فيلم “Fight Club”: نَقْد النزعة الاستهلاكية!
يُعتبر فيلم “نادي القتال”، “Fight Club” المأخوذ من الرواية التي صاغها (تشاك بالانيك)، والتي نُشرِت في عام 1996 وتحولت فيما بعد إلى فيلم عام 1999 من إخراج (ديفيد فينشر)، من الأعمال التي أثارت جدلًا واسعًا سواء من حيث الأفكار التي تسعى لتفكيكها، أو من حيث السرد الدرامي الذي تستخدمه لتتناول تلك الأفكار بطريقة سينمائية. يتطرَّق الفيلم إلى متاهات استكشاف الآخر الذي نحاول الهروب منه، أو الشخص الذي نتمنى أن نكونه باعتقادنا، حيث نصبح كمرآة تعكس صورة ذاتنا التي نرغب. يتمحوَر الفيلم حول إعادة تعريف الذُّكورة واستكشاف التغيُّرات التي أحدثَتْها الرأسمالية المعاصرة، وهيمنة الثقافة الاستهلاكية على المجتمع. كما يسعى “نادي القتال” إلى التعامل مع الملل والسطحية والفراغ الذي تفرضه الثقافة الاستهلاكية على حياتنا، من خلال محاولة الرجال بناء مجتمعٍ خاصٍّ بهم يعيدون فيه تفوَّقهم وشعورهم بالقوة والسيطرة مرة أخرى.
يهدف فيلم “Fight Club” إلى تَمظهُر العبودية في العمل، والقيود، والسطحية الاجتماعية المُتمثِّلة في طغيان ممارساتٍ غير رشيدة، ونَزْعة التملُّك داخل الثقافة الاستهلاكية، واستكشاف إمكانية خَلْق مجتمعٍ يمكن للرجال من خلاله استعادة رجولتهم وقوَّتهم. ويبدأ الفيلم بمشهدٍ داخليٍّ لدماغ الشخصية الرئيسية جاك، الذي يقوم بتجسيدها (إدوارد نورتون)، حيث يتم تتبُّع تدفُّق الأدرينالين الذي يندفع من فم جاك، ومن ثم يَخرج من فوَّهة مسدس. يقوم جاك بعدها بإرشاد الجمهور إلى حالته المأزومة ويحكي قصته، بما في ذلك علاقته المعقَّدة مع تايلر ديردن الذي يقوم بتجسيده (براد بيت)، حيث يعمل كشخصية بديلة لجاك.
*****
بشكلٍ أساسيٍّ ينتقد فيلم “Fight Club” الاستهلاك المعاصر، وكيف تؤثِّر ثقافة الشركات على الرجال في وظائفهم وأنماط حياتهم، ما يُعتبَر إهانةً لرجولتهم وتحدِّي لذكوريَّتهم الاجتماعية. حيث يَجدُ الرجال أنفسهم يلجؤون إلى مجتمعات الدعم الذاتي/المساعدة -التي يتم تصويرها كطقوس للتضحية- والتي تُظهِر أزمة الذكورة المعاصرة.
بعد إمعان النظر ومحاولة تحليل الطريقة التي تُنتقَد فيها الثقافة الاستهلاكية، يتَّضح أنه يَعرُض التمرُّد ضد الثقافة الاستهلاكية التي تؤثر في السلوك الاجتماعي الخاص بالرجال، وفي هويَّتهم، ومدى إحساسهم بفاعليَّتهم. بالتالي لم ينتقد “نادي القتال” علاقات الاستغلال واستراتيجيات السيطرة التي يتحقق النظام النيوليبرالي من خلالها. حيث يُعاني فيلم “نادي القتال” من الثغرات التالية في نَقْد النزعة الاستهلاكية:
أولًا: يصوِّر الفيلم الرأسمالية والاستهلاك كقوة غير قابلة للاختراق، ولا يُقدِّم سوى قليل من الفرص للمقاومة أو النضال. حيث لا يتم تناول كيف يستطيع الأفراد مجابهة القوة الرأسمالية ومنطق الاستهلاك، وتحويلها ضدها، ومن ثم تقديم فرص يومية للمقاومة والصمود والنضال. كما أنه لا يوجد مجال للمعرفة داخل “نادي القتال” الذي يمكن أن يُقدِّم روابطًا نَقْدية وفهمًا سياسيًا وأشكالًا مستنيرة للتغيير الاجتماعي.
ثانيًا: لا يعمل “نادي القتال” كنقد للرأسمالية، بل يكون دفاعًا عن الذكورية الاستبدادية المرتبطة بلذَّة المتعة التي تُحافظ عليها من خلال العنف والمعاملة التي تتَّسم بالقسوة. عندها يصبح “نادي القتال” متواطئًا مع نظام التسلُّط الذي ينتقده، حيث يعتمد كلاهما على فكرة الوكالة التي تم إنشاؤها ضمن لذَّة المتعة، وعبادة المنافسة الشرسة، والرغبة في الفوز وممارسة السلطة على الآخرين.
ثالثًا: يُعيد “نادي القتال” إحياء فكرة الحرية المرتبطة بالقوة والعنف والإحباط، وتصبح النجاة للأقوى هي الدعوة الواضحة لتبرير أشكال العنف اللاإنساني كمصدر للمتعة والشراكة الاجتماعية. وتكون المتعة في هذا السياق غير مرتبطة بالعدالة والمساواة والحرية، بقدر ما هي مرتبطة بأنماط المنافسة التي يتم إبرازها من خلال خيال العنف. حيث تعتمد رؤية “نادي القتال” للتحرر والعمل السياسي على التسلسل الهرَميِّ الجنسانيِّ والجندريِّ، الذي يَنبع مباشرة من ثقافة المستهلِك التي يدَّعي أنه ينتقدها. بالإضافة إلى ذلك، يدعى أنه نوع من الهروب من سجن الرأسمالية إلى الحرية، لكن تكمن المفارقة في أنه على الرغم من أن “نادي القتال” يحاول كسر القواعد المُقيِّدة التي تفرضها النيوليبرالية على الذكور، إلا أنه يخلق قواعد متطرِّفة تتَّسم باللامبالاة السلبية والتمرُّد الغير الهادف والاحتفال بالقُبْح، ف “نادي القتال” يُعيد استخدام نفس أدوات الاستغلال، ويقوم بتشكيل نظام بديل يسلبهم حريتهم وهويتهم مرة أخرى.
رابعًا: التماهي مع النيوليبرالية، فتفرِضُ النيوليبرالية على الأفراد أن يلتحقوا بوظائفها، ويلتزموا بقوانينها وأنظمتها وزيِّها الرسمي…، ونادي القتال مع محاولة تصويره بأنه مركز التحلُّل من تلك القيود، إلا أنه يتماهى معها، فأن تكون عنيفًا هو تَذْكرَتُك للالتحاق بنادي القتال، حتى أن نادي القتال قد فَرضَ زيًّا معينًا، فيمنع ارتداء القميص والحذاء، وأفراده من دون أسماء، وهذا نوع آخر من سَلْبِ هوية الأفراد وتقييد حريتهم، كما أنه نوع آخر من السجن الذي يدَّعي الحرية، فالتهرُّب من الأيديولوجيا الاستهلاكية التي كان جاك خاضعًا لها دفعته لاعتناق أيديولوجيا أخرى بقيود جديدة.
خامسًا: نَقْد النزعة الاستهلاكية المُقدَّم في جميع أنحاء الفيلم ليس في الحقيقة نقدًا جادًا للرأسمالية، بقدر ما هو نقد لتأنيث الرجال وتدجينهم في مجتمع مدفوع بعلاقات البيع والشراء. حيث يتم انتقاد النزعة الاستهلاكية لأنها مادة أنثوية بالدرجة الأولى.
*****
على عكس العديد من أفلام هوليوود الأخرى، التي تُصوِّر العنف بشكل سطحي وصوري، يَعتبر فيلم “نادي القتال” العنف وسيلة للتعرف على الذات وأداة تعليمية. بينما يُقدِّم الفيلم مشاهدًا فظيعةً للعنف والإصابات والدم، ويُقدِّم للجمهور سياقًا يحمل معاني وأفكارًا متصلةً بالذكورة وعلاقتها بالقضايا المهمة المتعلقة بالتحكم الذاتي والجنس والسياسة. يتعامل “نادي القتال” مع العنف على أنه رياضة، وهو جزء حاسم يسمح للرجال بالتواصل مع بعضهم البعض من خلال التغلب على الخوف والألم والإرهاق، بينما يستمتعون بتصورات الثقافة المبتذلة.
في المحصلة، يُمثِّل تايلر دردن نوعًا من “الذكورة المزيفة” التي تتمثل في إبراز نمط معين للذكورة تصبح في تجلِّيه جميع الأنماط الأخرى أقل رجولية، يرى هذا النمط أن الصفات الذكورية يجب أن تتَّسم بالعنف وانعدام المشاعر والهَوَس بالجنس، ووفقًا لتلك المعايير يتم تنحية الرجال الذين يفشلون في محاكاة تلك المواصفات باعتبارهم رجالًا زائفِين. ورغم أن شخصية تايلر كانت محاولة لكسر صورة معينة يفرضها المجتمع على الذكور، إلا أنه أصبح عند تأسيس نادي القتال هو الأيقونة الجديدة التي تُهدِّد صورة الذكور عن أنفسهم من جديد. أما عن سَعيهِ للتخلص من قيود النيوليبرالية والثقافة الاستهلاكية، فتحوَّل تايلر لنسخة تُغذِّيها الرؤى الشمولية مُنكَّهة بأيديولوجية “افعلها فحسب” (Just Do It).