قراءة في كتاب (نيتشه مكافحًا ضدَّ عصره): هل أنا نيتشويّ؟

قدّ يكون التعمُّق في فِكر الفيلسوفِ الألمانيِّ فريدريك نيتشه (1884-1900) من أكثر المحطّات الجدليَّة التي يمرُّ بها الفكر المعاصر والأيديلوجيات المُستندة إلى مفاهيم الديمقراطية والمساواة، التي تُجادل رفضًا مفهوم نيتشه عن “طبيعة القوة” وتقسيم البشرية إلى نموذجين: النموذجُ القويُّ والنموذجُ الضَّعيفُ. ولم تضع هذه الجدليَّة أوزارها منذُ أن أشرقت الأشكال الأولى لفلسفة نيتشه، وتبلْوُر مراحل حياته الفكرية المرهونة بوصفين أساسيّين ومراحلهما؛ التدميريّ والبنّاء؛ العدم والوجود؛ الضعف والقوّة. فمنذ أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين لم تكفّ أقلام المُحلِّلين عن شقّ دماغ نيتشه؛ لاستخراج خلاصة تُذكر، أو بمعنى أدق، خُلاصة تُعتبر خُلاصة بالمعنى الحرفيّ لما قدّمه خلال مسيرته الفلسفية، وهذا أيضًا يرتبط بشدّة بحالتهِ كمعضلةٍ سيكولوجيةٍ وفلسفةٍ تحتكمُ لحالتهِ الفيزولوجية. ويُضاف إلى ذلك أنَّ نيتشه اختلطَ مع عصره كفاعلٍ مُفكِّكٍ لكلِّ القِيَم السائدة، وهذا ما جعل منه منبوذَ عصرهِ ورسول ما بعده.

وربّما تحتاج هذه المُعادلة المليئة بإشارات الاستفهام والتعجُّب كتابًا استثنائيًا يشرحُ نيتشه المكافح ضدَّ عصره، وهذا تحديدا ما عملَ عليه تلميذُ نيتشه (رودولف شتاينر 1861-1925)، وهو فيلسوف واجتماعي ومُفكرٌ نمساويٌّ، وعُرِفَ كناقدٍ أدبيٍّ وثقافيّ.

مقدمة الكتاب

يفتتحُ المترجمُ (حسن صقر) الكتابَ بمقدمةٍ تطالُ مراحلَ حياة نيتشه وأهمَّ النِّقاط المفصلِيَّة التي خاضَ بها تناقضاتِهِ وتطوراتِهِ الفلسفية وصولاً إلى مرحلة مرضِه وانهيارهِ العصبيِّ وما بعده، ويشملُ أيضًا حالة موتهِ وتركِ كلماتهِ الأخيرة بطابعٍ من الجنونِ والانهيار، وهذا ما يتركُ في نفسِ القارئ دافعًا إضافيًا لفهم طبيعة نيتشه كفيلسوفٍ وحالةٍ فكريّة مُتناقضة، أو فلنقل: مُتناقضة للوهلةِ الأولى. يُركّز حسن صقر أيضًا على مدى امتداد فكر نيتشه نحو عصرنا الحاليّ، فإنَّ المترجمَ هنا يتبنَّى دور المُبشِّر بالكتاب الذي ترجمه في عام 1998 عن طريق دار الحصاد للنشر، وأعيدَ نشره في هذا العام (2019) عن طريق دار فواصل للتوزيع والنشر. “1”

السِّمات الشخصية

من المثير، ولو جزئيًا، أن يرصد المؤلِّفُ السِّماتِ الشَّخصيَّةَ لنيتشه استنادًا إلى زاردشت وأقواله ورحلته وعُزلته؛ فإنَّ ما أُطلقَ عليه اسم “الإنجيل الخامس” وأقصد هنا كتاب “هكذا تكلّم زاردشت” الذي كُتِبَ بصيغةٍ شعريَّةٍ وتبشيريَّةٍ قريبةٍ من شكلِ الإنجيل المسيحيّ؛ يكشف كلَّ الاختلافات بين زاردشت والمسيح كأولويّة، بل إنَّ زاردشت إلى حَدٍّ ما هو نقيضُ المسيح وقاتلُ الإلَهِ الذي يُعْبَد “حسب تعبير نيتشه: الإلَه مات ونحن من قتلناه” ولكن، هناك ما يبقى فارقًا جوهريًّا بينهما وهو مُعاملة تلاميذهما، في حين عبَّر المسيح: اطلبوني؛ تجدوني. قدّ عبَّر نيتشه: انبذوني؛ تجدوني. وهذا ما يشكّل الفارق بين القِيَم الدينية المُقدِّسةِ للأصنام التي تتبعها وبين القِيَم النيتشويَّة التي تُطالبُ بنبذ كلِّ الأصنام سواء كانت مسلَّمَاتٍ أو أشخاصًا أو أفكارًا؛ فإنَّ فعل العثور هنا “تجدوني” يلعب دورَ الحَدِّ الفاصل بين أشكال القِيَم؛ أحدهما، وأقصدُ المسيح، يُطالب أن يكون التقديسُ والولاءُ قيمةً ساميةً ليُساعد تلامذته. والآخر، وهو نيتشه، يُطالب أن يكون النبذُ والإنكارُ لكلِّ الحقائق والأشخاص بدءًا من نفسه، قيمة سامية ليُساعد تلامذته.

إن هذا هو خيري الذي أحبّ، إن هذا ما يثير إعجابي، فأنا لا أريد الخير إلا على هذه الصورة، لا أريد هذه الأشياء تبعًا لإرادة إلَهٍ ولا عملًا بوصيّةٍ أو ضرورةٍ بشريّة، فأنا لا أريد أن يكون لي دليلٌ يهديني إلى عوالم عُليا وجناتِ خلود.

-نيتشه، هكذا تكلّم زاردشت. “2”

وبالعودة إلى زاردشت؛ فإنه قد حملَ معهُ ألغازًا تجادلُ في معنى الحقيقة واللّاحقيقة وقيمةُ كلٍّ منهُما، ورفعَ شراعًا تشدُّهُ ريحُ الثورة على مسلّماتِ عصرهِ؛ ليُنَقِّحَ مراحلَ وعيِ الإنسانِ من التبعيَّة “اتباع الوصايا والمسلّمات“، ثم التدميرية “العدمية الوجودية وتدمير القِيَم“، وصولا -بعد رحلةِ العدم تلك- إلى الإنسان الأعلى؛ “بناء ما دُمِّر من الفكر العدمي“، ونقد أنواع العدمية التي حلَّت في عصره، ولكن قبل التطرُّق لهذا المنحى سوف أضع مسطرةَ قياس للفلسفة الوجودية والفلسفة العدمية عند نيتشه تَحَسُّبًا من أن تختلط الأمور، وليتضح مسارُ المقال وماهية الكتاب ووجوديّة نيتشه:

إعلان

  •         الفلسفة الوجودية: تستند على الاعتقاد بأنَّ مزيجًا من الوعي والإرادة الحُرَّة والمسؤولية الشخصية يمكِّن الإنسان من امتلاك معنى خاصٍّ به في عالَمٍ يفتقر في جوهره إلى المعنى الوجودي، الأمر الذي يدفعه إلى البحث عن وجوديَّته الخاصة.
  •         الفلسفة العدمية: تقوم على نقيض الفلسفة الوجودية؛ إذ تقول بأنَّ الحياة لا تملك معنى في جوهرها، وأنَّ كل محاولاتِ صُنع جوهرٍ للحياة هي في الحقيقة دون جدوى. وتنقسم العدمية إلى أشكال عدة؛ منها ما يدعو إلى تحطيم جميع القيم والمعتقدات والاعتبارات؛ فتتسم بالسَّلبية. [4]

وفريدرك نيتشه يرى أن تلك العدمية المُعرَّفة أعلاه سوف تُسَبِّب انهيارَ المعنى والغاية، وهذا ما سوف يُشَكِّل اعتداءً كليًّا على الواقع وقيمة الوجود الإنساني، وتبعًا للموجة التي مرَّتْ -وما زالت إلى اليوم حسب رأيي الخاص- بها الحضارةُ الأوربية في عصره من تسخيف الحياة وتجريد الإنسان من وجوده السامي وقِيَمه، يقول فريدرك نيتشه:

منذ فترة من الوقت كانت ثقافتنا الأوروبية بأكملها تسير نحو الكارثة، مع تزايدٍ مزعج ينمو من عقدٍ إلى عقدٍ بلا كلل ولا ملل، عنيف ومتهور، مثل النهر الذي يريد أن يصل إلى النهاية.

ولهذا نجد أن أشكالَ العدمية التي تعمل على تقويض السلطة المعرفية والاعتبارات الوجودية لدى الحضارات هي عدوُّ نيتشه اللدود، ويتحدَّث نيتشه عن ذلك في كتابه “إرادة القوَّة” عندما وصفَ معنى العدمية السلبية:

أنْ تَخْفِضَ القيمُ الساميةُ قيمةَ نفسها، غياب الهدف، الجواب عن السؤال “لماذا”، تكمن المشكلة أنَّ الإيمان بالعالم الحقيقي ضروريّ، ببساطة كي نعيش، إذ لا يمكننا أن نتحمَّل عالمَ الصيرورة هذا.

وتقودنا ضرورية الإيمانِ بالعالم الحقيقي التي تكلم عنها نيتشه إلى وجوديَّتهِ؛ فيقول:

ولكن بمجرَّد أن يكتشف الإنسانُ كيف أن هذا العالم مصنوع من أجل تلبية حاجاتٍ نفسيةٍ وحسب، وكيف أنْ ليس له فيه أيّ حق، تأتي آخرُ صورة من العدمية إلى حيِّز الوجود مُتَضَمِّنَةً عدمَ الإيمان بأيِّ عالَم ميتافيزيقيَّ، ومحرِّمةً على نفسها الإيمانَ بعالَم حقيقيٍّ، وبعد الوصول إلى هذه الحالة يُسَلِّمُ الإنسانُ بأنَّ حقيقةَ الصيرورة “الوجود” هي الحقيقة الوحيدة، وينكر كل السُّبلِ المُلتوية التي تؤدِّي إلى عوالمَ ميتافيزيقيةٍ وآلهةٍ مُزَيَّفَة، لكن، لا يُمكن أن يتحمَّل هذا العالم إن لم ينكره.

هذه هي وجودية نيتشه، مؤمنٌ على نحو مُختلف، لذا يحاول أن يصيغ الوجوديَّة على أنها آخرُ مرحلةٍ من العدمية، بل إنَّ العدمية ليستْ إلا سبيلاً إليها، وهذا السبيل يجب أن يحثَّ على بناء الوجود الذي يسعى إلى الحقيقة دون أن يلجأَ إلى طرائقَ ملتويةٍ، وعوالمَ ماورائية، أو معتقداتٍ وقِيَمٍ دينية، مثل الإلَه والحياة الأُخرى والخضوع؛ طمعًا بمكافئةٍ بعد الموت وكلِّ القِيَم التي تحدُّ من الإرادة المعرفية والارتقاءِ نحو القِيَم السامية.

إذ إِنَّ نيتشه يقول عن دفع القِيَم إلى الارتقاء، ويضرب مثالاً عن الزواج في اقتباسه هذا:

ليس عليك أن ترسل سلالتك إلى الأمام فحسب، بل عليك أن ترفعها إلى ما فوق.. فليكن عملك في حقل الزواج مُنْصَبًّا إلى هذه الغاية.

وفي  الإضاءة السابقة على مفهوم وجودية نيتشه[5]، نرى أنه يخرج عن أيّ مفهومٍ عدميٍّ غيرِ مُكتمل، وهذا حرصًا على فهم فلسفته والكتاب المطروح كحالةٍ لا يجب أن يُجتزأ منها أيُّ قسم أو اقتباس خارج سياقه.

الحكمة والكبرياء

سعى زاردشت للبحثِ في أسئلة أُخرى؛ كيف يكون حكيمًا يستخدمُ كبرياءهُ؛ لصنعِ عالمٍ ينطلق منه ويعود إليه دون وسيطٍ أو عوالم ماورائية؟ وفي خضم هذه الطبيعة الثوريّة لحامل المطرقة “نيتشه” فإنَّ أوضح صفاته الشخصية هي المُطالِبة بنفي وإنكار كل الحقائق وكأنَّ ذلك دافعٌ فطريٌّ صنعَ شخصيتَه، وقد ذكر في كتابه “هذا هو الإنسان” أنَّ تلك المسلّمات التي يؤمن بها البشر في عصره لطالما كانت بالنسبة إليه أفكارًا طفولية لم يعطها شأنًا من الجدل والتفكير، وهذا ما سنتطرَّق إليه في قسم لاحق من المقال؛ لشرح حالة ارتداد فكري غير واضح الملامح لدى نيتشه.

ففي عصرٍ تجلّتْ فيه إرادة الإنسان كنحو للبحث عن الحقيقة من قبل الفلاسفة والمفكرين، أو سنِّ قوانين وحالات مُسلَّمة لمفهوم الحقيقة من جانب الكهنة والمُتديّنين، قدّ سلك نيتشه طريقًا مختلفًا عن أهلِ عصرهِ، وقال:

ليستْ هناك مسلمّاتٌ أبديّة، وليستْ هناك حقائق مطلقة. وجابه ذلك بشدّة، ولكن هذا لم يكن بصدد اللابحث، بل بصدد تحويل دفّة البحث نحو أرضٍ خصبةٍ يُنبت منها الإنسانُ القِيَمَ بعد تدميرها ولو لمرّة حتى تدفعهُ إلى الأمام وترفعه إلى الأعلى. ومفهوم “الحقيقة” كانَ ضمن هذه المعادلة؛ فإن الإنسان الحُرّ لدى نيتشه لا يُصدِّق الحقائقَ، بل يصنعها، وهذا ما يخرجه من كل حالة يكون فيها تابعًا أو مطيعًا. ومع أن فَهْمَ وتفهيم جوهر وماهية تلك الفلسفة في الإنكار ليس بالأمر البسيط، ولا يجدرُ به أن يكون بسيطًا، ولكنَّ المؤلف رودولف شتاينر لم يتركِ الأمر لزاردشت ونصوص نيتشه المُستقلة فقط، بل أسنده إلى رأي نيتشه عن طريق المفكرين والموسيقيّين المعاصرين له؛ ليُقيم بينهم ملحمةً فكرية، وهذا ما يُمكن وصفُه بالإسقاط البارع للفلسفة النيتشوية على سيرورتها التاريخية.

لكن، أهناك طريقة مُطلقة نفكر بها؟ إذ إن رودولف شتاينر يسعى دائمًا بين دفتيّ الكتاب إلى نفي الحقائق، وهذا استنادًا إلى فلسفةِ نيتشه. أيمكنُ أن نفصل العقلَ عن قرينهِ؛ العاطفة؟ ثم ما هي الحكمة؟

في الحقيقة، لم تُبْنَ شخصية نيتشه؛ ليُطلقَ الحقائق الهيكلية الثابتة للتفكير أو لصياغة العقد الاجتماعي، وهذا ما يُساء فهمُه بعضَ الأحيان من قِبَلِ القارئين له، والمُستمدين حكمتهم وتوجيه أفكارهم منه، بل إنه ليُطلق الفردانية الفكرية مُنكِرا كل شكلٍ قطيعيّ للتفكيرِ والمعرفة والحكمة تبعية له، وقدّ طلب من تلاميذه مرارًا وتكرارًا أن ينبذوه، لا أن يقدِّسوه.

أفضُّل أن تعتبروني مُهَرِّجًا على أن تعتبروني قِدِّيسًا.

يرى نيتشه -كما ذُكر سابقًا عن رؤيته للعدمية؛ وشرحته مسبقًا لتستند هذه الفقرة عليه- أنَّ العوالم الميتافيزيقية سبيلٌ للضعفاء غير القادرين على مواجهة اللاحقيقة، وهذا ما وصفَ به القِيَمَ المسيحية في أوروبا، وهدَّد بأن قِيَمَهم لن تجلب سوى الانهيار، ويُطلَق على هذا التيار الفكري مصطلح “العدمية النيتشوي” والتي تختلف تماما عن “العدمية الوجودية” في سياقها الفلسفي.

يوضِّح المؤلِّف رودولف شتاينر أيضًا تفاصيلَ شخصيةِ نيتشه في علاقاته مع الآخرين ورسمِ هيكل صداقاته، ولكنه يبقى متزامنًا مع الفكر النيتشوي؛ فلا يقدّم تفصيلا يُذكر دون أن يستشهد بكلام نيتشه في كتبه وأطروحاته عن طريق المزج بين شخصية نيتشه، وطريقة كتابته التي تحتاج إلى التحليل دائمًا، ويستشهد للاستدلال عن هذه الفكرة بقول نيتشه:

إن طموحي هو أن أقول في جمل عشر ما يقوله الآخرون في كتاب كامل، أو بكلمة أكثر صوابا ما لا يستطيع الآخرون في كتاب بأكمله.

وربّما هذا ما يبيّن عمق النصوص النيتشوية، وما يجعل منه فيلسوفًا غيرَ منهجيّ، بل شاعرًا وأديبًا ومُفكرًا تحوّل إلى علبة ديناميتٍ فلسفية؛ كما وصف نفسه أيضًا، وكما نستطيع اليوم أن نصفه عند متابعة الجدل بين اليسار واليمين حول حقيقة فِكر نيتشه.

الإنسان الأعلى

يُرافق (الإنسان الأعلى) اسمَ نيتشه، وزاردشت بالتحديد، ويُعتبر ذلك إلى حدّ كبير خلاصة رؤيته لمراحل تطوّر وعي الإنسان وانتقاله نحو تعلُّم الإمساك بخيط الواقع الفعلي؛ فإنَّ زاردشت بعد أنْ أعلنَ موت الإلَه أعلى الكبرياءَ الكامنَ في باطنه؛ ليكون مُنطلقًا من وجوده فقط دون أيِّ وصايا عُليا وقِيَم تسخِّف واقعه الفعليَّ، وقوّة إرادته الباحثة عن الحقائق. ومن هذا الباب يشرَع المؤلف رودولف شتاينر لتوضيح ملامح ذلك الرحّال المُعتزل بين دفتيّ كتاب نيتشه ورمزية الحيوانات التي رافقته؛ فإنَّ الأفعى على سبيل المثال تُمثِّل أكثرَ الحيونات حكمةً، والنسر، يُمثل أكثر الحيوانات كبرياء، ومنهُ قدّ يكوِّن هذا القسم تحليلاً اختصاصيًا من تلميذ نيتشه لرمزيات كتابه الأشهر والأكثر تداولاً عند قُرّاء نيتشه.

عندما يفقد الإنسان الكبرياء واحترام الذات، فسوف يعتقد أن حكمته إنما جاءت هدية من السماء.

ويرتبط هذا الاقتباس مع تفاصيل رحلة زاردشت:

“يجوب زاردشت الآفاق مصحوبا بحيوانين ألا وهما: الأفعى الأكثر حكمةً، والنسر، أكثر الحيوانات كبرياء. إنهما رمزان لغرائزه. زاردشت يقدر الحكمة عاليا، فهو يُعَلِّمُ الإنسان كيف يمسك بخيط الواقع الفعلي، ويُبَصِّرُه بكل ما يحتاج من أجل الحياة. والكبرياء يعشقها؛ لأنها تفرض على المرء أن يحترم ذاته، كي يكون جديرا بها، ولكي يجعل منها هدفَ ومعنى وجود. من يحمل الكبرياء لا يضع حكمته وفضيلته فوق ذلك. والكبرياء تصون الإنسان من أن يضع نفسه في خدمة أهداف عُليا مقدّسة.

أما إذا خُيِّر زاردشت في أن يتخلى عن واحد من اثنين، الكبرياء أو الحكمة، فإنه لاشك سيختار الكبرياءَ؛ ذلك لأن الحكمة التي لا يصحبها الكبرياء لن تكون فعلا إنسانيا بحال من الأحوال. وعندما يفقد الإنسان الكبرياء واحترام الذات، فسوف يعتقد أن حكمته إنما جاءت هدية من السماء. زيادة على ذاك فإنه سيقول: يا له من أحمق هذا الإنسان، أنَّ له من الحكمة أكثر ممّا أرادت السماء أن تعطي.” [1] صـ 67.

الإنسان الأعلى من وجهة نظر نيتشه، هو من تتكوّن حكمتُه من خلال تجريد نفسه من كل الماورارئيات ونبذ كل محاولة لازدراء الواقع والوجود والذات والجسد باسم الروح والحقيقة المزعومة، ويجب أن ينطلق من نفسه وليس من وصايا عُليا؛ وهذا ما يحصل إن امتلك الكبرياء الذي يدفعه إلى احترام نفسه وأن يكون إِلَهًا بذاتهِ؛ يجعل منها محور وجود. وإنْ فقد الإنسان هذا الكبرياء فسوف يظن أنَّ حكمته تنبع من وجود آخر؛ من الآلهة والدين والسلطة والكهنة. ومنه قد يكون المُفكِّرُ الأعلى في عصرنا هذا هو مَنْ يمتلك هذا النوع من الكبرياء، بأن يكون ذاتًا حكيمةً أعلى من آلهة أولئك؛ فَاقِدِي كبريائهم،  إلى هؤلاء المنقادين نحو السماء والكهنة والسلطة في ازدراء أنفسهم وواقعهم، وبهذا قد يدمّر كل شيء “فكريا” ليصنع عالما تدور حكمته المرفقة بالكبرياء نحو قِيَمه السامية الخاصة واستمراريّتها؛ حين يتحمّل تلك المسؤولية فإنه يُنْجِي من حوله من خلال إعلاء نفسِه البنّاءة الممزوجة مع الواقع المتجرِّد من كل ضعف ومثالية وتنظير خادع لما بداخله؛ والأمر هُنا لا يُعرِّف ما هي القِيَم، بل يدفع كنهج فكري لطريقة صياغتها فقط.

قوّة الإرادة

لا يكتفي شتاينر بذكر اقتباسات نيتشه وتحليلها بل يذكر أيضًا اقتباسات الفيلسوف فيتشه حول إرادة الإنسان ونشاطه والقوّة التي تجرّه إلى ذلك، وهذا يصبّ في نهاية المطاف في تحليل مفهوم الإرادة عند نيتشه، وبالرغم من أن هذه الطريقة قدّ تُسبّب بعض التشتيت في البداية، ولكنها تنصب الأمور في ميزان المقارنة لمفاهيم الإرادة والسلوك البشري ومنبع السمات الأخلاقية، فلا يطول الأمر حتى يتَّضِحَ للقارئ ماذا يعني نيتشه بأن يجعل المرء من نفسه سيدًا وممتلكًا لإرادة القوة. وقدْ يصعب تفسير ذلك دون الاستفاضة بالشرح الذي يَبرع فيه شتاينر في عمله هذا، ولكن، يُمكن اعتبارُ حالة الإرادة أنها حالة مُختلفة باختلاف الإنسان وعقله، فمنهم من ينطلق من الذات الأُخرى والوصايا بتبعية غير مسؤولة وضعيفة، وهذا لعجزه عن الانطلاق من طبيعة قوية وذاتية ومستقلة عن كل أشكال الضعف؛ وهل لنا أن نتخيّل كم يمتلك هذا الجدل الدائر بين فيتشه ونيتشه أهمية فكرية حول موضوع الإرادة؟

يقول زاردشت:

أين أرى شبيهي، وكل من هو على شاكلتي؟ الذين يعطون أنفسهم لإرادتهم، ويديرون ظهورهم لكل أشكال الخنوع.

ويقسِّم فريدرك نيتشه البشر إلى نموذجين؛ قويّ وضعيف، ومع أن هذا ينال الكثير من النقد الذي قدْ يصل إلى وصفه بالعنصريّ أو المرجع للأنظمة الفاشية، بل ويرى بعض القُرّاء أن نيتشه مُلهم للنازيّة والتيارات العرقية التي تعبِّر عن ذاتها أنها النموذج الأقوى، ولكن ينقد الباحثون والمترجمون لأعمال نيتشه هذه الادِّعاءات، وهذا بدوره ما يُدْخِلُ فلسفة نيتشه في جدلية أُخرى تتناول كيفية التعامل مع الضعفاء “كما يصفهم نيشته” وما هو أثرهم السلبي على المجتمع والحضارة ومسيرة الإرادة، وتبعا لذلك؛ فإن نيتشه لا يؤمن بإمكانية المساواة بين البشر؛ فهناك دائمًا مُبدعون وكُسالى، وإرادة القوة تختلف بين النموذجين؛ فإمّا أن تكون قاسية تلتزم بالجبروت، وإمّا أن تكون ضعيفة تلتزم بالشفقة واستلاب الذات، وقدّ وردتْ على لسان زاردشت بعضُ المقولات الحادّة بشأن هذا، فقال:

لقد فعلت الحرب، وكذلك الشجاعة، أعظمَ الأشياء في التاريخ. أمّا محبّة الجار فلم تفعل شيئًا، وليست شفقتكم، إنما شجاعتكم هي التي أنقذت جموعَ التعساء.

ويقول رودولف شتاينر بشكل مباشر في هذا الصدد:

يرى نيتشه في السلوك البشري استجابة لسلطة الغرائز. وبما أن هذه الغرائز مختلفة لدى الأفراد المختلفين؛ لذلك فهو يرى أنه من الضروري أن تكون أساليب السلوك لدى البشر مختلفة، ومن هنا فهو يعدّ بحق خصمًا عنيدًا للمبدأ الديموقراطي؛ بمعنى حقوق متساوية، وواجبات متساوية للجميع، الناس حسب نيتشه غير متساوين، ولهذا فإن حقوقهم وواجباتهم لا يجب أن تكون متساوية.

وهذا التلخيص العدائي لأيديلوجية المساواة في عصرنا الحاضر، هو بطبيعته اشتقاق من إرادة القوة لدى نيتشه وليس عقدا اجتماعيًا؛ فإنَّ نيتشه حاول جاهدًا أن يُعلي نموذجه القوي إلى مرتبة قادرة على بناء الحضارة والقِيَم. ومع ذلك، وكما يُبدي نيتشه تحذيره ويُعبِّر مترجمو نيتشه عن نصوصه: حذاري من أي فهم أخلاقويّ لنيتشه.

التطوُّر ومساره لدى نيتشة

يتطرق رودولف شتاينر في هذا القسم إلى عمل نيشته الأخير، والذي لم يكتمل؛ إرادة القوة. والذي وصل التعبير الفلسفي فيه إلى أقصى مداه، ويتناول هذا القسم أربع محاور أساسية في تفكير فريدرك نيتشه:

  1. نقيض المسيح، محاولة نقد المسيحية.
  2. الفكر الحر، نقد الفلسفة من حيث كونها حركة عدمية.
  3. اللاأخلاقي، نقد الشكل الفاجع للجهل والأخلاق.
  4. ديونيزيس، فلسفة العود الأبدي.

ويفسِّر شتاينر رؤية نيتشة للإغريق ومولد التراجيدية عندهم، فإن نيتشه يجد تعبيرًا عن شعور عميق لدى الإغريق، ومن صميم هذا الشعور المأساوي ينشأ لديهم النزوع الذي يجعلهم قادرين على تَحمُّل وجودهم؛ فقد بحثوا طويلا عن تسويغ الوجود ووجدوا ذلك في عالم الآلهة والفن، ولكن يبقى السؤال الأساسي لدى نيتشه في (مولد التراجيديا): إلى أي حدّ بدا الفن الأغريقي قادرًا على الإعلاء من شأن الحياة؟ وإلى أي حد استطاع أن يحافظ عليها؟

وربّما أسئلة نيتشه هذه قدّ تولَّدَتْ من إيمانه بأن الفنَّ له قوة تدفع الحياة نحو الأعلى، وهذا من أهم ميزاته الشخصية كموسيقيّ سابقًا وكشاعر وفيلسوف لاحقًا. ومن أهمِّ ما يميُّز شخصيته تبعًا لذلك أيضًا، هو نفوره من الأفكار المنطقية والعقلية المحكومة بالقوانين للتفكير، ويرى أن أصحاب تلك الأفكار يقعون تحت هيمنة العقل وحده؛ ومن خلال هذا التوجُّه قدّ اعتبر أن الفكر السقراطي -الذي أعلى العقل وحده، بل اعتبره العنصر الإلَهي الوحيد، وبالتالي فهو ما يبقى بعد الموت: خلود العقل [6]- هو أول من دمّر الثقافة الأغريقية.

ودراسات نيتشه في تتبع التاريخ لتحقيق مفهوم الجيناجوليا، مثلما فعل عندما تتبع أنماط الأخلاق تاريخيًا، ومثلما تتبع مفهوم العالم الحقيقي والعالم الظاهري منذ أرسطو حتى عصره، فقدْ نال التاريخُ اهتمامًا كبيرًا في فكر نيتشه، ولكن مع ذلك وضع حدوده وصفاته؛ ليكون صفة قوة وليس ضعفًا؛ أي أنَّ هذا التاريخ لا يجدر به غير أن يكون بناء للواقع وليس دافعا لأي تزمّت فكري يمنع إبداع الأفكار الجديدة. يقول نيتشه ليسمح لطغيان الحس التاريخي مقابل الحاضر:

ذلك أن على الإنسان أن يتعلم قبل كل شيء أن يعيش وألا يستخدم التاريخ إلا لصالح الحياة التي تعلمها.

 بدأ نيتشه بالتحرُّر من فلسفة شوبنهاور في عمله (إنسان مفرط بإنسانيته) في عام 1878، فقدّ تخلّى هذا الكتاب عن كل الأسباب الفوق طبيعية لتفسير الطبيعة، ومنه انطلق نيتشه إلى الواقع الذي يصفه؛ بأن ليس هناك نظام أخلاقي يشمل العالم متعاليًا على الأرض، كما لا توجد قوانين أبدية عن الخير والشر، بل إنَّ القواعد الأخلاقية بذاتها انطلقت من الغرائز والدوافع الطبيعية المتحكمة في الإنسان. وبهذا مُهِّد الطريقُ لنيتشه ليُبدع بواقعيّته بعد أن أسقط كل قوة عُليا أو أسباب ميتافيزيقية أو سلوكيات بشرية لا تنبع من الطبيعة والغريزة الواقعية في سيرورة التاريخ؛ إذ لا يوجد قيد يمكن أن يحكم مسير هذه المعرفة الحُرّة، يقول شتاينر أنه من هذه النقطة بالتحديد انطلق نيتشه لإبداع قِيَم جديدة بعد أن تعمَّق في معرفة وتحليل القِيَم القديمة.

فلسفة نيتشة كمعضلة سيكولوجية

يتطرّق شتاينر في هذا القسم لوضع نيتشه تحت مجهر علم النفس، ومع أنه يؤكّد صعوبة ذلك باعتباره معضلة سيكولوجية، ولكنه يسعى لتحليل هذا التناقض الذي حلّ في حياة نيتشه بدءًا من أولى مراحل شبابه في عمر السابعة عشر عندما كان مؤمنًا صادقًا ويكنّ للربّ وقِيَم المسيحية كُلَّ الحبّ والإخلاص، بل التقديس الذي لا يبدو أنه بالإمكانِ زعزعته… وهكذا حتى انقلابه للإلحاد بالإله وإعلانِ موته، وضرب كل تلك القِيَم دون أن يذكر تفاصيل هذا الحدث وماهية هذه المرحلة الانتقالية، بل إنه يعتبر تلك المرحلة (كما ذكر في كتابه هذا هو الإنسان) وكما ذكرت في بداية المقال: أنها بديهية؛ لذا لم يُعِرْها أيَّ اهتمام في أي مرحلة من حياته، كما أنَّ كل الأفكار حول الإلَه والخلود والحياة الأُخرى كانت بالنسبة إليه أفكارًا طفولية وإنكارها من البديهيات التي تنبع من غريزته الحقيقية..

يعرض شتاينر في صدد ذلك مجموعة من الأقوال الأولى في حياة نيتشه مقارَنةً بأقوال متقدّمة عنها، وهذا لا يُمثِّل تراتبية في تفكير نيتشه من مرحلة نحو مرحلة أكثر تقدُّمًا، بل تُمثِّل تلك المعضلة السيكولوجية  والفيزولوجية في حالته النفسية والجسدية؛ والتي بدورها لم تنطلق إلّا من طبيعة الغرائز نحو الحياة دون أنْ تُعيرَ أيَّ اهتمام لمنهج ثابت أو واضحِ المعالم، ويمكن اعتبار حربه على صديقه القديم مثالاً على ذلك أيضًا، فقد كانت حربًا على نفسه؛ ويشدّد نيتشه على الرأي القائل بأنَّ تبدُّل طريقة الرؤية ناتج عن  ما يطرأ على حالته الصحية من تبدلات؛ حيث يقول في مذكراته التي كتبها عام 199 (كتاب هذا هو الإنسان):

الفيلسوف الذي شقَّ طريقه من خلال التغيُّرات التي اعترت حالته الصحية، دون أن يتوقف عن السير في طريقه، لابد أنه اخترق أنماطًا متعددة من الفلسفة. وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا سوى أن يُحَوِّلَ في كل مرة ضالته وأبعاده الروحية إلى أشكال. إن الفلسفةَ ليستْ شيئًا سوى فنّ التحويل هذا.

ولهذا تتصل فلسفة نيتشه دائمًا بفهم حالته السيكولوجية والفيزولوجية، وربّما هذا ما يفسِّر النبض الحسّاس والشعري في نصوصه؛ كونها تنطلق من باطنه المُمتلئ بالغرائز نحو الأوراق دون أن تمرّ على منهج ثابت، ولهذا قدْ تضرب مطرقتُه رأسَ القِيَم، ثم تضرب رأسه وهكذا، ومنه قدْ تولَّدَتْ لدينا رؤية عن رغبة نيتشه بإنكاره من تلامذته وأن لا يكون صنمًا.. يقول رودولف شتاين:

لا يمكن فهم التناقض البالغ لدى نيتشه إلا إذا أُخِذَتْ حالتُه الجسمانية بعين الاعتبار.

قد يوافق القارئ على بعض الأفكار ويرفض الأُخرى، وقد يتشرّب فلسفة نيتشه كاملةً دون اعتراض وربما يُخالفها كاملةً، ولكن، من الصعب أن يكون نيتشويًّا إنِ اعتبره صنمًا أو فكرًا لا يحتاج إلى الجدل والمحاربة والنبذ كُلَّ عصر.

نرشح لك: نــظـرة شــاملة على فلسفة نيتشه

مراجع أساسية:
[1] شتاينر، رودولف. نيتشه مكافحًا ضدَّ عصره، ترجمة: حسن صقر.سوريا: فواصل للنشر والتوزيع، 2019.
[2] نيتشه، فريدريك. هكذا تكلم زاردشت. ترجمة: علي مصباح، بيروت-بغداد، منشورات الجمل، 2007.
[3] نيتشه، فريدريك. هذا هو الإنسان. ترجمة: علي مصباح، بيروت-بغداد، منشورات الجمل، 2003.
[4] Nihilism, Internet Encyclopedia of Philosophy
[6] شورون، جاك. الموت في الفكر الغربي، يوسف كامل، مراجعة وتحقيق: د.إمام عبد الفتاح إمام. لبنان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر صـ 61-63

مراجع ثانوية:
[5] فريدرك نيتشه، في الميزان بين العدمية والوجودية، الباحثون السوريون.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مجد حرب

تدقيق لغوي: عبدالعاطي طُلْبَة

اترك تعليقا