأخذ يلهث بصوت مرتفع، وقلبه ينتفض بين ضلوعه، واعتمد على ذراعه اليسرى ليتمكَّن من النهوض من رقدته، فأحسَّ بوخزة في جنبه الأيمن، ولكنه تحمَّلها، وأخذ يهز رأسه لأعلى وأسفل وهو يردِّد كالمجنون:
“مش حقير”
“مش حقير”
“مش حقير”
و…
انتبه إلى أن الكابوس انتهى، فأخذ يتأمَّل ظلامَ الغرفة، الذي يتسلَّل إليه على استحياءٍ ضوءُ مصباحِ طرقةٍ بعيدةٍ في شقته مترامية الأطراف، وابتلع ريقه بصعوبة وهو يحاول أن يقنع نفسه بأن كل ما كان فيه قد انتهى. اطمأن بأصابعه السميكة على أن رأسه الضخم لا يزال متَّصلًا برقبته السمينة، فحمد الله، ثم حمد نفسه، التي يقدِّسها ويؤلِّهها! وبعد أن هدأ صوت أنفاسه، وأصبح قادرًا على تقييم ما رآه في الكابوس بموضوعية، فطن للحقيقة التي أعماه عنها سُكرُه بنظرات الذهول التي ترتسم على عيون من يتجرَّأ أمامهم على أيٍّ من الأسماء التاريخية اللامعة. هو لا يسبُّ أولئك القادة والحكَّام القدماء إلا لأنهم، بكل بساطة، ماتوا! ولو كان معاصرًا لأحدٍ منهم، لالتزم الصمت؛ لأنه، بطبعه… جبان!
وابتسم في مرارةٍ وهو يتذكَّر أنه معاصرٌ بالفعل لحاكمٍ من طراز أولئك القادة والحكَّام الذين يرميهم بالحقارة والدناءة، ولا يستطيع هو ولا غيره أن يتجرَّأ عليه، رغم أنه فاق بأفعالِه قرناءَه، وذلك خوفًا من عذابه الغليظ!
نهض المفكر التنويري من الفراش. اغتسل في الحمام، ثم أفطر، وأمسك موبايله، وكتب هذا البوست على صفحته الشخصية بالفيس بوك:
“رأيتُ في المنام أنني (ذو القرنين)”.
وأخذ يتابع في غرورٍ تزايد أعداد اللايكات والقلوب الحمراء، والكومنتات التي تنتهي دائمًا، أو تبدأ، بكلمة: “مولانا”!