قوانين الماعت: ليصبح كما فوق.. كما تحت
عند تساؤلي للمرة الأولى عن أصل الأخلاق، وكيفية تكوين الإنسان لضميره، لم يكن علي سوى الرجوع للجذور؛ لأول مجتمع حضاري وأول أمة استقرت على ضفاف النيل.
عند تصفحي لكتاب “الخروج للنهار” وجدت “الماعت” وهي أكثر ما لفت نظري أنها علم نشأة الكون المصري وجوهر التوازن والتناغم التي أخرجت الكون من الفوضى والظلام، إنها مياة الأزل وقاع الوجود، نشأت قبل الخلق ومازالت تقيمه وتحفظه من السقوط.
إن المصري القديم لم يكن ساذجًا في تصوره عن الكون والحياة كما ادّعى البعض، ولم يصنع آلهة وثنية جوفاء بالمعنى الجاهلي الذي يتم الحديث عنه اليوم، وإنما الفكر المصري القديم يحمل فلسفة قوية وعظيمة، فالمصري قد تأمل القوانين الكونية التي تحكم العالم أو بمعنى أدق، تأمل قوانين الطبيعة واتخذ منها المثل الأعلى الذي لابد من تطبيقه على الأرض ليصبح كما يقول تحوت: كما فوق .. كما تحت.
وكما للكون قوانين تحكمه، فاللإنسان أيضًا قوانين تحكم سلوكه على الأرض وتمنعه من الفوضى والسقوط، ولذلك اكتملت القوانين الأخلاقية الثابتة وتجلت في مبادئ الماعت، وعددها ٤٢ مبدأ مكتوبًا بصيغة النفي على لسان الموتى.
ولكن لماذا النفي وليس الأمر؟ ولماذا الموتى؟
إن المصري القديم لم يكن بدائيًا في وعيه كي يجعل من الأخلاق أوامر يستتبعها تهديد ووعيد، فحتى في أرقى القوانين الأخلاقية قد خُلق الانسان مخيرًا تمامًا بين خيره وشره أو بين يقظة ضميره بالماعت والتفريط فيها أو اتباع حياة الفوضى والسقوط.
وهذا يوضح أن المصري كان على علم بمدى هشاشة الأخلاق القائمة على غريزة الخوف من العقاب وكيف أنها تحط من قدر الإنسان فتجعل الفضيلة فارغه وغير صادقة أشبه بأخلاق العبيد. كما أن المصري يعتبر ذو فلسفة متفائلة عن الانسان، فالضمير (الماعت) لدى الفرد متواجد بداخله من الأساس تحمله الجينات من جيل إلى آخر ولكنه يحتاج إلى إيقاظه فقط بتذكر مبادئ الماعت ولذلك نجد أنها جاءت على لسان الموتى يوم الحساب الذي يوضع فيه قلب الميت في كفة وريشة الماعت في كفة، فإذا خف وزن قلب المتوفي كان من المطبقين لمبادئ ماعت ودخل الحياة الأخرى بعد أن يردد بعضًا من مبادئ ماعت التي عمل بها في حياته مثل “لقد أعطيت الخبز للجياع والماء للعطشان والملابس للعريان وكنت راعيًا ووالدًا لليتيم” أي أنه أقام ماعت على الأرض.
لذلك فماعت التي صيغت واكتملت قبل الوصايا العشر التوراتية بقرابة الألفي عام ق.م كانت نابعة من داخل الإنسان وليست مفروضة من الخارج، ورغم قدم عمر ماعت إلا أنها ليست أولى المبادئ الأخلاقية المدونة في مصر فقد أسس لها “تعاليم بتاح حتب” و “كا – جمني” و “مري – كا – رع” فقد كانوا بمثابة التأسيس للفضيلة والعدالة التي أنجبت ماعت.
أما عن ماعت الربة، فهي لم تكن مجرد تمثالاً يقدم له القرابين كما قلنا سابقًا وإنما الربة ماعت هي تجسيد لجوهر العدالة والنظام والحق، كما أنها نظمت علاقة الملك بالشعب، فلابد للملك أن يحمل الماعت في قلبه ويطبقها خلال حكمه ويبرهن على ذلك بالقيام بطقس تقديم تمثال صغير لماعت كناية عن إرساء الماعت في حكم الأرض.
كما يقول الملك:
“انا أعظم ماعت التي يحبها رع، لأني أعرف أنه يعيش بها، إنها أيضا خبزي وأنا أشرب من نداها”
ويرى أسمان: أن الماعت قد ترجمت الصورة الجديدة للإنسان التي ظهرت في ذلك الوقت والتي كانت متعلقة بالسياسة أيضًا، فالإنسان الذي سوف يقوده قلبه -الذي سوف يوزن في الميزان لكي يعبر ويتلقى الأوامر الآن من قلبه- هو الخاص الذي يحمل على عاتقه هذه المسؤولية، إنه انسان يقود نفسه بنفسه عكس الدولة القديمة التي كانت تقوده قوة خارجية.
تمثل ماعت على شكل سيدة تعلو رأسها ريشة النعام، تمسك بيدها مفتاح الحياة (عنخ) وفي اليد الأخرى صولجان الحكم.
ارتباط ماعت بتحوت:
ارتبطت ماعت بتحوت رمز الحكمة بحيث يمكن اعتبارها قرينته الأنثى التي أتت معه في قارب رع عندما انبثق لأول مرة من عمق المياه “نو”، لذلك يمكن اعتبارها زوجة معلم الآلهة تحوت إله الحكمة الذي كان يدعى “سيد ماعت”.
نلاحظ سويًا أنه إذا كانت المعبودة ماعت تمثل النظام والعدالة فإن قرينها تحوت يمثل الحكمة وفي ذلك اقتران فريد بين العدالة والحكمة.
أتذكر جملة كتاب الموتى: الإله تكون والربة ماعت معًا قد سطّرا المسار اليومي لكل يوم.
أما لفظ ماعت: فهو لحسن الحظ مرتبط بماهيتها فهو في جمل عديدة يدل بشكل عام على “الشيء الذي هو مستقيم” كما اتفق أغلب المؤرخين على أن المعنى العام يدور حول الحق والحقيقة وما يتصل بها من صدق وعدل ونظام.
ومما لفت نظري أيضًا في الماعت وما تمتعت به من خصوصية عن باقي الآلهة المحلية أنها كانت عند المصريين تجسيدًا خالصًا لأفكار عامة وعمليات ذهنية ولم تكن مقيدة بمنطقة جغرافية محددة بل إنها تمثل التوازن الذي يحمي العالم وبفضلها يسير العالم في استقرار وتؤدي الناس والآلهة وظائفها، كما أنها المعيار الذي لابد أن يسير وفقه الجميع.
لذلك فماعت إلهة تجريدية خالصة، تحب دائمًا أن تغذي نفسها بالحق والعدل، إنها الضوء الذي أحضره رع للعالم فقد وضعها في مكان مادة الكون قبل تكوينه.. لتبحر هي وقرينها تحوت من نون في الزمن الأول قبل بدء الخليقة.