قراءة في كتاب كفاحي للقرن الواحد والعشرين!!
إنَّ هذا العنوان سيُحِيلنا بطبيعته إلى كتاب كفاحي لـ (أدولف هتلر) الذي نُشِر المجلد الأول منه عام 1925 والثاني 1926، وكما هو معروفٌ وشائعٌ، ففيه يتحدثُ هتلر عن أفكاره –المتطرفة- وتوجّهاته وميوله الشخصية ورؤاه السياسية، وأحلامه العظيمة ببناءِ ألمانيا المستقبلية، مؤمنًا أشدّ الإيمان بتفوقِ العِرق الآري على كل الأعراق والجنسيّات الأخرى، وأن هذا العِرق هو وحده القادر على بناءِ وصنع التاريخ والحضارة! وأن الآخرين ما هم سوى (مواردَ ماديّة) بِيَدِ الآريّين المكلّفين ببناءِ تلك الحضارة.
لكنَّ كتابنا والذي يحملُ نفسَ الاسم “كفاحي”، هو لمؤلفٍ نرويجي، لم يَذُع صَيتُهُ قبل عام 2009، شأنه في هذا، شأنُ كلِّ قاطني الشمال الأوروبي، موظفٌ من الطبقةِ المتوسطة، يعاني من بعضِ المشاكل الماديةِ والأسرية، وُلِدَ في عائلةٍ مفكَّكةٍ، وقضى أيامَ طفولته بينَ أزهارِ ومروج ونسائم مدينةِ كريستيانساند عاصمة جنوب النرويج. كان أبوه مُدرّسًا، وأمه ممرضة، لكنّه عندما أصبحَ شابًا، طلَّقَ أبوه أمّه، واضطرّ الطفل كارل أوفه كناوسغارد أن يرحلَ معها، وقد قاد رحيلهما أباه -وقد كانَ مدمناً على الكحوليات بشكلٍ مرعب- إلى الشربِ بكمياتٍ هائلةٍ في تلك الليلةِ حتى مات. لقد كانَ هذا الأب السكيّر قاسيًا وعنيفًا -على حدّ تعبير كارل أوفه كناوسغارد- ودائمًا كانَ يوبِّخُ ابنه، ويهينه مقللًا من شأنه أمام أصدقائه وأقاربه، وأنه لا يبدي له مشاعرَ حبٍ حقيقية.
ربما كانتْ تداعيات وتَبِعات وتشكُّلات هذه العلاقة المأساوية بين كارل وأبيه، والذاكرة الممتلئة بكل صنوفِ الذل والمهانة، هي التي دفعته ليكتب (كفاحي)؛ هذا الكتاب الذي نتحدثُ عنه.
في البدايةِ أيْ في عام 2008، قررَ كارل أوفه كناوسغارد أن يدوّنَ كلَّ ما مرَّ ويمرُّ به في حياته، ورأى أنه من الأفضلِ أن يبدأ بعلاقته المضطربة القديمة مع أبيه، وشيئًا فشيئًا، انتقلَ من الجزئياتِ إلى الكليات، أي من علاقته بأبيه، لعلاقته بنفسه، ومن ثمّ زوجته وأطفاله، وحياته والعالم كله من حوله، مؤكدٌ وقتها لم يكنْ في باله أنه سيصبحُ أشهرَ كاتبٍ في الشمال الأوروبي، وخاصةً النرويج، وأن روايته كفاحي ستتصدرُ قائمةَ الرواية الأكثر مبيعًا في العالمِ، والأكثر مبيعًا في تاريخ أدبيّات النرويج. وفي الوقتِ الذي بدأ يدوِّنُ فيه تفاصيل حياته، لم يكنْ لديه جمهور سوى صديقه (أنجيل أليغران)، كان يتّصلُ به يوميًا ليروي ويعرض عليه كل ما كتبه، مما دفع (أليجران) –الذي أعجب بصراحته ودقته وشجاعته- لتشجيعه؛ وإقناعه بأن يكملَ هذا المشروع الجميل.
أصدر كارل أوفه كناوسغارد أولَ جزءٍ من روايته، المكونة من ستةِ أجزاءٍ، عام 2009، وتم بيع أكثر من 500.000 نسخة في النرويج علمًا بأن عدد السكانِ وقتها لم يتعدّ الخمسة ملايين، حتى قيلَ أنه بين كل تسعة أشخاصٍ بالغين، هناك واحد قرأ الرواية، وربما الشيء الذي شغلَ الناسَ بادئ ذي بدءٍ بهذه الرواية، كتابة (كناوسغارد) الصريحة جدا –بشكلٍ مبالغٍ فيه- عن علاقاته بأقربائه، أبيه وأمه، إخوتِه، أعمامه، زوجته الثانية التي ساءت حالتها النفسية بعد نشر أول جزءٍ؛ ودخلتْ على إثر ما نُشر مصحةً نفسيةً؛ بالإضافةِ إلى محاولةِ بعضٍ من أعمامه وأبنائهم التدخل القانوني لمنع نشرِ هذه الأكاذيب على حدِّ وصفهم، مما دفعه بعدها لتغيير بعض الأسماء والتعديل والإزالة.
احتمالٌ كبيرٌ ألا يكونَ العنوانَ صادمًا للقارئ العربي، ولكنه على العكسِ تمامًا في أوروبا، لقد أثارَ هذا العنوانَ صخبًا شديدًا في الأوساط الثقافية وبين العامة، حتى أنَّ بعض القُرَّاء علّقَ في صفحةِ الكاتب على موقع GoodReads بأنه لن يقرأ الروايةَ أبدًا؛ بسببِ العنوانِ، مما دفعَ الكاتب لنشرِ مقالةٍ يقولُ في بدايتها: “ليسَ هناك فرصة لأن يصبحَ أي أحدٍ نازيًا من خلالِ قراءةِ الكتاب”. وفي رأينا أن العنوانَ -من خلال بعضِ المقاطع التي قرأناها من هذه الروايِةِ السيرية الضخمة، وبعض التقارير والمراجعات عنها- ما هو إلا انعكاسٌ وتعبيرٌ صادقٌ عن حياةِ كارل أوفه كناوسغارد المفتَّتة والمتشظية والمتناثرة، تعبيرٌ عن خساراته المريرة ابتداءً بعلاقته المأزومة مع أبيه، مرورًا بطلاقها من زوجته الأولى، وهجرته إلى السويد، تاركًا بلده الذي يعشقه، ومن ثمّ زواجه بصديقته الصحفية ليندا، والتي زادت من رتابةِ حياته برتابةِ حياتها، بالإضافةِ إلى أطفاله الثلاثة، ومحاولة تهيئةِ جَوٍّ مناسب لهم؛ ليكبروا في سلام، إنَّ جُلَّ ما يحلمُ به، هو أن يصنعَ شيئًا أفضلَ من حياته كما قال في أحد الصحفِ ذات مرة.
ولكن علينا أن نتساءل: هل أصبح كارل أوفه كناوسغارد مشهورًا بينَ ليلةٍ وضحاها، وهل كفاحي أول روايةٍ له؟
في الحقيقةِ، أنّ للكاتبِ روايتين سبقَتَا هذه الرواية المكوّنة من ستةِ أجزاءٍ، كانت روايته الأولى هي: (الخروج من العالم) المنشورة عام 1998، وتعتبرُ أول عملٍ أدبيّ لكارل أوف كونسجارد، وقد حازت هذه الرواية على إعجابِ الكثير من النقادِ آنئذٍ، بل وقد حصلتْ على جائزةِ النُقَّادِ النرويجيين، والمدهش في الأمر أنّ هذه الجائزة لا تُمنَحُ في العادةِ إلا لكاتبٍ له مشوارٌ حتى ولو كان قصيرًا في الأدب، ولكنها مُنِحَتْ لكونسجارد عن إصداره الأول، مما بَشرَّ وقتها بميلادِ كاتبٍ مهمٍ في النرويج وشمالِ أوروبا.
ثمَّ مرت السنوات سريعًا، ومع حلول عام 2004 نشرَ أوف روايته الثانية وهي: (وقتٌ لكلّ شيء) يعيدُ فيها روايةَ بعض أحداث وحكايات الكتابِ المقدس، ويتناول تحديدًا موضوع تاريخ الملائكة على الأرض: ” سألني فجأةً: هل تعلم أن طيورَ النورسِ كانت ملائكةً ذاتَ مرةٍ؟ (لا يأخذُ الولدُ هذا الادّعاء على محمل الجد؛ لطالما كذب أبوه كثيرًا، ولكنّ الجميل أن ما قاله الآن لم يكن لغرضِ المضايقة). الأبُّ يلتقطُ الطائرَ ويقلبه على ظهره ثمَّ يسألُ مرةً أخرى: هل تستطيع أن ترى؟ أجبته: ماذا؟! -اقتربْ مني وسوفَ ترى.. انحنيتُ للأمام ورأيتُ ما أدهشني، ذراعًا صغيرًا، أقصر من إصبعي، تحت جناحه مباشرةً!”.
ولقد حصَدَت رواية “وقت لكل شيء” العديد من الجوائز المرموقة، ورُشِّحَتْ لجائزة المجلس الأدبي للشمالِ الأوروبي، وهي جائزة مرموقة أُنشِأت في ستينيّات القرن العشرين وقيمتها 350000 كرونة دنماركية. إن ما عرضناه بشكلٍ مقتضبٍ وقصيرٍ عن تجربة كونسجارد الأدبيةِ المبكّرة، كان غرضُنا منه القول بأنّ روايته الأخيرة المجزأة على ستةِ كتبٍ لم تكنْ الأولى، ولكنها كانت أكثرهم وأكثر روايةٍ أوروبية نالت هذه الشُّهرة، لدرجِة أن بعض القراء والنُقَّاد يزعم أن كارل أوفه كناوسغارد خليفةَ هنريك إبسن!!
سبقَ وتحدثنا عن الإرهاصات والمقدمات الأولى التي دفعتْ الكاتب لكتابةِ هذه الرواية، التي بدأ التفكير فيها في أواخر عام2008، ولكن هل كان في خلَدِه أن تكونَ موزَّعة على ستةِ أجزاءٍ، أول ثلاثة أجزاء نُشِرَت بين عاميّ 2009 و2011، والثلاثة الأخرى بين عاميّ 2012 و2018؟ إنّ من الواضح لمتَتَبِّعِ أخبار هذا الروائي الذي شغل الناسَ في البلاد الاسكندنافية، أنه بعد أن انتهى من الجزئين الأول والثاني، اقترحَ عليه الناشر أن تجيء الرواية في اثني عشر كتابًا، بواقعِ كتاب في كلّ شهر على الأقل! لكنّ هذا المقترح لم ينجحْ بالطبعِ، ومن ثمّ قرر الناشر بموافقة الكاتبِ نشر الستةِ أجزاءٍ بين عام 2009 و2010 وهذا لم ينجحْ أيضًا لعدمِ مقدرةِ الكاتبِ على إنجاز هذه المهمة في هذا الوقتِ القصير.
هناك مؤامرةٌ كبيرةٌ جدًا يتحدثُ عنها المؤلف في طياتِ وصفحات كتابه، وهي التي دفعته لأن يختارَ الكتابةَ السيرية تحديدًا، مستخدمًا نفس الأسماء والأماكن، ألا وهي الحياة، المؤامرة الأخطر والأكبر، وأنه بكتابته عن نفسه وحياته بكل هذه المكاشفة والوضوح، كأنه يكتب عن كلِّ شخصٍ نرويجيّ، بل وعنا جميعًا؛إذ أن كلَّ واحدٍ منا لديه معاناته وآلامه وتقلباته النفسية الناتجة -عن نوائب وحوادث الأيام- لديه صراعه وكفاحه ونضاله؛ إن حديثه عن تمارينه الصباحية، بكاء أطفاله، وعلاقته بزوجته المضطربة، فنجان القهوة قبل الذهاب للعمل، الملل طوال النهار، الحلاقة، قراءة الكتب، التفكير في الأفكار العميقة –على حد تعبيره-، كتابة مقال، زيارة متحف، تنظيف الشقة والتسوقِ من دون شراء، دعوة الأم للغداء مرارًا وتكرارًا، إنّ كل هذه التفاصيل التي تعجّ بها الرواية، التفاصيل التي قسمت القُرَّاءَ قسمين، هناك من يرى أن هذا الإسهاب ليسَ له داع، والبعض الآخر يتحدثُ عن المتعة والخبرةِ الجمالية المستمدة من خلال النص، وأنا أرى، أنّ رواية كفاحي –من خلال قراءةِ ما تيسَّرَ من مقاطع ومُراجعاتٍ عنها- محاولةٌ جادةٌ تمامًا للتعبير عن هذا العقل الأوروبي والنرويجي المضطرب، الذي يحاولُ أن يفهمَ –أو أن يعيد فهم- حياته من خلال ماضيه وتفاصيله اليومية والتي يعتقدُ رغمَ تفاهتها أنها أساسُ حياتنا بل حياتنا مبنية عليها.
ربما كانَ هذا هو الهدف الحقيقي والمغزى من وراء كتابةِ روايةٍ كبيرة كهذه -من ستة أجزاء- تقع في أكثر من ثلاثة آلاف وستمائة صفحة -نُشِرَ آخرها في سبتمبر الماضي- وهذا ما وضَّحه وأشار إليه (كارل أوف كونسجارد) عندما تحدث لـ (جوشوا نروثمان) الصحفي بجريدة نيويوركر؛ عندما سأله عن الهدف وراء كتابةِ رواية بهذا الحجم، لقد صرّح أوف أنه لابدَّ من مكافحةِ كل أيديولوجية سُلطويّة تعملُ على قهر الإنسانِ، وجعله خائفًا طوالَ الوقت، سواءً كانت سلطة الأب أو المجتمع أو الحياة نفسها، وجاءَ على لسانه في أحد الحوارات الصحفية الأخرى: “لقد حاولت تحقيق هدفٍ واحدٍ فقط: ألا أجعلَ أطفالي خائفين مني، من والدهم. عندما أدخل غرفتهم، لا يتراجعون، ولا ينظرون إلى الأرض بخوفٍ، لا يندفعون بمجرد أن تسنحَ لهم الفرصة. إذا نظروا إليّ؛ لا تكون نظرتهم نظرةً كلها لامبالاة“.