الرجل الذى اشترى مصر

فى بداية القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1804، ولد طفل لأب اسمه “إسحاق” من عائلة متواضعة، إيطالي الأصل بريطاني المنشأ يهودي الديانة، وقد كان إسحاق منتمياً لأحد المعابد اليهودية بضواحي العاصمة البريطانية “لندن”، ولكنه كان على خلاف دائم مع كاهن المعبد لأسباب مالية وضريبية، وللتهرُّب من ضرائبه قرر إسحاق عندما اشتد خلافه مع الكاهن أن يسقط عن نفسه وعن أبناءه الديانة اليهودية ويرتمي فى أحضان الكنيسة البروتستانتية الأنجليكية، حتى يكوِّن لنفسه علاقات اجتماعية مع الأوساط الميسرة الإنجليزية التي تلتقي بالكنائس، وكان ابنه “بنيامين” قد وصل إلى الثالثة عشرة من عمره فى ذلك الوقت، أى عام 1817.

نشأ بنيامين وتعلم فى مدرسة عامة قليلة المصاريف، وليست خاصة كباقي المجتمع الذى حاول والده الإنتماء له، لذلك تولَّدت لديه بعض العقد النفسية والاجتماعية فى محاولاته المستمرة للإندماج الاجتماعي بسبب تعارضها مع عقائده التراثية اليهودية الدفينة، وفي سن الشباب، أوجد لنفسه أسلوبًا خاصاً في التصرفات وفي مظهره وملبسه، وراح يغازل سيدات المجتمع، لكونها أقل عنصرية ونفورًا من الأجناس الأخرى وأكثر إنجذابًا للشخصيات شبه الكاريكاتورية، تلوَّنت ثياب بنيامين بالألوان العجيبة، وأطال شعره وأظافره، وقضى معظم أوقاته فى مجالس السيدات يقص عليهم بعض من الخرافات والنكات لإضحاكهن وللتقرُّب من أوساطهن الاجتماعية، فكان ينعت بالداندى (أى الشاب الملعب).

فشل بنيامين فى دراسة الحقوق، فأراد أن يتحوَّل إلى كاتب وأديب، ولكن لم تلقى كتبه أي رواجًا بما يسمح له بالتعايش من دخل بيعها، إلى أن جاءته بعض الأموال من ناتجِ بيع كتيب عن قصة “دوق شاب”، مدعيًا فى كتابه هذا معرفته بالأوساط الأريستقراطية، فقرَّر صرف تلك الأموال بالسفر مع زوج أخته ليزور بلاد شرق البحر المتوسط، وفى تلك الرحلة التى قام بها عام 1830 – 31، زار بلاد الشام وفلسطين ومصر.

وفى القاهرة، توفي زوج شقيقته من مرض الجديري، فعاد بنيامين بمفرده إلى انجلترا، وكانت تلك السفرية نقطة فاصلة فى شخصيته وتحوُّلها وتطورها، فأصبح يدعِّي معرفة حكمة رجال الشرق ودياناتهم المسيحية واليهودية والمسلمة، بدأ يهتم بالسياسة، وبدأت كل كتاباته تتركز على شئون الشرق الأوسط ومشاكل الأمبراطورية العثمانية، وتداخل ديانات الشرق فى بعضها، أي أنه أصبح يبيع نفسه على أساس أنَّه الخبير السياسى والاجتماعى بشئون الشرق الأوسط.

رشَّح بنيامين نفسه فى الإنتخابات التشريعية البريطانية عام 1837، وصار نائبًا، ورغم كونه يهودي الأصل، فقد كان مضطرًا لحلف اليمين بالبرلمان على مبادئ الإنجيل، ولم يثنِه ذلك فى طموحه للتسلق الاجتماعى من خلال البوابة السياسية، وعندما نهره أحد النواب بسبب ديانته، ردَّ قائلًا:

إعلان

نعم كان أجدادي حراس لمعبد سيدنا سليمان، وقت كان أجدادك وحوش يتسلقون الأشجار على جزيرة، أصبحت الآن بريطانيا.

 

دون الدخول فى تفاصيل حياة بنيامين السياسية من بعد هذا الظهور الأول على الساحة السياسية، ودون الدخول فى تفاصيل غرامياته النسائية والتى انتهت بالزواج من سيدة تكبره سنا بإثني عشرة عامًا، إلَّا أنَّ أهم محطات حياته السياسية تتلخَّص فى الآتى:

أصبح وزيرًا للمالية عن حزب المحافظين عام 1851 لعدة أشهر حتى سقطت الحكومة بسبب تصرُّفاته، عاد وزيرا فى حكومة 1858، ثم فى حكومة 1866، ثم رئيسًا للوزراء لأوَّل مرة عام 1867 حيث أدخل تعديلات على النظام الإنتخابي لتوسيع قاعدة الناخبين، فسقط سقوطًا زريعا فى العام التالي، ثم تولى رئاسة حزب المحافظين رغم قيامه بتصرفات متعارضة مع تقاليد الحزب العريقة.

ظل بنيامين فى المعارضة، وكان له خطاب شهير فى يونيو من عام 1872 دخل به تاريخ العالم، حيث نادى بقيام الاستعمار وبناء الإمبراطورية البريطانية، فقبل هذا التاريخ، كان التواجد فى البلاد الأخرى يتم من خلال فئة التجار أو رجال الكنيسة أو بعض المغامرين، وكانت الأساطيل الحربية تجوب البحار حماية للسلع المتداولة، ولكن لم تتواجد دولة فى بلد آخر بغرض استعماره إلَّا فى حالات نادرة، فاعتُبِر بنيامين أوَّل من صاغ أسس الاستعمار الحديث والأمبريالية.

وفى عام 1874، عاد حزب المحافظين للحكم وصار السيد بنيامين ديزرائيلى رئيسًا لوزراء بريطانيا بترحاب من الملكة فيكتوريا، التى كانت تكرهه فى بداية الأمر إلى أن قدَّم لها لقب “إمبراطورة الهند”، وتحوَّلت بريطانيا إلى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وكان لهذا “الديزرائيلى” دور سيئ آخر فى تعميق مشكلة الخلاف فى ايرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت.

أما عن دور بنيامين ديزرائيلى فى مصر، فقد كان كارثيًا:
عندما زار بنيامين فى شبابه مصر، شعر بأهمية الموقع الاستراتيجي لمصر فى حركة التجارة العالمية، وكان مهتمًا بمساندة الإمبراطورية العثمانية لحمايتها من الأطماع الروسية فى البحر المتوسط. لذلك لم يكن سعيدًا بعدم مساهمة إنجلترا فى ملكية أسهم قناة السويس، وظل مع أصدقاءه من عائلة روتشلد يتطلَّعون للفرصة التى ستسمح لإنجلترا امتلاك أسهم قناة السويس، كخطوة لامتلاك مصر كمستعمرة بريطانية، وظل بنيامين ديزرائيلى يتحرك فى الكواليس لخلق الظرف الملائم لتحقيق أغراضه.

وتحدَّدت الخطة لوضع الخديوى إسماعيل فى مأزقٍ عن طريق تضخيم الديون المصرية بإحتساب فوائد بنكية ضخمة لا تستطيع مصر سدادها لفكِّ أزمتها المالية، وقام صديقه مدير البنك البريطانى المستر “هنرى أوبنهايم” بترتيب الأزمة وإدارتها حتى لا يكون للخديوى مَخرَج إلَّا ببيع أسهم قناة السويس.

بيع قناة السويس

قال اللورد كيورزون وزير خارجية بريطانيا عام 1909:

“إن قناة السويس هى العامل الحاسم لأى عمل أو تواجد بريطانى خارج حدودنا”.

بيعت قناة السويس في الخفاء بأموال اقترضها ديزرائيلى من صديقه ليونيل روتشيلد بما قيمته فى هذا الوقت أربعة ملايين جنيها استرلينيا، وحيث لم يكن أحد على علم بالصفقة فى إنجلترا، فقد هاجم البرلمان الصفقة باعتبارها متنافية مع الدستور لعدم حصول ديزرائبلى على موافقة مسبقة من البرلمان لسداد هذا المبلغ، لكنَّ موقف الملكة فيكتوريا المساند لديزرائيلى أوجد حلًّا للأزمة الدستورية، فذهب إليها بنيامين قائلًا: “الموضوع قد حل يا مولاتى، فهى لك الآن، مصر وقناتها”.

قام ديزرائيلى بترتيب سياسة بريطانيا الخارجية للتخلُّص من الخديوي اسماعيل، ووضع مصر تحت الوصاية المالية لبريطانيا، ووجَّه بالبدء خطَّةً لاحتلالها فى ظل حاكم مصرى مطيع وسلطان عثمانى متعاون. ولكنَّ العمر لم يسعف بنيامين ديزرائيلى لدخولِ مصر على رأس الجيش البريطاني، فتوفى عام 1881، عامًا واحدًا قبل الاحتلال الفعلي.

إعلان

اترك تعليقا